من النادر أن يمر تصريح مسؤول كبير مرور الكرام حين يكون صريحا، ومباشرا، وخارجا عن المألوف. وعندما قال معالي عبد السلام المرشدي، رئيس جهاز الاستثمار العماني، هناك بعض الوظائف لا أرضاها للعمانيين، لم يكن مجرد تصريح رسمي آخر، بل كان تعبيرا عن قناعة راسخة وفكر واضح المعالم.
لقد جرت العادة أن يكون الخطاب الرسمي متوازنا، ومدروس العبارات، فلا يصدم أحدا، ولا يفتح باب التأويلات.
وهذا ليس تقليلا من أي عمل، أو انتقاصا ممن يشغلون وظائف متواضعة، فقد أكد معاليه ذلك، رغم أن سياق حديثه كان واضحا حتى دون تأكيد. كما أن الرسالة لم تكن أن العماني يجب أن يرفض العمل حتى يحصل على أعلى وظيفة، فكل عمل، أيا كان، هو محطة على طريق النضج، والتجربة، واكتساب المهارات، والانفتاح على آفاق جديدة.
ولكنه كان حديثا عن مسؤولية أكبر: مسؤولية أجهزة الدولة، بمختلف قطاعاتها، في تمكين العمانيين من الوصول إلى الوظائف التي تليق بإمكاناتهم، والتي تتطلب كفاءة وخبرة عالية، كي يصبحوا جزءا فاعلا من اقتصاد متطور قادر على المنافسة عالميا.
الفرص التي لا تزال تنتظرنا
لطالما أدركنا أن سلطنة عمان ليست مجرد دولة نفطية، بل هي بلد يمتلك من الثروات والموارد ما يؤهلها لتكون مركزا اقتصاديا أكثر تنوعا واستدامة. فإلى جانب النفط والغاز، هناك المعادن، والموقع الاستراتيجي الذي يجعل البلد محطة لوجستية طبيعية بين الشرق والغرب، والبحار التي تزخر بثروات سمكية هائلة، ناهيك عن إمكاناتها السياحية والتجارية.
وبالفعل، بذلت الدولة، بقيادة حكيمة، جهودا كبيرة في الاستفادة من هذه الإمكانات، وبنت منظومة استثمارية متكاملة، وعملت على تطوير الموانئ والمناطق الحرة، ووضعت استراتيجيات لتعزيز القيمة المحلية المضافة. لكننا جميعا ندرك أن الطموح لا ينبغي أن يتوقف، وأن الطريق لا يزال طويلا للوصول إلى اقتصاد قادر على خلق فرص عمل نوعية تتناسب مع إمكانيات العمانيين.
وهذا هو جوهر ما أشار إليه التصريح أن مسؤولية أجهزة الدولة لا تقتصر على إيجاد وظائف، بل على صناعة بيئة عمل تسمح للمواطن بأن يجد لنفسه مكانا في المهن والقطاعات التي ترفع من شأن الاقتصاد الوطني، وتجعله أكثر تنافسية واستدامة.
الإصلاح الذي يكمل هذه الرؤية
من المؤكد أن تحقيق هذه الأهداف ليس مسؤولية جهاز استثماري واحد، ولا حتى الحكومة وحدها، بل هو جهد جماعي، يشمل الجميع من مؤسسات الدولة إلى القطاع الخاص، والمجتمع بأسره.
لكن هناك مفتاحا أساسيا لا يمكن تجاهله: التعليم.
فلا يمكن أن نبني اقتصادا معرفيا متطورا بينما نظامنا التعليمي لا يزال يركز على التلقين أكثر من التفكير النقدي، وعلى الشهادة أكثر من المهارات، وعلى الكم أكثر من النوع. لقد خطت الحكومة خطوات مهمة في تطوير التعليم، وإدخال التخصصات الحديثة، وربط المناهج بمتطلبات السوق، لكننا جميعا نعلم أن التحدي الأكبر لا يزال في ضمان جودة التعليم المدرسي قبل الجامعي، بحيث يصل الطالب إلى الجامعة وهو مجهز بالفعل ليكون جزءا من اقتصاد المستقبل.
بين الطموح والواقع
إن الطموح وحده لا يكفي، ولا يمكن أن تحل الأحلام محل السياسات العملية. ولكن في المقابل، لا يمكن لأي سياسة أن تنجح ما لم تكن هناك رؤية طموحة تقودها.
واليوم، عندما نسمع مسؤولا كبيرا يتحدث بهذه الصراحة عن نوعية الوظائف التي يستحقها العماني، فإننا لا نأخذ الأمر على أنه مجرد تصريح، بل كإشارة إلى أن هناك وعيا متزايدا بأن القادم يجب أن يكون مختلفا.
لقد قطعت الدولة شوطا طويلا في بناء اقتصاد مستدام، والاستثمار في البنية الأساسية، وإطلاق المبادرات الداعمة لريادة الأعمال، ولكن المرحلة القادمة تتطلب قفزة نوعية في التفكير، حيث يكون التعليم والتأهيل والتوظيف جزءا من استراتيجية شاملة، لا تركز فقط على العدد، بل على القيمة المضافة لكل وظيفة ولكل موظف.
الخلاصة: هل نحن مستعدون لهذا التحدي؟
قد يكون هذا التصريح لحظة فارقة، ولكن الفارق الحقيقي لا تصنعه الكلمات، بل الأفعال.
نحن أمام فرصة ذهبية لتعزيز نهج جديد في التفكير الاقتصادي، نهج لا يكتفي بتوفير الوظائف، بل يخلق بيئة عمل تجعل العماني قادرا على المنافسة في أعلى المستويات.
ولكن لتحقيق ذلك، لا بد من استمرار الجهود التي تبذلها أجهزة الدولة، ودعمها بسياسات أكثر جرأة، وشراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتحديث مستمر للمنظومة التعليمية، بحيث لا يكون النجاح مجرد استثناء، بل هو القاعدة.
إنها مسؤولية الجميع، وإن كان هناك شيء إيجابي يمكن استخلاصه من هذا التصريح، فهو أنه يضع أمامنا تحديا لا يمكن تجاهله: هل نملك الجرأة للمضي قدما في هذا الطريق؟
الإجابة ليست عند مسؤول واحد، بل عندنا جميعا.
سليمان بن سنان الغيثي كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا یمکن
إقرأ أيضاً:
عبدالعزيز الحلو في وجه الطاحونة التي لا ترحم
عندما تمرد عبدالعزيز الحلو عقب انفصال الجنوب كان المؤتمر الوطني هو الحزب الحاكم وكان تمرده بالنسبة للجيش تمردا سياسيا في ظل وجود حكومة وحزب حاكم يقع على عاتقهما بشكل كامل التعامل مع هذا التمرد وحله بوصفه إشكال سياسي.
الجيش لم يتصور المعركة حينها كمعركة ضد الدولة وإنما كمعركة ضد النظام، حتى قيل حينها إن بعض العساكر كانوا يسمون حرب جنوب كردفان ب “حرب عمر البشير”.
ففي ظل وجود نظام سياسي هو نظام المؤتمر الوطني كانت الحرب تفهم كحرب ضد النظام بشكل صريح أو ضمني حتى بالنسبة للأجهزة النظامية وكذلك بالنسبة للشعب.
وتجمدت حرب جبال النوبة على هذا الأساس بعد اتفاق وقف إطلاق نار استمر تقريبا لعشرة سنوات.
ولكن بعد تحالفه مع الجنجويد في حربهم ضد الدولة والشعب وضع تمرده في سياق آخر مختلف كليا. الجيش الآن والقوات النظامية والمستنفرين يقاتلون حركة الحلو بدوافع جديدة، لم يعد الحلو متمردا على نظام المؤتمر الوطني، ولكنه يحارب الدولة والشعب في حرب يراها الشعب كحرب عدوان خارجي صريح ضد الدولة.
الحلو أراد أن يركب موجة حرب 15 أبريل ولكنه بذلك جر على نفسه وعلى قواته غضبة الطاحونة التي لا ترحم وستطحنه مع الجنجويد الذين هم أشد منه بأسا وأكثر قوة وعتادا وعددا وسيطروا على العاصمة وولايات مساحتها أضعاف منطقة كادوا فتمت هزيمتم وطردهم وتجري ملاحقتهم الآن في كردفان ودارفور. مساحة المنطقة التي يسيطر عليها الحلو هي شيء لا يذكر بالنسبة للحرب التي يخوضها الجيش وكذلك قواته وعددها وتسليحها هي لا شيء بالمقارنة مع المعارك الكبيرة التي خاضها الجيش وانتصر فيها كلها.
عبدالعزيز الحلو “دبور زن على خراب عشه”
حليم غباس