رغم مضي أكثر من 60 يومًا على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الاحتلال وحركة حماس، ما يزال أحمد قشطة يقبع في خيمته الهشة بمواصي خان يونس، بعدما اقتلعته آلة الحرب الإسرائيلية من منزله في رفح قبل نحو 10 أشهر. يحدّق في الأفق الملبد بالغبار، حيث كانت تقف جدران بيته في حي تل السلطان، فلا يرى سوى الفراغ، وكأن الزمن توقف عند لحظة الانفجار الأخير.
صباح اليوم، في شهد صادم، شوهدت عائلات كاملة، أطفال ونساء وشيوخ، تسير نحو خانيونس مشيًا على الأقدام، هربًا من جحيم القصف. بعضهم كان يحمل أطفالًا على الأكتاف، وآخرون لم يستطيعوا حمل شيء من ممتلكاتهم، فتركوا خلفهم كل ما يملكون في محاولة يائسة للنجاة بأرواحهم
وحذرت المديرية العامة للدفاع المدني في قطاع غزة، من خطر كبير يهدد حياة أكثر من 50,000 مواطن في منطقة البركسات غرب محافظة رفح، بعد محاصرتهم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتحت وطأة القصف والاستهداف الإسرائيلي المكثف، نزح مئات المواطنين مجددًا من حي السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة، قاطعين مسافات طويلة سيرًا على الأقدام.
وأفادت مصادر محلية بأن طائرات الاحتلال ألقت في ساعة مبكّرة من صباح اليوم، منشورات تطالب سكان منطقة حيّ السلّطان غرب رفح بالنزوح من أماكنهم؛ بذريعة أنّها «منطقة قتال خطيرة». جاء ذلك تزامنًا مع تكثيف القصف المدفعي والغارات الجوية على المنطقة منذ فجر اليوم، بالإضافة لاستهداف الفلسطينيين أثناء نزوحهم.
وتحت إطلاق الرصاص والقنابل. وفي الحر الشديد، والصيام بدون سحور، ولعدة كيلو مترات كان النزوح الإجباري من رفح، إذ أجبر الاحتلال المواطنين على الخروج من تل السلطان غرب مدينة رفح عبر الحواجز العسكرية التي يقيمها.
يقول المواطن الفلسطيني بصوت مشبع بالأسى: «الوضع هنا كارثي. لا نستطيع العودة، ولا نستطيع البقاء. لا ماء يروي عطشنا، لا صرف صحي، لا شيء سوى الخيام المهترئة والسماء التي تمطر بردًا وألمًا. الركام يحيط بنا كأنه شاهد قبر عملاق، والأرض بالكاد تتسع لنا».
لم يكن الألم مقتصرًا على فقدان المنزل، فقد فَقَدَ المواطن قشطة خمسة من أبنائه تحت القصف، ويمسح دموعًا لا تجف وهو يروي مأساته لـ«عُمان»: «ثمانية أشهر من القصف المتواصل حولت رفح إلى مدينة منكوبة. لا مشافٍ، لا ماء، لا كهرباء، ولا حتى غطاء يحمي أجسادنا من البرد القارس. نحن نعيش بين الأنقاض، نحارب للبقاء، والليل يحمل معه نواح الأطفال الجوعى وصوت الرياح التي تصفع خيامنا المتداعية».
يشير المواطن الستيني، إلى ركام منزله الذي كان في حي تل السلطان، ويقول تنزف وجعًا: «بيتي كان ملاذنا، 15 فردًا كنا نلتف حول المائدة ذات يوم، أما اليوم، فقد تشردوا بين المخيمات. لا أدري أين هم، ولا أدري إن كنا سنعود يومًا إلى رفح أم ستظل مدينتنا ذكرى موؤودة تحت أنقاض الحرب».. فرغم اتفاق وقف إطلاق النار، لا يزال الجيش الإسرائيلي يمنع عودته، كما هو حال آلاف الأسر التي باتت مشردة بلا أمل في العودة القريبة.
البقاء في رفح: تحدٍ يومي وسط الاستهداف والدمار
رغم وقف إطلاق النار، لم يتوقف الاحتلال عن مهاجمة السكان الذين يحاولون العودة إلى منازلهم أو تفقد ممتلكاتهم. قتل وأصاب الجيش الإسرائيلي العشرات أثناء محاولتهم العودة، وحتى من وجدوا منازلهم قائمة لم يتمكنوا من العودة إليها بسبب المخاطر المستمرة من الاستهداف، وانعدام مقومات الحياة الأساسية.
محمود القاضي، مسن سبعيني، يتحدث بعينين غارقتين في الحزن: «ما زال أكثر من نصف مساحة مدينة رفح تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، الذي لا يزال يمارس سياسة التدمير والنسف. عُدنا من المواصي وقعدنا هنا، لم نجد منازلنا. هذه داري قسمها جيش الاحتلال نصفين وأقام شارعًا في منتصفها. حتى جدرانها المهدمة ما زالت تحمل آثار قذائفهم».
يرفع صوته قليلًا، وكأنما يريد أن يصل صوته إلى العالم: «جيش الاحتلال، رغم وقف إطلاق النار، ما زال يطلق علينا الرصاص الحي. بالأمس كانت الطلقات تمر فوق رؤوسنا ونحن نحاول جلب بعض الماء. لا يوجد أكل ولا شرب، أهل الخير يأتون كل فترة ويوزعون على كل أسرة حزمة خبز بالكاد تكفي طفلًا».
ويتابع لـ«عُمان»: «الوضع صعب جدًا، وسيارات المياه التابعة للبلدية لا تأتي إلا كل ثلاثة أيام، وحين تأتي، يضطر الأطفال لحمل الدلاء والسير لمسافات طويلة لجلب الماء».
أما مهند عبدالعال، وهو مسن ستيني من حي الفرقان شمال غرب رفح، فيقف وسط الركام، مشيرًا إلى ما كان يومًا شارعًا حيويًا: «العديد من أهالي الحي تركوه لعدة أسباب؛ الخوف من الاحتلال، انعدام مقومات الحياة، وعدم وجود أماكن مناسبة لنصب الخيام بسبب الدمار الهائل. الركام يخفي حتى معالم الشوارع، ولم نعد نعرف أين كنا نعيش». مؤكدًا أن الاحتلال يطلق عليهم الرصاص والصواريخ يوميًا: «لا نشعر بالأمان ولو للحظة».
يمسح دمعة تسللت إلى وجنتيه قبل أن يضيف لـ«عُمان»: «هذه ليست رفح التي نعرفها. لقد دمر الجيش الإسرائيلي معالمها، وحاراتها، وشوارعها. كنا نعرف كل زقاق هنا، لكن الآن لا يمكنني حتى أن أجد الطريق إلى منزلي السابق. ومن دون انسحاب كامل من محور صلاح الدين، لا يمكن لسكان رفح العودة إلى مدينتهم، وإن عادوا، فعلى ماذا سيعودون؟ المدينة صارت أطلالًا».
التقييم الميداني: رفح مدينة منكوبة
وفقًا لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي استمرت في ارتكاب الجرائم ضد سكان قطاع غزة حتى بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025. يشير المركز إلى استمرار عمليات القصف وإطلاق النار، ما أدى إلى استشهاد وإصابة المئات، فضلًا عن تدمير البنية التحتية المتبقية في رفح. كما تم توثيق عرقلة متعمدة لدخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك منع وصول المعدات الطبية والخيام والمنازل المتنقلة والآليات اللازمة لإزالة الأنقاض.
ورغم إعادة انتشار قوات الاحتلال على حدود مدن قطاع غزة بموجب المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، فقد استمرت سيطرتها المطلقة على أغلب مناطق رفح للشهر العاشر على التوالي. لا تزال أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات العسكرية تسمع في أنحاء المدينة، في وقت يواجه فيه السكان أوضاعًا إنسانية كارثية، حيث يبيتون في العراء وسط قطاع غزة وفي مواصي خان يونس.
ويؤكد مركز الميزان أن الاحتلال لم يلتزم بالمساحة المعلنة في الاتفاق، وما زال متمركزًا بعمق كيلومتر داخل أحياء رفح، وصولًا إلى منطقة الكراج الشرقي وعلى الحدود مع مصر. هذه المناطق أصبحت أشبه بمناطق عسكرية مغلقة، حيث يُستهدف أي شيء يتحرك باستخدام المدفعية، القناصة، والطائرات الحربية والمسيرة. ويشير المركز إلى شهادات سكان محليين أكدوا أنهم تعرضوا لإطلاق نار أثناء محاولتهم العودة لمنازلهم، فيما باتت العديد من المناطق غير صالحة للسكن بسبب القصف العشوائي المستمر.
الأرقام تتحدث: دمار شامل ومعاناة بلا نهاية
تشير إحصائيات بلدية رفح إلى أن 200,000 من سكان المدينة المقدر عددهم بحوالي 300000 مواطن، لا يزالون غير قادرين على العودة إليها، حيث يسيطر الاحتلال على 60% من مساحة المدينة، أي ما يعادل 60,000 دونم. فيما تجاوزت نسبة الدمار الكامل والجزئي 90%، طالت البنية التحتية والمنازل والطرق والمرافق الحكومية والخدماتية والصحية والاقتصادية.
دمرت ستة أحياء كاملة من أصل 15 حيًا، إضافة إلى 5 مخيمات للاجئين، وبلغ حجم الركام والأنقاض في المدينة 20 مليون طن، يُعتقد أن تحتها لا يزال العديد من الضحايا. دُمرت تسعة مراكز طبية، بما في ذلك مستشفى أبو يوسف النجار الحكومي، والمستشفى الأهلي الكويتي، والمستشفى الإندونيسي الميداني. كما دُمّرت 70% من مضخات شبكات الصرف الصحي والمياه، وأصيبت شبكات الكهرباء والاتصالات بدمار شبه كامل.
ومنذ بدء سريان وقف إطلاق النار، قتلت قوات الاحتلال 111 مواطنًا وأصابت 916 آخرين، وفقًا لوزارة الصحة في غزة. حوالي 40% من هؤلاء الضحايا سقطوا في رفح أثناء محاولتهم تفقد منازلهم أو أراضيهم الزراعية.
الحياة تحت التهديد المستمر
ورغم هذه الأوضاع المأساوية، يرفض كثيرون ترك مدينتهم، كما يؤكد مهند عبد العال: «لكننا لن نهاجر خارج قطاع غزة كما يريد ترامب. نموت ولا نترك أرضنا. هناك زيتونة نبتت في بيتي المدمر، إذا الزيتونة لم تطلع، كيف أنا أطلع؟».
بينما يستمر الاحتلال في حصار رفح وتجريدها من مقومات الحياة، تبقى المدينة شاهدًا حيًا على الإبادة المستمرة بحق سكانها، الذين ما زالوا يقاومون بصمودهم وإصرارهم على البقاء رغم كل الظروف القاسية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اتفاق وقف إطلاق النار الجیش الإسرائیلی قوات الاحتلال قطاع غزة لا یزال فی رفح
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة تتبنى قرارًا لوقف إطلاق النار في غزة.. حماس ترحب
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، مساء الخميس، قرارًا بأغلبية ساحقة يدعو إلى وقف فوري ودائم وغير مشروط لإطلاق النار، وفتح الممرات الإنسانية، ورفض استخدام التجويع كسلاح حرب، رغم اعتراض الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل وعدد محدود من الدول.
وجاء القرار الذي تبنته الجمعية العامة المكونة من 193 دولة، بعد أيام من استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإفشال مشروع مماثل، ما أثار موجة انتقادات دولية واتهامات لها بالانحياز المطلق للاحتلال، والتغطية على جرائمه المتواصلة في القطاع المحاصر.
149 دولة صوتت لصالح القرار، في مقابل رفض 11 دولة فقط، بينما امتنعت 19 دولة عن التصويت، ما يعكس عزلة سياسية واضحة للموقف الأمريكي والإسرائيلي. وينص القرار أيضًا على الإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس، وإعادة المعتقلين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة بشكل كامل.
من جانبها، اعتبرت حركة "حماس" القرار بمثابة انتصار سياسي وأخلاقي لشعب غزة ومقاومته، ودليلًا على فشل الرواية الإسرائيلية والدعم الأمريكي في كسب الشرعية الدولية، مؤكدة أن الإرادة الحرة للدول والشعوب تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم في رفضها للإبادة الجماعية والحصار.
وفي بيان صحفي صدر عن الحركة، ورصدته "عربي21"، رحّبت "حماس" بأغلبية الأصوات الساحقة التي صوتت لصالح القرار الأممي، معتبرة ذلك دليلاً على عزلة الاحتلال وتهاوي روايته الدعائية، وعلى سقوط مزاعم "الدفاع عن النفس" التي تروّج لها إسرائيل وتتبناها الولايات المتحدة لتبرير حرب الإبادة في غزة.
وبحسب البيان، فإن القرار الذي أدان استخدام التجويع كسلاح حرب، وأكد على ضرورة فتح الممرات الإنسانية وضمان تدفق المساعدات، يعكس الإرادة الحرة للمجتمع الدولي، ويؤكد أن "الحق الفلسطيني لا يزال حاضرًا في وجدان العالم، رغم محاولات تشويهه وتغييبه".
ورأت "حماس" أن التصويت الكاسح في الجمعية العامة، والذي جاء بعد أيام فقط من استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار مشابه في مجلس الأمن، يمثل ردًا حاسمًا على الانحياز الأمريكي الفج، ويكشف فشل الولايات المتحدة في "فرض إرادتها أو عزل المقاومة الفلسطينية".
وأكدت الحركة أن محاولة واشنطن تمرير إدانة لحركة حماس داخل الجمعية العامة خلال المداولات لم تلقَ تجاوبًا من الدول الأعضاء، مما يشير إلى أن العالم بات أكثر وعيًا بـ"الواقع الاستعماري والإجرامي" للاحتلال الإسرائيلي، وأقل قابلية للابتزاز السياسي والإعلامي.
دعوة لتحويل القرار إلى خطوات عملية
ودعت "حماس" في ختام بيانها الأمم المتحدة إلى عدم الاكتفاء بالقرار، بل العمل على تحويله إلى إجراءات عملية مُلزمة، من شأنها وقف العدوان على غزة، ورفع الحصار المتواصل منذ 17 عامًا، ومحاسبة قادة الاحتلال على الجرائم الموصوفة بأنها إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
كما شددت الحركة على أن المدنيين في قطاع غزة، وخاصة الأطفال والنساء، يواجهون شبح المجاعة والموت الجماعي، وأن التحرك الدولي الآن بات واجبًا أخلاقيًا قبل أن يكون مسؤولية سياسية أو قانونية.
في المقابل، هاجم مندوب الاحتلال، داني دانون، القرار، ووصفه بأنه "مهزلة" و"فرية دم"، معتبرًا أنه يُضعف جهود تحرير الرهائن، ويفتح المجال أمام "شرعنة الإرهاب"، على حد قوله، وهو موقف أثار ردود فعل غاضبة من عدة وفود دبلوماسية، خاصة من دول الجنوب العالمي.
ليبيا، وعلى لسان مندوبها طاهر السني، أكدت أن "وصمة عار ستلاحق من يصوتون ضد القرار"، في حين أشار مراقبون إلى أن تصاعد التحركات الدولية في الجمعية العامة يعكس فقدان الثقة بالقدرة الأمريكية على فرض تسوية عادلة، في ظل استمرار الحرب ومأساة المدنيين في غزة.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية بغزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 183 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم أطفال.