لجريدة عمان:
2025-05-07@13:13:10 GMT

الآخَـر «في ذاتـه»

تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT

اقترنت صورةُ الآخَر (الأوروبيّ) في الوعي العربيّ المعاصر بالقوّة المادّيـة المسلَّحة التي أَبْـداها ذلك الآخَـر، في المجتمعات العربيّة المَغْـزُوّة، بما هو مستعمِـر. ومع أنّ تلك القوّة العارية أَنْجبت - في الشّروط التي جرت فيها - حالاً غالبةً من الخنوع الاضطراريّ والقهريّ (الممزوج، أحياناً، ببعض الإعجاب)، إلاّ أنّ هذه الحال السّائدة لم تمْنع من نُمُـوٍّ مطَّـرِدٍ لسيكولوجيا جماعيّة رافضة لفعل الاحتلال والقهر الاستعماريّين، ممانِعةً - في الوقت عينِه - لمفعول الشّعور العامّ بالخوف من بطش الغالب.

من الطّبيعيّ، في مثل هذه الحال من اشتغالِ جدليّة السّيطرة/الخضوع في المستعمرات، أن تكون صورة الآخَـر (الأوروبيّ)، في وعيِ العربيِّ، ناقصةً أو غير مكتملة أو، للـدّقّـة، وحيدة الجانب بحيث لا يبدو فيها سوى وجهه الكريه؛ ذلك أنّ الآخَـر هذا لم يكن قد قدّم نفسه، إبّانئـذٍ، إلاّ بوصفه غازياً يجثم على صدر المجتمع الموطوءة أرضُه. هي، إذن، الصّورة التي رسمتْها في المتخيّـل الجمْعيّ ظرفيّةُ الاحتلال وسياساتُ الأخير تجاه الأهالي الذين ما تعرّفوا من هذا الأجنبيّ الوافـد على ديارهم سوى على قوّته النّاريّة وبطش عساكره وموظّفي إدارته الاستعماريّة.

ستختلف ملامح صورة الآخَر، كثيراً، كلّما ابتعدنا عن الميدان المباشر لاشتغال تلك الجدليّة (جدليّة السّيطرة/الخضوع): المستعمَرات؛ أي كلّما كان فضاء الصِّلة بالآخَر (الأوروبيّ) هو مجتمعه بالذّات. هنا - في عـقر داره - يختلف أمرُه؛ حيث إنفاذُهُ أحكامَ نموذجه المجتمعيّ والحضاريّ على نفسه وبني جلدته مختلفٌ، أشدّ الاختلاف، عمّا يأتيه من أفعال تجاه غيره في المستعمَرات! ولكنّ الذين كان بمُكْـنهم أن يتعرّفوا ذلك الآخَر في دياره - قبل قرنين - كانوا قُلاًّ معدودين أكثرهم من القناصل والسّفراء وكبار التّـجّار وأُولى البِعْـثات التّعليميّة، أو من الذين ساقهم فضولُ الاِطّـلاع على عالم المدنيّة الجديدة إلى السّفر إلى بلدان أوروبا وتدوين رحْلاتهم في نصوصٍ تحوَّل بعضُها القليل إلى وثائق أدبيّة- تاريخيّة تشهد بنوع التّمثُّـلات التي تكوّنت لأصحابها حين اتّصالهم بهذا العالم الجديد: عالم الآخَـر الأوروبيّ.

ومع أنّ إيقاع الاتِّصال تَسَارع واتَّسع نطاقُه أكثر منذ ما بين الحربين، مقارنةً بما كان عليه منذ عشرينيّات القرن التّاسع عشر؛ وذلك نتيجة تدفُّق موجات المهاجرين العرب على بلدان أوروبا بحثاً عن العمل، أو قصد استكمال الدّراسة...، إلاّ أنّ الصّور التي تكـوّنت عن ذلك الآخَـر في عقر داره لم تشهد على تغييرٍ يُذْكَـر عمّا كانت عليه في عهود الاتّصال الأولى (القرن 19)؛ إذْ ظلّ من ثوابتها وعيُه بما هو مثالٌ لقيم العِلم والتّـقدُّم والعـدل والإنتاج والحريّـة والمساواة، لا للقـوّة والبطش كما هو يبدو خارج موطنه. والحقّ أنّ الكثير من هذه الصّور، التي تعدّلتْ بها تمثُّـلات العربيّ للآخَـر، يتردّدُ التّعبير عنها في عشرات نصوص الرّحلة التي كتبها أدباء عرب كثر، بين نهاية عشرينيّات القرن التّاسع عشر وبداية الحرب العالميّة الأولى (ومنها، من باب التّمثيل فقط نصوص رفاعة رافع الطّهطاويّ، وفارس الشّدياق، ومحمّد الصّـفّار، وجرجي زيدان...). ومع أنّ أدب الرّحلة عريق في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة نصطدم به وبنظْراته المقارِنة في نصوص عدّة كتلك التي وضعها المسعوديّ والبيرونيّ وابن بطّوطة... إلخ، إلاّ أنّ لها وضعيّةً اعتباريّـةً خاصّة، في نطاق الثّقافة العربيّة الحديثة، تَـرُدُّ إلى الظّرفيّة التّاريخيّة التي كُتِبَت فيها، والتي تختلف عمّا قبلها من أزمنة.

إذا كان الكتّاب العرب القدامى قد دشّـنوا أدب الرّحْلة وانْهَـمُّوا بآخَرهم، الذي اكتشفوه في موطنه، من غير تهويلٍ منه ولا تنقيصٍ من الذّات، فلأنّهم كتبوا ما كتبوه أَيَّانَ كان العرب في موقع تفـوُّقٍ، مغمورين بشعور الثّـقة بالقدرة على صناعة التّاريخ. وما كانت تلك حالُهم حين تَجَـدَّد عندهم تقليدُ أدب الرّحلة في مطالع القرن التّاسع عشر، بل لقد أتى عليها (= حالهم) من ضروب السّوء ما زعزع الثّـقةَ بالذّات، وأَوْقـد في النّفس نار الشّعور بالانكسار والهزيمة الحضاريّة والخروج من التّاريخ. كانت مدنيّتُهم الموروثة - وقد شرعت في الانحلال منذ زمن - قد بدأت تَدْمُـر تحـت سنابك خيل الغزاة الأوروبيّين، منذ انطلقت حملة نابليون على مِـصْـرَ في الهزيع الأخير من القرن الثّامن عشر؛ وكان نظامُهم المرجعيّ في الفكر والاجتماع والقيم يتآكل ويتداعى تحت وطأة زحفِ المدنيّة الأوروبيّة المحمولِ على ركاب الغزوة الكولونياليّة الشّاملة، فيما ديارُهم تُستباح من جيوشٍ جرّارة لا قِـبَـلَ لهم بكسْر شوكتها أو كـفّ غائلتها!

كان كلّ شيء قـد تغيّر، إذن، حين استُعيد تقليدُ الرّحلة واعتُـمِدَ تدويناً لمشاهَـداتِ عالَـمِ الآخَـر الجديد. لذلك، حين ذهب مَن ذهب من الكُـتّاب إلى الدّيار الأوروبيّة، ودوّن رحلته ومشاهداته فيها، كان الشَّـدْهُ والدّهشة من المرئيِّ والمُعَايَن الغالبَيْن على مادّة نصوص الرّحلة؛ بل كان الشّعور الجارف بالانبهار والإعجاب ممّا يتعصّى على الحَجْب والإخفاء. حتّى الذين جرّبوا من كتّاب الرّحلة أن يأخذوا لأنفسهم مسافةً من ذلك الشّعور بالانبهار، فيتحدّثوا عن مشاهداتهم بلسانٍ نقديّ، أو بمفردات تنتصر للنّموذج الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ، في مواجهة النّموذج الأوروبيّ، كانوا أشبه بمن يمارسون فِعْـلَ مُكابَـرةٍ، في ما يقولونه، أو أشبهَ بمن يخوضون قتالاً تراجعيّاً من مواقعَ دفاعيّة غير حصينة أو هي تكاد أن تكون في حُكْم الآيلة إلى سقوط!

على أنّ التّمثّلات التي تكوّنت عن الآخَـر (الأوروبيّ) في الثّقافة العربيّة، من موقع الشّعور بالانكسار والهزيمة، لم تكن من جنسٍ واحد دائماً، بل الغالبُ عليها أنّها تولّدت من شعورين متناقضين استبدّا بالمثقّـفين العرب وأَفْضَيَـا إلى توزيعهم على معسكريْن متقابلين؛ عنينا شعور الانبهار وشعور الإنكار، وعلى إيقاع تَقابُلهما كان تَقابُل المعسكريْن الثّقافيّين ذيناك: معسكر المُنْبَهِرة من المثقّـفين من الذين استبطنوا الانكسار وحوّلوه إلى شعور نفسيّ ملازِم، وسلّموا بالقطيعة التّاريخيّة بين الأزمنة - والمدنيّة - الحديثة ونظيرتها السّابقة؛ ومعسكر المُنكِـرة منهم من الذين تعاموا عن التّحـوُّل المَهُول واعتبروه عارضاً ومؤقّـتاً، وشدّدوا على الاستمراريّة التّاريخيّة. في ضوء هذا الانقسام على حدود وعي الآخَـر، سيتولّد انقسام موازٍ في النّظر إلى الأنا؛ إذ بمقدار ما كانتِ الأنا - وهي تكوِّن تلك الصُّور عن الآخَـر- تحاول وعيَ ذلك الآخَـر وتحديد سلوكها تجاهه، كانت - في الوقت عينِه - تتعرّف إلى نفسها كَ أنـاً في مرآة ذلك الآخَـر الذي يقابلها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العربی ة ما کان الآخ ر ة التی

إقرأ أيضاً:

المساعدات الإنسانية في غزة بين الهوان العربي والهولوكوست الصهيوني

على بعد أمتار من غزة تتكدس الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية لأهل غزة والتي وصلت صفوفها عشرات الكيلومترات، وهي مساعدات جاءت من جهات شتى أملا في دخولها لغزة التي حرمت من دخول قطرة ماء أو حبة غذاء منذ أكثر من شهرين ونصف، وما زال المصير لما تحمله تلك الشاحنات غامضا؛ هل سينتهي الأمر بدخولها واستفادة أهل غزة مما بها، أم يذهب ما تحمله تلك الشاحنات إلى عالم المتلفات بفسادها لعدم القدرة على إدخالها.

يأتي هذا وأهل غزة يواجهون الموت إما من خلال النابالم بالهولوكوست الصهيوني، وإما من خلال الجوع، حتى وصل عدد الأطفال الذين ماتوا فقط جوعا أكثر من ستين طفلا خلال الأيام القليلة الماضية، وحتى أن الأمم المتحدة نفسها شكت من أن مخازنها في غزة لم يعد فيها أي غذاء، كما أنه نتيجة حتمية للحصار وقلة الزاد زادت الأسعار بأكثر من 400 في المئة، ولم يعد في مقدرة عموم الناس الحصول على كسرة خبز، في حين أن إخوانهم من العرب والمسلمين أصابتهم التخمة من كثرة الشبع، وحتى ضميرهم لم يتحرك لمد يد العون إلى أهالي غزة، ورفع الحصار عنهم، ووقف الموت السريع والبطيء لهم، وإن أرادوا لفعلوا،نتنياهو وعصابته يعيشون المتناقضات؛ ما بين حرب ضروس وإجرام بلا حدود وقتل بلا هوادة، وما بين توفير لقيمات لأهل غزة لن يقمن أصلابهم ولن تصلهم بصورة تلائم احتياجاتهم، في ظل القصف المستمر وتوسيع دائرة العدوان والحرب ولكنه الهوان العربي بل والإسلامي الذي أخرس الجميع وجعلهم يصمتون صمت القبور أمام الإجرام الصهيوني الذي أعلن رئيس وزراء كيانه بنيامين نتنياهو أنه سيزيد من توسيع الحرب على غزة، وهو في الوقت نفسه يتجه إلى توفير سعرات حرارية لأهل غزة لا تسمن ولا تغني من جوع.

فوفقا لما نشرته صحيفة تايم أوف إسرائيل فإن إسرائيل تعتزم تغيير طريقة توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة بشكل جذري عندما تبدأ السماح بدخول المساعدات مجددا خلال الأسابيع المقبلة، بعد تجميد دام قرابة شهرين ونصف، وتقضي الخطة بالابتعاد عن نموذج التوزيع بالجملة والتخزين المركزي، واللجوء بدلا من ذلك إلى قيام منظمات دولية ومتعاقدين أمنيين خاصين بتسليم صناديق غذاء مباشرة إلى العائلات في غزة، وسيحتوي كل صندوق على كمية من الغذاء تكفي عدة أيام، إلى أن يُسمح لممثل العائلة بالعودة مجددا لتسلُّم حزمة جديدة، حيث تعتقد إسرائيل أن هذه الآلية ستُصعّب على حماس الاستيلاء على المساعدات لصالح مقاتليها. ولن يشارك الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر في عملية التوزيع، في ظل اعتراض رئيس الأركان الفريق إيال زمير؛ لكن الجنود سيتولون تأمين الحماية الخارجية للمتعاقدين الخاصين والمنظمات الدولية المكلفين بتوزيع المساعدات.

وهكذا فإن بنيامين نتنياهو وعصابته يعيشون المتناقضات؛ ما بين حرب ضروس وإجرام بلا حدود وقتل بلا هوادة، وما بين توفير لقيمات لأهل غزة لن يقمن أصلابهم ولن تصلهم بصورة تلائم احتياجاتهم، في ظل القصف المستمر وتوسيع دائرة العدوان والحرب، وكون أهل غزة الجائعين أهدافا مكشوفة للعدو الصهيوني، وهؤلاء الصهاينة الذين استخدموا استراتيجية التجويع والحصار للضغط على حماس للعودة إلى صفقة الرهائن التي أفسدتها أيدي الصهاينة يعرفون جيدا أن حماس يكفي مقاتليها الذين يزودن عن عرض الأمة وكرامتها وأرضها المقدسة بضع تمرات وماء.

المسؤولية التاريخية تتطلب من الدول العربية والإسلامية -وفي مقدمتها مصر- حكاما وشعوبا وقف لجام هذه الحرب، وفك الحصار عن أهل غزة، والمسارعة في إعادة تعميرها، ولا أقل للشعوب من الضغط على حكامها
إن الوضع الجائر والحصار الخانق لأهل غزة دعا بأحرار من العالم لاتخاذ سفينة لرفع هذا الحصار، ولكن العدوان الصهيوني لم يترك لها مجالا لتحقيق أغراضها، فقد أفاد تحالف أسطول الحرية أن سفينة له تابعة لحملة كسر الحصار عن غزة تعرضت لهجوم إسرائيلي بطائرتين مسيّرتين قرب مالطا، وقد أدى ذلك إلى اندلاع حريق في أحد أجزائها مع عدم وقوع إصابات بين الناشطين المشاركين في الرحلة وعددهم 30 ناشطا دوليا.

كما أن هذا الوضع الخانق دعا التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات في غزة إلى مطالبة كل أحرار العالم بالحشد والمشاركة في فتح المعابر، ووجه نداء خاصا لمصر رئيسا وحكومة وشعبا، مشيرا للدور التاريخي لمصر ومسؤوليتها التاريخية. ولكن هل من مستجيب، خاصة وأن مصر هي الدولة التي بها هذه المعابر مباشرة، وهي من أوقفت الحرب على غزة وألجمت العدوان الصهيوني من قبل إبان فترة رئاسة الدكتور محمد مرسي؟

إن المسؤولية التاريخية تتطلب من الدول العربية والإسلامية -وفي مقدمتها مصر- حكاما وشعوبا وقف لجام هذه الحرب، وفك الحصار عن أهل غزة، والمسارعة في إعادة تعميرها، ولا أقل للشعوب من الضغط على حكامها لا سيما الذين باعوا ضمائرهم وتحالفوا أو تآمروا مع الكيان الصهيوني، وجعلوا بقعة دولهم وممالكهم الضيقة مقدمة على مفهوم الأمة الإسلامية وأرضها المقدسة، فلا نامت أعين الجبناء والمتخاذلين والمتآمرين!

x.com/drdawaba

مقالات مشابهة

  • طهران: تغيير اسم الخليج من الفارسي إلى العربي يعد إهانة للإيرانيين
  • مصر ترحّب بجهود سلطنة عُمان التي أفضت إلى اتفاق وقف إطلاق النار في اليمن
  • المساعدات الإنسانية في غزة بين الهوان العربي والهولوكوست الصهيوني
  • ترامب يعتزم اعتماد تسمية الخليج العربي بشكل رسمي في أمريكا
  • تعرف على حجم الخسائر الهائلة التي لحقت بمطار صنعاء الدولي
  • العربي الأوروبي لحقوق الإنسان يُعرب عن قلقه إزاء مقاطع «الدرسي»
  • سفيرة الاتحاد الأوروبي: زوجي مصري.. وأم الدنيا مركز للإبداع بالوطن العربي
  • انخفاض طلبات لجوء السوريين لدى الاتحاد الأوروبي لأدنى مستوى
  • الاتحاد الأوروبي يُعقّب على خطة إسرائيل "للسيطرة" على غزة"
  • عدل 3: نمط عمراني جديد ومكيّف حسب خصوصيات كل منطقة