غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: تجلس أم أحمد العطار، سيدة خمسينية، أمام ما تبقى من منزلها في بيت لاهيا، وقد نصبت خيمة على الأنقاض. لا تستطيع التعبير عن الصدمة، التي انتابتها، عند العودة، كونها «صدمة لا توصف»، حسب تعبيرها، فلم يعد هناك منزل يحتويها، ولا أي غرض معيشي يساعدها على الحياة.

لكنها رغم ذلك ترفض المغادرة.

تقول بحزن لـ«عُمان»: «نصبت خيمة أمام بيتي، إلى أين أذهب؟ لم يبق لي مكان آخر، حالتي النفسية لم تعد تحتمل النزوح أكثر».

تفقدت ما تبقى من ذكرياتها بين الركام، إلا أن الألم الأعظم كان حين لم تجد قبر ابنتها التي استشهدت خلال حرب السابع من أكتوبر.

تشير إلى المساحة التي دفنتها فيها، وتضيف بصوت مختنق: «دفنتها هنا، لكنني لم أجد القبر عند عودتي، كأن كل شيء قد مُحي تمامًا».

تواصل حديثها مؤكدة أن حياتها لم تعد كما كانت، فزوجها اعتُقل خلال الحرب وتم نقله إلى أحد السجون الإسرائيلية، لتجد نفسها اليوم وحيدة مع بناتها وسط هذا الدمار.

أنقاض لا تصلح للحياة

وسط الركام، تحاول سعاد المصري، سيدة أربعينية، أن تستعيد جزءًا من حياتها السابقة. تروي كيف اضطرت إلى مغادرة بيت لاهيا مع عائلتها إلى رفح بحثًا عن الأمان، لكن العودة كانت أكثر إيلامًا مما تخيلت.

تقول لـ«عُمان»: «ما وجدناه لم يكن منزلًا، بل أكوامًا من الحجارة، نصبنا خيمة جواره، فلا يوجد لنا مكان آخر».

تحاول مع جيرانها البحث عن أي مورد يمكنهم استخدامه للبقاء، فالمياه شحيحة والكهرباء غائبة تمامًا، فيما لا تزال أبسط الاحتياجات غير متوفرة.

تضيف: «الدمار طال كل شيء، حتى الأرض لم تعد كما كانت، وكأن بيت لاهيا محيت من الوجود». مشددة على أن العيش في هذه الظروف القاسية يمثل معركة يومية من أجل البقاء.

بين الإصرار واليأس

يحاول محمود العطار، شاب في الثلاثينات من عمره، إزالة الركام من أمام منزله، لكنه يدرك أن المهمة تفوق قدراته. يشير إلى الحطام المكدس حوله، ويقول: «ليس هناك متسع للحركة، الركام يملأ كل الطرقات والمنازل، لكننا سنواصل العمل».

يرى في رفع الحجارة أول خطوة نحو إعادة بناء حياته، رغم إدراكه أن الأمر قد يستغرق سنوات.

يضيف لـ«عُمان»: «حتى لو احتاج الأمر مليون سنة، لن نغادر. سنبني من جديد، لأن هذه أرضنا ولن نتخلى عنها مهما حدث». رغم صعوبة الوضع، يحرص على مساعدة جيرانه في إزالة ما يستطيعون من الدمار، في محاولة لإعادة الحياة إلى البلدة المنكوبة.

العودة إلى زمن غابر

يبحث أبو خالد السلطان، رجل خمسيني، عن أي مصدر للمياه، في ظل توقف جميع الشبكات بسبب القصف. يشير إلى أحد الآبار القديمة التي يحاول تشغيلها.

يقول لـ«عُمان»: «رجعنا للزمن القديم، لا مياه ولا كهرباء، نحاول تشغيل الآبار البدائية لنحصل على القليل مما يمكننا العيش عليه».

يشرح كيف تحولت الحياة في بيت لاهيا إلى معاناة يومية، حيث لا توجد أي مقومات أساسية للعيش. يؤكد أن الوضع لا يطاق، فحتى الطعام أصبح نادرًا، والمساعدات لا تصل بالقدر الكافي. يلخص معاناته قائلًا: «المدينة كلها مدمرة، لم يبق شيء صالحًا للحياة، لكننا هنا، وسنبقى هنا».

البحث عن أمل بين الركام

يحاول أحمد غبن، شاب في العشرينات، أن يجد بين الأنقاض أي غرض معيشي، سواء ملابس، أو أدوات منزلية، أو أي شيء، يعينه على الحياة. يشير إلى منزله المدمر.

ويقول لـ«عُمان»: «كل شيء ضاع، حتى أبسط الاحتياجات لم تعد موجودة، نحاول استخراج ما يمكننا الاستفادة منه، أي أمل بين الركام».

يشدد على أن حجم الدمار يفوق التوقعات، فحتى البنية التحتية انهارت بالكامل. يضيف: «لم يسلم شيء، المستشفيات، المدارس، شبكات المياه والكهرباء، وحتى الطرق، وكأننا عدنا مئات السنين إلى الوراء».

ويصف يومياته بأنها صراع مستمر مع الدمار، إذ يتحتم عليه السير لعدة كيلومترات لإيجاد مستشفى أو مركز طبي لمساعدة المرضى والمصابين.

مدينة تتوارث المقاومة

بيت لاهيا ليست مجرد بلدة زراعية مثمرة، بل تاريخ طويل من الأحداث والصراعات. مر عليها الرومان والفرس والمسلمون، وسكنها العرب الكنعانيون، واحتلها الإسرائيليون عام 1948، قبل أن تصبح جزءًا من قطاع غزة في 2005. تتميز بأراضيها الخصبة، ومشروع الخياطة الذي كان أحد أكبر مصادر الدخل لسكانها.

لكن قربها من المناطق الحدودية جعلها في مرمى نيران الاحتلال على الدوام، حيث تعرضت لموجات متكررة من القصف والتجريف، خاصة بسبب دعم سكانها للمقاومة. اليوم، باتت المدينة أشبه بأطلال، لكن سكانها مصرون على البقاء رغم الخراب.

بيت لاهيا.. مدينة منكوبة

يؤكد علاء العطار، رئيس بلدية بيت لاهيا، أن المدينة أصبحت منكوبة بالكامل، وأن إعادة الحياة إليها تتطلب جهودًا ضخمة. يوضح: «95% من مباني المدينة دمرت بالكامل، وأكثر من 80% من آبار المياه الرئيسية خرجت عن الخدمة».

يضيف لـ«عُمان» أن الاحتلال لم يكتف بتدمير المنازل، بل استهدف البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك قطاعي المياه والصرف الصحي. يشير إلى أن 60% من المضخات الرئيسية تعطلت، ما أدى إلى أزمة مياه خانقة.

يتحدث عن قطاع الزراعة، الذي كان يمثل مصدر رزق لكثير من السكان، مؤكدًا أن الاحتلال تعمد تدمير الآبار الزراعية وتجريف الحقول.

يقول بأسف: «بيت لاهيا كانت السلة الغذائية الأولى لغزة، لكن الآن لم يعد هناك أي إنتاج زراعي، وكل شيء دُمر».

أما على صعيد الخدمات الصحية، فيشير إلى أن مستشفى كمال عدوان دُمر بالكامل، فيما لحقت أضرار جزئية بمستشفى العودة. يختتم حديثه بالقول: «الاحتلال تعمد القضاء على كل مقومات الحياة، لكننا مصرون على إصلاحها، رغم قلة الإمكانات».

الدمار ليس النهاية

رغم الخراب الذي يحيط بكل زاوية، يرفض أهالي بيت لاهيا أن يكون الدمار هو النهاية. في كل شارع مهدم، وفي كل منزل تحول إلى ركام، هناك قصة صمود تحكى، وإرادة تُجدّد. لا شيء في المدينة يوحي بالحياة كما كانت، فالمياه شحيحة، والكهرباء غائبة، والطرقات غير صالحة حتى للمشي، لكن وسط هذه الفوضى، يتجلى تصميم لا مثيل له على البقاء.

يستيقظ السكان كل يوم ليجدوا أمامهم مشهدًا يوحي بنهاية العالم، ومع ذلك، فإنهم لا يختارون الرحيل، بل يبحثون بين الحجارة عن بداية جديدة. النساء اللواتي فقدن أبناءهن ما زلن يخبزن الخبز على النار المشتعلة بالحطب، الرجال الذين فقدوا منازلهم يعملون على نصب خيام بسيطة لتحمي عائلاتهم من البرد، والشباب الذين رأوا أحلامهم تنهار تحت القصف يزيلون الركام، حجرًا بعد حجر، بأيديهم العارية.

بيت لاهيا، التي كانت يومًا جنة خضراء، باتت الآن مدينة من الرماد، لكن من بين هذا الرماد، ترتفع أصوات الحياة. ورغم انعدام الإمكانات، فإن الأهالي يراهنون على قدرتهم على إعادة إعمار ما تهدم، ولو بأدوات بدائية.

لا أحد ينتظر معجزة، ولا أحد يعوّل على المساعدات وحدها، بل يعتمدون على عزيمتهم وإيمانهم بأن هذه الأرض لهم، ولن يتركوا فيها فراغًا يسكنه الدمار.

في بيت لاهيا، لا يوجد وقت للبكاء طويلاً، فالحياة رغم كل شيء يجب أن تستمر. قد تمر سنوات قبل أن تعود المدينة كما كانت، وقد تتغير ملامحها إلى الأبد، لكنها ستظل رمزًا للصمود، ودرسًا في الإصرار، وعنوانًا لشعب لا يعرف الاستسلام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بیت لاهیا کما کانت یشیر إلى لـ ع مان کل شیء لم تعد

إقرأ أيضاً:

غزة.. حرب الإبادة تُخلّف 60 مليون طن من الركام و80 % من السكان فقدوا منازلهم

 

 

الثورة  / متابعات

أفاد المدير التنفيذي لشبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في غزة، أمجد الشوا، بأن 80% من سكان قطاع غزة فقدوا منازلهم، فيما تشير التقديرات إلى أن حرب الإبادة خلفت نحو 60 مليون طن من الركام.

وأوضح الشوا، أن نحو مليون ونصف المليون فلسطيني فقدوا منازلهم على مدار عامين من عمر حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على القطاع.

وذكر في تصريحات لـ”العربي الجديد” أنّ التقديرات تشير إلى وجود 60 مليون طن من الركام في قطاع غزة المدمر.

وبيّن أن ما بين 300 إلى 400 ألف نازح فلسطيني تمكّنوا من العودة إلى مناطقهم في غزة وشمالها، رغم الظروف شديدة الصعوبة، حيث فَقَد معظمهم منازلهم وممتلكاتهم

وأشار إلى أن تدفق النازحين سيزداد، في حال إدخال مستلزمات الإيواء وتنفيذ المرحلة الثانية من انسحاب جيش الاحتلال من مناطق رفح، وشرق خان يونس، والشجاعية، وشمال القطاع.

وشدد المدير التنفيذي لشبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في غزة على أنّ إعادة إعمار القطاع ستتطلب وقتاً طويلاً جداً، مبينا أنّ الأولوية الآن لعمليات الإغاثة العاجلة والاستجابة الإنسانية لاحتياجات السكان الناتجة عن الدمار الكبير، بما في ذلك انتشال جثامين الشهداء، والعثور على المفقودين، وتوفير مأوى للملايين.

ولفت الشوا إلى أنّ الجهود تتركز حالياً على تأهيل القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم والمياه، إضافةً إلى توفير المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات الأساسية للإيواء من بطانيات وفُرش وملابس.

وتحدث عن مساعٍ لعقد مؤتمر للمانحين في مصر، بهدف إعادة إعمار قطاع غزة، استناداً إلى خطة أعدّتها القاهرة بالتعاون مع السلطة الفلسطينية وعدد من الجهات العربية، وجرت الموافقة عليها من قبل العديد من دول العالم.

وأكد الشوا، أن “المساعدات الإنسانية تمثل ركيزة أساسية في مواجهة المجاعة التي شهدها القطاع”، مشدداً على ضرورة ضمان تدفقها المستمر والمتنوّع ضمن سلسلة غذائية متكاملة، إلى جانب إعادة تأهيل المنظومة الصحية والإنسانية في أسرع وقت ممكن.

وأشار إلى أن آلاف النازحين لم يتمكنوا بعد من العودة إلى مناطقهم، وأن المرحلة الحالية تتطلب دعماً عاجلاً وفورياً من جميع الأطراف العربية والدولية، خصوصاً على الصعيدين المالي والإغاثي.

كما دعا الشوا إلى ضرورة الإسراع بإجلاء أكثر من 17 ألف مريض وجريح يحتاجون إلى جهود إنقاذ فورية.

ودخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ظهر الجمعة الماضي، بعد أن أقرت حكومة الاحتلال الاتفاق فجراً.

ويستند الاتفاق إلى خطة طرحها الرئيس الأييركي دونالد ترامب تقوم على وقف الحرب، وانسحاب متدرج لجيش الاحتلال، وإطلاق متبادل للأسرى، ودخول فوري للمساعدات إلى القطاع.

مقالات مشابهة

  • وزير الإنتاج الحربي: نعمل على النهوض بالصناعة الوطنية ومساندة الاقتصاد القومي
  • الكويت.. فيديو امرأة تحاول فتح باب سيارة يشعل تفاعلا والداخلية تعلق
  • 70 مليار دولار لانتشال غزة من تحت الركام
  • بلدية غزة تشرع في إزالة الركام وفتح الطرقات
  • اتفاق غزة.. نافذة أمل وسط الركام وتحديات تثبيت السلام
  • متحدث بلدية غزة: نواجه تحديات جسيمة في التعامل مع الركام الناتج عن الدمار
  • بلدية غزة: نواجه تحديات جسيمة في التعامل مع كميات الركام الناتج عن الدمار
  • بلدية غزة: المدينة تواجه تحديات جسيمة بسبب الركام الناتج عن الدمار
  • بلدية غزة: 90% من شوارع المدينة مدمّرة و50 مليون طن من الركام تعيق الإعمار
  • غزة.. حرب الإبادة تُخلّف 60 مليون طن من الركام و80 % من السكان فقدوا منازلهم