أطروحة نقدية حول كتاب "مهارب المبدعين" للنور حمد
الهروب كظاهرة ثقافية وسياسية
يُعتبر كتاب "مهارب المبدعين" للنور حمد عملاً نقدياً بارزاً في سياق الفكر السوداني المعاصر، حيث يتناول ظاهرة الهروب التي اتسم بها المبدعون والمثقفون السودانيون كرد فعل على القيود الاجتماعية والسياسية التي فرضتها البيئة الثقافية السودانية.

الكتاب ليس مجرد سرد لتجارب فردية، بل هو تحليل عميق لجذور هذه الظاهرة وتأثيراتها على الإنتاج الثقافي والفكري في السودان.
يطرح النور حمد فكرة أن الهروب لم يكن مجرد فعل جسدي، بل كان أيضاً هروباً نفسياً وفكرياً، حيث لجأ المبدعون إلى ملاذات مختلفة، سواء كانت الهجرة إلى الخارج، أو الانسحاب إلى فضاءات ثقافية بديلة داخل المجتمع السوداني نفسه. هذه الظاهرة، كما يرى المؤلف، لم تكن مجرد استجابة فردية، بل كانت نتاجاً لبنية اجتماعية وسياسية قمعية، حالت دون تفاعل المبدعين مع قضايا مجتمعهم بشكل فاعل.
المحاور الرئيسية في الكتاب
القمع السياسي والاجتماعي كعامل رئيسي في الهروب
يشير النور حمد إلى أن القمع الفكري والسياسي الذي مارسته الدولة والمجتمع السوداني كان أحد الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة الهروب. فمنذ الاستقلال، ظل السودان محكوماً بأيديولوجيات منغلقة، سواء كانت دينية أو عسكرية أو قبلية، مما جعل الفضاء العام غير قادر على احتضان التنوع الفكري والإبداعي.
نتيجة لذلك، اتجه العديد من المثقفين والمبدعين إلى الهجرة للخارج، أو إلى الانسحاب داخل مجتمعاتهم في جيوب صغيرة منعزلة، مثل النوادي الأدبية والمقاهي الثقافية، التي أصبحت ملاذات لهم بعيداً عن القيود المفروضة.
المدينة السودانية كفضاء طارد للمبدعين
يناقش الكتاب كيف أن المدن السودانية الحديثة، وخصوصاً الخرطوم، لم توفر بيئة خصبة للإبداع، بل كانت خاضعة للرقابة الاجتماعية والدينية، مما جعلها غير مرحبة بالتجارب الإبداعية الجريئة.
يقارن المؤلف بين الريف والمدينة، موضحاً كيف أن بعض الشعراء، مثل محمد سعيد العباسي، لجأوا إلى البادية بحثاً عن الحرية بعيداً عن قيود المدينة. من ناحية أخرى، وجد بعض المبدعين ملاذهم في المقاهي والمجتمعات الثقافية الصغيرة داخل المدن، لكنها ظلت هامشية وغير مؤثرة في التغيير المجتمعي الكبير.
أثر الهروب على الإنتاج الثقافي والفكري
يرى النور حمد أن ظاهرة الهروب لم تؤدِ إلى نهضة إبداعية، بل إلى حالة من الانفصال بين المبدعين والمجتمع. كثير من المبدعين السودانيين لم يستطيعوا تشكيل تيارات فكرية أو ثقافية مؤثرة، لأنهم إما تماهوا مع السلطة أو دخلوا في حالة انسحاب واغتراب نفسي وفكري.
يعقد المؤلف مقارنة بين السودان ودول أخرى مثل الهند وإثيوبيا، حيث تمكنت هذه الدول من خلق حركة ثقافية مبدعة رغم التحديات السياسية والاجتماعية، بينما فشل السودان في ذلك.
تحليل الكتاب في ضوء الفكر السوداني المعاصر
العلاقة بين "مهارب المبدعين" و"العقل الرعوي"
يمكن اعتبار كتاب "مهارب المبدعين" امتداداً لأطروحة "العقل الرعوي" للنور حمد، حيث يرى أن السودان محكوم بعقلية تقليدية محافظة تمنع التحولات الفكرية والثقافية الجذرية.
في كتاب "العقل الرعوي"، يناقش كيف أن البنية الاجتماعية السودانية تعتمد على قيم القبلية والطائفية، بينما في "مهارب المبدعين"، يناقش كيف أن هذه البنية أفرزت واقعاً خانقاً أدى إلى هروب المبدعين بدلاً من مقاومتهم لهذه العقلية.
نقد المثقف السوداني ودوره في تكريس الأزمة
لا يعفي النور حمد المثقفين السودانيين من المسؤولية، حيث يرى أن كثيراً منهم استسلموا للهروب بدلًا من مواجهة المشكلات البنيوية في المجتمع.
هذا النقد يتقاطع مع أطروحة عبدالله علي إبراهيم حول "تحالف الهاربين"، حيث يرى أن هناك تحالفًا ضمنيًا بين القوى المحافظة والمثقفين الذين اختاروا العزلة بدلًا من المواجهة.
المقارنة مع كتاب "مهارب المثقفين"
بينما يناقش "مهارب المبدعين" دور الشعراء والكتاب والفنانين في التهرب من مواجهة الأزمات الاجتماعية والسياسية، فإن كتاب "مهارب المثقفين" يركز أكثر على دور المثقفين في التماهي مع السلطة بدلًا من معارضتها.
في "مهارب المثقفين"، يؤكد النور أن العديد من المثقفين السودانيين، بدلاً من تقديم رؤية نقدية للمجتمع، انشغلوا بالتبرير الأيديولوجي، مما جعلهم جزءًا من الأزمة بدلًا من أن يكونوا جزءًا من الحل.
نقد الكتاب
هل كان الهروب خيارًا أم نتيجة؟
يمكن المجادلة بأن الهروب لم يكن دائمًا خيارًا للمبدعين، بل كان أحيانًا نتيجة للقمع السياسي والاجتماعي.
العديد من المبدعين الذين هاجروا أو انسحبوا لم يجدوا بدائل حقيقية داخل السودان، وبالتالي كان خيار الهروب أمرًا مفروضًا وليس ترفًا فكريًا.
غياب الحلول العملية
رغم أن الكتاب يقدم تحليلًا دقيقًا لمشكلة هروب المبدعين، إلا أنه لا يقدم حلولًا واضحة لكيفية تجاوز هذه الأزمة.
كيف يمكن إعادة دمج المبدعين في المجتمع؟ وكيف يمكن خلق بيئة ثقافية حاضنة للإبداع بدلًا من أن تكون طاردة له؟ هذه الأسئلة لم تجد إجابة واضحة في الكتاب.
التركيز على الجانب الفردي أكثر من البنيوي
الكتاب يركز على تجارب فردية للمبدعين السودانيين، لكنه لم يناقش بشكل كافٍ البنى المؤسسية والسياسية التي عززت هذه الظاهرة.
كان من الممكن أن يكون التحليل أكثر عمقًا لو تمت دراسة دور التعليم والإعلام والسياسات الثقافية في تكريس هذا الواقع.
أهمية الكتاب في فهم أزمة المثقف السوداني
يعد "مهارب المبدعين" إضافة مهمة للنقد الثقافي السوداني، حيث يقدم رؤية تحليلية لأسباب ضعف التأثير الإبداعي للمثقفين السودانيين.
و يعكس الكتاب رؤية النور حمد النقدية التي تتقاطع مع كتاباته الأخرى حول العقل الرعوي وتأثيره على البنية الثقافية والسياسية في السودان.
رغم بعض النواقص في تقديم الحلول العملية، فإن الكتاب يظل مرجعًا هامًا لفهم كيف فشل السودان في استثمار طاقاته الإبداعية، مما يطرح تساؤلات هامة حول مستقبل الثقافة السودانية.

zuhair.osman@aol.com
///////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: العقل الرعوی النور حمد بدل ا من کیف أن بل کان

إقرأ أيضاً:

المبدعون والذكاء الاصطناعي تحديات وعيوب.. ندوة باتحاد الكتاب

عقدت لجنة الأدب الرقمي والذكاء الاصطناعي برئاسة د. جميل عبد المجيد، ندوتها الشهرية باتحاد كتاب مصر، تحت عنوان "المبدعون والذكاء الاصطناعي".
تحدث في الندوة التي أقيمت تحت رعاية الدكتور علاء عبد الهادي رئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر والأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، كل من الشاعر والإعلامي د. جمال الشاعر، بحضور الشاعر والإعلامي السيد حسن نائب رئيس النقابة العامة، وأعضاء اللجنة أ. السيد الهادي نائب رئيس اللجنة، ود. عصام محمود، ود. رشا الشهابي، إضافة إلى مشاركة كوكبة من الأدباء والشعراء والإعلاميين، قدمها د. جميل عبدالمجيد. 
بداية تحدث د. جميل عبد المجيد، عن مشوار الإعلامي جمال الشاعر، المهني والإبداعي، واللذين حققا شهرة واسعة، ففي المجال الإعلامي كانت برامجه: صباح الخير يا مصر، والجائزة الكبرى، وغيرهما من البرامج الجماهيرية الناجحة، ثم انتقل د. جميل للحديث عن تأسيس الشاعر  لقناة النيل الثقافية ورئاسته لها، وعن مساهماته الفاعلة من خلال منصبه كنائب لرئيس التليفزيون المصري الأسبق، كما تحدث عن انتقال الشاعر من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الحديث، مثنيا على براعته في الجمع بين تقديم المحتوى القيمي  الهادف مع التواصل الجماهيري الجيد، وهو أمر  ليس سهلا ويحتاج لإعلامي يمتلك مواصفات خاصة. 
استهل د. جمال الشاعر كلمته متحدثا عن أهمية العلم والعمل والبناء والعمران، وكيف أن المؤمن مأمور باكتساب العلم والعمل، وذكر أننا كعرب نعد في لحظة وجودية، تتطلب منا الاستعداد الكامل لما يدبر لنا، منتقلا للحديث عن غزة، وصمود المقاومة.
ثم تناول الشاعر الحديث عن الحروب الحديثة، والمقصود بها الحروب الرقمية التكنولوجية التي تستوجب منا المعرفة الكاملة بكيف تدار تلك الحروب عبر المنصات الإلكترونية، عارجا على الحديث عن كتاب "المتلاعبون بالعقول" ، وعن تخصص إسرائيل في الأمن السيبراني، واستحواذ اليهود على منصات العالم، مؤكدا  أننا كعرب أمام مصير خطير وعلينا إما أن نتجدد ونعي ما يدور حولنا في العالم، وإما الفناء.
كما تحدث عن موارد مصر وثرواتها الطبيعية، متسائلا هل نحسن استغلال مواردنا بصورة سليمة؟! 
ثم تحدث عن خطورة استغراقنا في استهلاك التكنولوجيا للدرجة التي حولتنا إلى مستعمرات رقمية، وذكر أننا لا نتابع بشكل جيد حركة الانفجار المعرفي الآن، وأكد ضرورة إعادة صياغة العقل العربي، ومعرفة Ai وغيره من الوسائل المعرفية، وأهمية عمل بنية تكنولوجية صناعية معرفية، والدراية الكاملة بالاقتصاد الأبيض أو اقتصاد المعرفة.
وعن الفارق بين الصناعات الثقافية والصناعات التقليدية أوضح الشاعر أن الصناعات الثقافية قائمة على الفكر والإبداع والابتكار، وتساءل هل فكرنا في حدود Ai، مؤكدا أننا أمام واقع جديد، وأن موضوع الرقمنة لم يعد اختيارا، وأن التقدم مذهل ولابد من مواكبته، مؤكدا أننا يمكن أن نستفيد من هذا التطور الرقمي لو أحسنا استخدامه، وأقمنا العديد من الورش والتطبيقات العملية.
واختتم د.جمال الشاعر حديثه مؤكدا أن الروح الإنسانية ستظل تضفي بحيويتها على العملية الإبداعية مهما حدث من تطور رقمي وتكنولوجي. 
فيما أكد الشاعر والإعلامي السيد حسن في كلمته أن جمال الشاعر حالة بالغة الخصوصية في الإعلام المصري؛ فهو كمذيع وشاعر لابد وأن يصادق المشاهد والقارئ، وكان لديه قدرة على الإدهاش ببساطة وسلاسة، وأن حالته المتفردة تلك تذكره بيحيى حقي في أنشودة البساطة، ثم عقب على قصيدة قرأها الشاعر أمام جمهور الندوة بأنه يحدثنا عمن نعرف وما نعرف بطريقة جديدة مدهشة، وأنه يهتم بشكل واضح بالمواكبة والمعاصرة، وأشاد بثقافة الشاعر وحضوره اللافت مما جعل منه نجما إعلاميا.
ثم استطرد السيد حسن متحدثا عن موقفنا من الذكاء الاصطناعي، والوسائل التكنولوجية الحديثة، وتذكر كلمات د. أحمد مستجير في أحد حواراته معه بأن ما ينقصنا هو الإرادة وليس القدرة، وأنه ليس لدينا إيمان صادق بقيمة البحث العلمي، وأنه على الدولة أن تؤمن بأهمية البحث العلمي، وأنه ليس ترفا؛ لأنه وسيلتنا الحقيقية للتقدم، وتحدث عن فكرة القيمة المضافة، وأهمية التمسك بالجذور ، وطالب حسن بأهمية عودة القصيدة المغناة، وإنتاج الدراما الجيدة، وتقديم برامج للأطفال بلغة سلسة بسيطة.
واختتم حديثه بقوله: دعونا نؤمن بالقدرة حتى نستطيع المواجهة. 
وبفتح باب المداخلات، تحدث الإعلامي د. أحمد يوسف مؤكدا أنه أول مذيع في الوطن العربي تحدث عن المذيع الافتراضي، متنبئا بظهور المذيع الافتراضي، وتحدث عن تجربته في تأسيس إعلام المستقبل والإعلام العلمي، مؤكدا أننا لا نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي بل نحن في نظام عالمي جديد، يتطلب منا وعيا كبيرا بخطورة ما يدور حولنا، كما حذر من خطر تعمق مصر في العولمة، وذكر أن لروسيا والصين مشاريعهما وأهدافهما الخاص ، متناولا القطبية الإعلامية الجديدة في العالم، مؤكدا أن الذكاء الاصطناعي مرتبط بعلوم أخرى، وأنه لابد من الاستثمار في العلم.
ثم توالت المداخلات والاستفسارات حول توطين الصناعة وعلاقة الذكاء الاصطناعي بالفن التشكيلي، وأهمية العودة للتراث ليكون المرجعية.
وفي ختام اللقاء قدم د. جميل عبد المجيد شهادة تقدير باسم النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر تكريما للدكتور جمال الشاعر.

مقالات مشابهة

  • افتتاح منفذ بيع لهيئة الكتاب بمكتبة مصر العامة في أسوان
  • أكدت أن القمع لن يرهب الأحرار.. "القوى المدنية" تدعو لفتح تحقيق في وقائع الاعتداء على المتظاهرين بعدن
  • الكاتبة السويسرية دوروتيه إلمجر تفوز بجائزة الكتاب الألماني
  • برنامج ثقافي متنوع لهيئة الكتاب بمعرض الأقصر الرابع
  • المبدعون والذكاء الاصطناعي تحديات وعيوب.. ندوة باتحاد الكتاب
  • الهروب من الحرب إلى المجهول.. آلاف اليمنيين يفرّون من جحيم الحوثي.. المليشيا تُشعل أكبر مأساة إنسانية في اليمن
  • كتاب الحياة يُخالف الجغرافيا والتاريخ!
  • لوسي سميث: سوق كان الدولية للتلفزيون "ميب كوم" تحتضن اقتصاد المبدعين 
  • بعد شكاوى نقص الكتاب المدرسي… «تعليم الدبيبة» تحمل اللوجستيات والوقود المسؤولية
  • شكاوى من نقص في الكتاب المدرسي ودعوات لتوفيره