لطالما كان للنجوم حضور قوي في الثقافة العربية، ولا تزال الكثير منها تحمل أسماء عربية حتى اليوم، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، وارتبط العرب بالنجوم بشكل وثيق، فأطلقوا عليها أسماء ووصفوها بدقة، ولم يقتصر تأثيرها على علم الفلك وحسب، بل امتد أيضًا إلى الشعر والأدب، حيث تغنّى بها الشعراء وحيكت حولها الأساطير، مستخدمين إياها لرسم صور خيالية تربط بين النجوم وتوضح مواقعها في السماء ضمن حكايات وقصص مشوقة.
والنجم الذي نتحدث عنه اليوم هو نجم الهقعة، وهو أحد نجوم كوكبة الجبّار، ويقع هذا النجم بين النجمين الشهيرين منكب الجوزاء والمرزم، ويتميز بلونه الأزرق الأبيض نتيجة ارتفاع درجة حرارته، في التراث العربي القديم، كان نجم الهقعة واحدًا من منازل القمر، وهي تقسيمات فلكية استخدمها العرب لتحديد الفصول والمواسم الزراعية، وعندهم أن نوء الهقعة يبدأ في 3 من يوليو ويستمر لمدة 13 يومًا، ويُعتبر النوء الخامس من أنواء فصل الصيف، خلال هذه الفترة، تشتد درجات الحرارة وتكثر العواصف الترابية، مما جعل العرب قديمًا يعتمدون عليه في تنظيم أنشطتهم الزراعية، مثل تحديد مواعيد الزراعة والحصاد، ومعنى الهقعة في المعاجم العربية هي دائرة ينبت فيها الشعر في وسط الفرس وهي مكروهة.
وقد بينت الدراسات الحديثة أن نجم الهقعة يُعد من النجوم الضخمة، حيث تبلغ كتلته حوالي 28 ضعف كتلة الشمس، بينما يصل نصف قطره إلى 10 أضعاف نصف قطر الشمس، كما يتمتع بحرارة سطحية مرتفعة تصل إلى 37,689 كلفن، مما يجعله من النجوم الساخنة واللامعة، يبعد الهقعة عن الأرض حوالي 1100 سنة ضوئية، مما يجعله مرئيًا بوضوح في سماء الليل.
أما عن أوقات ظهوره، فيُعد الهقعة جزءًا من كوكبة الجبّار، التي تظهر بشكل واضح خلال فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي، يمكن رؤية الكوكبة بما في ذلك نجم الهقعة، بوضوح خلال الفترة من نوفمبر إلى فبراير، وتصل إلى أوج وضوحها في ديسمبر ويناير، وفي عُمان والمنطقة العربية، تُرصد كوكبة الجبّار في السماء الجنوبية الشرقية بعد غروب الشمس، وتتحرك تدريجيًا نحو الجنوب الغربي خلال الليل.
وقد ورد هذا النجم في كتب التراث العربي، وفي أشعارهم، فقد أوردت كتب الأخبار أن عبدالله بن عباس قال لرجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء: «يكفيك منها هقعة الجوزاء» يريد أنها تبين منك بعدد كواكب الهقعة وهي ثلاثة، وورد في كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبى إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليّات جاء فيها ذكر الهقعة جاء فيها: «... والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدّة امتداد الرّمح، مقوّمة تقويم القدح، غير مشعّثة الأطراف، ولا معقّدة الأعطاف ولا مسوسة الأجواف، تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها.
وكانت هذه النجوم حاضرة كذلك في أشعارهم فقد ذكره القاضي التنوخي الذي عاش في العصر العباسي في مقصورته فقال:
كأنّما الهقعة رأس جواد أو أثافٍ
وسط ربعٍ قد عفا
كأنّما الهنعة لمّا طلعت
مقلة صبٍّ لم تبن من البكا
وهذا الشاعر الأندلسي حازم القرطاجني يقول في أحد قصائده ويضمنها ذكر هذا النجم بقوله:
كأَنَّ نجومَ الهقعة الزهرَ هودج
لها عن ذرى الحَرْف المُناخَةِ قد حُطَّا
كما أن الشاعر الأندلسي ابن زنباع الطنجي ذكرها في قصيدته التي يقول فيها:
وما تمتري في الهقعة العين أنها
على عاتق الجوزاء قرط مفضض
سل الحرب عنه والسيوفُ جداول
تدفق والأرماحُ رقط تنضنض
وهذا الشاعر هبة اللَّه بْن بدرك الصوفي يرثي أبا القاسم الكرجي بقصيدة منها قوله:
كانت فتاواهما فِي طرزها خلل
يزين ألفاظها فِي الرقم معناها
قد كان نال منا لا من جلالته
ما يرتقي هقعة الجوزاء أعلاها
وقد نظم الشيخ إبراهيم الدهشوريّ الشهير بالسهرورديّ أرجوزة، ذكر فيها الهقعة فقال فيها:
وهقعة شولتها منهزمه
وصرفة بفرغها مقدمه
وهنعة منها النّعائم نفرت
بعوّة بالفرغ قد تأخّرت
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بنان نايف يماني.. شغفٌ يلامس النجوم
محمد باحارث
لطالما كان الفضاء رمزاً للحلم والطموح، وشغفاً يأخذنا إلى أبعد من حدود الأرض. أجد نفسي أحياناً أعود بذاكرتي إلى طفولتي، حين زرتُ مركز ناسا في الولايات المتحدة برفقة والدي. كان ذلك اليوم نقطة التحول التي أوقدت داخلي شعلة حب الفضاء. أدركت حينها أن هذا الكون الفسيح يحمل بين طياته أسراراً عميقة تنتظر من يكتشفها. ومنحني الأمير سلطان بن سلمان، بأول خطوة سعودية على سطح الفضاء، الإلهام لأحلم بأن أكون جزءاً من هذه الرحلة العظيمة. كان هو أول من فتح لنا الباب لنرى ما هو ممكن، وكان بمثابة النجم الذي أضاء الطريق أمامنا.
اليوم، حين أقرأ عن مسيرة بنان نايف يماني، أرى في قصتها انعكاساً لذلك الحلم، لكن بصيغة أكثر شجاعة وإصراراً. قررت بنان أن تترك كل شيء خلفها وتسافر لتتعلم وتتدرب، مكرسة حياتها لهذا الهدف السامي. ألهمها حب الفضاء وشغفها بالمعرفة لأن تصبح واحدة من تلك الشخصيات التي تدفع البشرية نحو الأمام، التي تضع بصمتها في السعي لفهم الكون.
التحقت بنان بدورة تدريبية في international institute of astronautical science بمدينة ملبورن بفلوريدا، حيث اجتازت تدريبات مكثفة لم تكن سهلة. تعلمت تقنيات الطيران الفضائي، ومحاكاة المهمات شبه المدارية، وتدريبات الجاذبية الصغرى، والتعامل مع بدلات الفضاء، والملاحة السماوية، والتواصل العلمي، وأكثر من ذلك. كل خطوة في رحلتها كانت بمثابة حجر أساس يبني الحلم الذي بدأت رؤيته تتشكل بوضوح.
بالإضافة إلى تدريبها الفضائي، تستكمل بنان دراستها في جامعة زيورخ، حيث تجرّب البحث العلمي في مجالات الفيزياء وعلم الكونيات. إنها مثال للروح الطموحة التي لا تتوقف عند حدود، بل تسعى بلا كلل لجعل الحلم حقيقة.
بالنسبة لوكالة الفضاء السعودية، أرشح لهم بنان. فهي الشابة التي تحمل شغفاً حقيقياً بالفضاء، مدعومةً بحماس ورغبة في التعلم جعلتها تتحدى الصعاب وتسافر إلى المجهول. أؤمن بأنها قادرة على تحقيق ما لم نستطع تحقيقه، وأنها ستصبح رمزاً يُحتذى به. شغفها، وتفانيها، وإصرارها، كل ذلك يؤهلها لتكون سفيرة مميزة لوطنها في الفضاء.
إنني أهنئ بنان على شجاعتها، وأثق بأن مستقبلها سيكون مليئاً بالإنجازات. قصتها ليست مجرد رحلة شخصية نحو النجوم؛ إنها رسالة لنا جميعاً أن الحلم، مهما كان بعيداً، يمكن تحقيقه بالإصرار والعزيمة. بنان نايف يماني، أنتِ الأمل الذي يعبر بنا إلى فضاءٍ جديد، ونحن جميعاً ننتظر بفخر اليوم الذي تقفين فيه على عتبة التاريخ، لتكتبي فصلاً جديداً من الإلهام والإبداع.