غُرفتان... غرفة لأحمد السعدي وأخرى لحسن المطروشي
تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT
بالحديث عن الغُرف فـي الكتابة الإبداعية لا يفوتنا أن نتحدّث عن الكتاب الشهير لفرجينيا وولف (غرفة تخص المرء وحده) كونه كتابا مهما وضعته المؤلفة، وناقشت فـيه قضايا مهمة مرتبطة بالمرأة. تأتي العتبة فـيه معبّرة عن لفظة الغرفة التي تُحيل على حدود معينة تقع ضمنها قضايا وأبعادا متنوعة. لكن الحديث عن الكتاب يطول أو طال وقد نوقشت معه موضوعات الكتاب من وجهات نظر متعددة تجاه الآخر الكاتب والمكتوب عنه.
ولعلنا نجد فـي الشعر ما يستقرئ الغُرفة ويصنع منها فضاء خاضعا للنسق الشعري الذي تحدّده رؤية الشاعر لحظة الكتابة، نجد فـي ذلك مثالين شعريين يحملان العنوان الشعري ذاته: (غرفة)، النص الأول للشاعر أحمد السعدي والنص الآخر للشاعر حسن المطروشي، وكلا الشاعرين وظّفا المكان/ الغرفة توظيفا فنيا فـي الكتابة الشعرية، وقدّما صورة تعكس تخيّلَ الشاعر لهذا المكان.
ينطلق أحمد السعدي -وهو أحد الأصوات المهمة فـي القصيدة الشعبية العمانية- فـي التعبير عن الغرفة من دلالاتٍ متمثلةٍ فـي الوحدة والخيانة والصمت من جهة، ومن جهة أخرى متمثلة فـي الضيق وحدود الجدران المظلمة. يقول أحمد السعدي فـي نص (غرفة):
والله وحــــيدٍ.. لا مــــطر.. لا عـــصافـيرْ
مـن يـشتهي يقفل على الخوف غرفه؟؟
من له يدان تخون كل التعابيرْ؟؟
مــن لــه شــفاهٍ.. تــشعـل الـجمـر.. حـرفـه
الــصمــت.. غــرفـه ضـيّقـه تـخنـق الـطيـرْ
يــجلــس بــها إنــسان مـنبـوذ عـرفـه
الـــصمـــت مـــنفى غـــرفةٍ تــشبــه الــبيــرْ
الـماي جـف..!! وصارت الأرض ترفه
إنــسان تــطعــن وحــدتــه.. يـامـقاديـرْ
نفسه يخونك!! لو على باب شرفه
والله كـبيره.. يالمطر.. والعصافـيرْ
مـن يـهجـر الـشارع.. على شان غرفه!!
تُحرّك غرفةُ أحمد السعدي القارئَ معها فـي ثنائيات الاتساع والضيق، وثنائيات الخوف والحزن، وثنائيات الوحدة والمنفى، كما يقودك النص بلغته الآسرة إلى الثنائيات المتمثلة فـي دلالات اللغة؛ إذ يستعمل الشاعر النفـي فـي إطار الجملة الخبرية رابطا إياها بدلالات الاستفهام (من يشتهي يقفل على الخوف غرفه؟؟)، فالصورة هنا تحمل تعبيرا فنيا دقيقا يمثله الخوف ويقابله القفل/ الإغلاق بغرفة، واصفا له بعلاقات مكانية مظلمة أو موحشة فـي الاستخدام الدلالي. فـ(الغرفة تُقفل على الخوف)، و(الصمت غرفة ضيقة تخنق الطير)، و(الصمت منفى غرفةٍ تشبه البير)، وهنا يظهر الاشتغال على دلالات الاتساع، ومرادفاتها من الحرية وفسحة الحياة؛ إذ إن دلالات الضيق تتصارع مع دلالات الاتساع فـي النص مُشكلة صورة حية تتدافع معها المفردات.
يمكن لنا أن نقرأ النص من زاوية نفسية تشكلت منها الدلالات؛ فالشاعر يمجّد السعة والاتساع على حساب الضيق؛ فنجد الغرفة رمزا لهذه الدلالة، ففـي كل مرة تظهر الغرفة يظهر معها الخوف والنفـي والوحدة والصمت، وهي تعبيرات مستمدة من الكبت، فنجد الصراعين: اللفظي والدلالي حاضرين بقوة فـي تمثيل صورة الغرفة. فـي المقابل فإن دلالات الاتساع جاءت تُعبّر عن الحياة والحرية والثورة، وهنا يعود المكان المضاد للغرفة لتشكيل الصُّور، ولعل فـي الشارع تمثيلا للتعبير عن الضوء والحركة والحياة.
هنا تحاول دلالات الضيق طمس كل ماله علاقة بالاتساع، فتظهر توتّرات النص، ويظهر الصراع المكاني، ومعها تخيلات الشاعر بالحرية والثورة (المطر/ العصافـير/ الأرض) تبدو مكبوتة بفعل الضيق، وهنا -نفسيا- يبدو الميل إلى الضيق والظلام أقوى من الاتساع والضوء؛ إذ يفاجئنا النص بالحركة إلى الحدود المظلمة على حساب السَّعة والبهجة فـيرسم النص تعجبه من هذه الحركة نحو المجهول:
والله كبيرة يالمطر والعصافـيرْ... من يهجر الشارع على شان غرفه
يكتب حسن المطروشي أيضا عن «الغرفة»، إذ لا تخرج معاني النص عما أشار إليه السعدي فـي نصه السابق، يقول المطروشي فـي نص (غرفة):
ها أنا
من جديدٍ
أجُوبُ مَنافِيكَ مُسْتَوْحِشا
أيها الليلُ،
أَقْذِفُ فوق السريرِ
بكامل ما احْتَمَلَتْ قامتي
مِنْ حُطامْ
ليس فـي غُرفتي شَبَحٌ
فأَقُصُّ له قِصَّة،
ليس لي ماعزٌ أو خرافٌ
فَأَحْسُبُ أذنابها كي أنامْ
حَسَنا،
سوف أدعو لصوص الشوارع
والعاطلين عن الأمنيات،
لكي تَتَسَلَّقَ سَقْفَ الظلامْ!
يشتغل المطروشي على ألفاظٍ تدل على المنافـي والوحشة والحطام، هذا ما تمثله الغرفة ليلا، وحشة منفتحة على الغربة والاغتراب، تُحيله على المنفى رغم إقامته بين الحدود الأربعة، هنا تتمثل صورة الضيق فـي الاستعمال الدلالي، وهنا تبدو الغرفة كصندوق يضم آلاما وجراحا وعذاباتٍ تنوء بها النفس البشرية.
إن دلالات الضيق هنا قائمة على التمسك بالواقع النفسي، فالغرفة مظلمة يجافـيها النوم، وحتى المتخيلات لا يمكن أن تُعبّر عن مكنونات اللحظة. وهنا يستسلم النص لدلالات الضيق على حساب الاتساع، فتغلق مفاجآت الشوارع وترضخ لدلالات الغُرف دالّة فـيها عبارة «لكي نتسلّق سقف الظلام!» على الحدود الضيّقة التي تئن تحتها النفس الإنسانية المليئة بالعذابات والجراح.
يستغل المطروشي اللحظة الآنية للذاكرة والتخيّل فـيشتغل على دلالات الحاضر الذي تستطرد فـيه الفكرة، مستخدما الأفعال المضارعة المعبرّة عن اللحظة الزمنية التي تتكوّن منها المفردات الشعرية، إذ جاءت الأفعال المضارعة فـي سبعة أسطرٍ شعرية من أصل خمسة عشر سطرا شعريا، تتمثل دلالاتها فـي الحركة والكلام والتعبير مثل: (أجوب، وأقذف، وأقص، وأحسُب، وأنام، وأدعو، وتتسلق)، ورغم معاني الأفعال القائمة على الحركة والتعبير والتخيل، إلا أنّ حدودها تصطدم بالضيق وليس الاتساع، وهنا تتصارع الدلالتان فـي ترتيب الأولوية الشعرية والهيمنة فـي التعبير.
ورغم قصر النصين الشعريين، فإننا نجدهما نصين قائمين على التعبيرات الدلالية، والاشتغال الشعري الذي ينقل القارئ من لحظة التسطيح إلى التأمل. فـيقترب النصان من رؤية داخلية للدلالة، والتعبير عن اللامرئي واللاواقعي فـي الشعر، وهنا تنقلنا الصورة إلى لحظة الكتابة الشعرية الحديثة القائمة على تفتيت الصور والتلاعب بالدلالة الشعرية فـي خدمة الفكرة الشعرية.
وكثيرا ما نجد المطروشي يشتغل على هذا النوع من الكتابة مقدما نصوصا شعرية ذات طابع اشتغالي متعدّد الصور والدلالات والتعبيرات الفنية، فنجد نصوصه الشعرية طافحة بهذا الاشتغال التي تُشكّل صورة بصرية متعدّدة الزوايا، أما فـي الشعر الشعبي فأحسب أنّ هذا النص أو أن أحمد السعدي واحدٌ من الشعراء الذين استطاعوا كسر الجمود الشعري التقليدي للقصيدة الشعبية فـي عمان، وقدّم لغة تصعد بكتاباته الشعرية إلى أعلى مستويات اللغة الفنية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أحمد السعدی فـی الشعر التی ت
إقرأ أيضاً:
فيلة صغيرة في بيت كبير لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل
كالسراب الذي يخدع العطشان السائر لأيام في صحراء قاحلة، تخدع كلمة "رواية" المنقوشة على غلاف نص "فيلة صغيرة في بيت كبير" القارئ. وهذه الخدعة لم تقف فقط عند حدود الغلاف الأمامي، بل تربعت في الغلاف الخلفي أيضا. قد يتساءل العامة عن سبب اللغط الدائم بخصوص تصنيف العمل، وما أهمية ذلك إن كان العمل جميلا؟ ماذا يهم القارئ إن كان النص رواية أو قصة قصيرة أو متتالية قصصية أو حتى سيرة ذاتية أو غيرية؟
بالطبع نحتفي كقراء ونقاد بالعمل الجيد ونشجع صاحبه، ولكن في نهاية المطاف، للرواية، كما الشعر وكما المسرحية، خصائص وميزات تختلف عن بقية الفنون الأدبية، وتقديم عمل على أنه رواية وهو في الواقع غير ذلك، لا يقل خيبة عن شرائك تذكرة لفيلم سينمائي للتفاجؤ فور دخولك قاعة العرض بأن الفيلم الذي وعدت نفسك برؤيته ليس إلا مسرحية. هل هذا يقلل دور المسرحية على حساب الفيلم؟ بالطبع لا، فللمسرحية جمهورها كما السينما، ولكن لماذا خلط الأوراق؟
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرواية بين المحلية والعالمية.. علامات من الرواية الأردنيةlist 2 of 2الفكرة أم الموضوع.. أيهما يشكل جوهر النص المسرحي؟end of listيقول قائل إننا في زمن الحداثة الأدبية حيث تتقاطع أجناس الأدب وتضيع المسافات بين الرواية والقصة والمسرحية، وحتى الشعر، وهذا في الواقع أزمة تدعونا للوقوف عند عتبتها ومساءلة أنفسنا: من قرر تجريد الأجناس الأدبية من لبناتها؟ وما قيمة الأدب إن خلطنا حابله بنابله؟ ومن قال إن الإبداع يعني الفوضى وهدم ركائز نقدية عمرها مئات السنوات؟
بيت نور أبو فراج كان جميلا، لكنه أغلق نوافذه على عالم الرواية السحري الذي وعدنا به غلاف النص: رواية "فيلة صغيرة في بيت كبير"، لتبدأ قراءة العمل مشدوها بلغة ورقة ودقة لغة الكاتبة في التعبير والوصف عن أزماتها النفسية وعلاقتها بذاتها وبالآخر من حولها، سواء كان هذا الآخر أفراد أسرتها، مجموعة أصدقاء، البيوت والمدن التي عاشتها وعاشت بها، وحتى بذاتها المفقودة في بلد يتأرجح فوق سكة الحرب الصدئة.
إعلان الذات الحاضرة.. والشخصيات الغائبةبفصول قصيرة لم يتعد أغلبها أربع صفحات، كتبت نور قصتها. وأسمح لنفسي أن أقول قصتها وفقا للكثير من المعلومات التي ضختنا بها الرواية "إن آمنا أنها كذلك" عن بطلة العمل، من سنها ودراستها واسمها ورغبتها في الكتابة وغيرها من التفاصيل الأخرى التي تركتنا مقيدين بفكرة أن نور تكتب عن نور، ونور من نور.
نص نور يبدأ من الذات، ويمر وينتهي بها، وهنا كانت حتمية موت أية شخصية قد تنافس نور في سيرتها المحكية عن لسانها. وإن غابت الشخوص عن الرواية فماذا يبقى منها؟ قد نقول تبقى الحبكة، التي بدورها كانت مفقودة هي الأخرى، فالعمل يبدأ وينتهي من دون خيط رابط للأحداث شبه المغيبة، فنور تنتقل من فكرة لأخرى ومن مشهد لآخر كمن يقفز بين جبال عائمة، تهتز بعنف مع كل قفزة لأنها لا تقف على أساس صلب.
وبالحديث عن الذات، واحدة من أهم سمات الرواية الناجحة أن يكون صوت القص منفصلا عن صوت الكاتب، وهذا ما لم تنجح به الكاتبة. فنور الكاتبة كانت نسخة مطابقة لنور في الكتاب، وهذا ليس أمرا تعاب عليه الكاتبة لو لم يبوب عملها بـ "رواية".
"فيلة صغيرة في بيت كبير" هو أقرب لأدب الشذرات، أو الخواطر التي يعدها الكثير من النقاد وأنا منهم ضربا من الكتابة، لكنها ليست جنسا أدبيا فنيا تحكمه قواعد لغوية وبنى معمارية كتابية.
الرواية.. معمار سردي له شروطأزمة هذا النص أنه يفتقد إلى التحول الفني الأدبي، ونقول هنا الأدبي لأنه يشمل الرواية وغيرها من فنون الكتابة كالقصة وحتى الشعر في بعض الأحيان. أنت تقرأ النص وتفرغ منه من دون تحول، صدمة، تقرأ بصوت واحد لا يقابله أي صوت آخر، لا مسافات جمالية. أنت لا تقرأ عن شخصية، بل عن الكاتبة نفسها، عن همومها ومشاكلها وصراعاتها الداخلية النفسية وعن المجتمع الذي جزأها إلى شخصيتين، رافضة وخانعة، صادقة وكاذبة، قوية وضعيفة، اجتماعية ومنطوية، لتأتي الحرب وتكمل هذا الفصام في شخصيتها المتشظية.
لنذكر هنا كتابنا ودور نشرنا بأن الرواية هي معمار سردي أدبي له أسس وتقنيات. شخصيات تتطور، أزمنة وأمكنة تتغير، حبكات وقصص تنمو، صراعات تتناضح، نهاية قد ترضيك وقد تخيب آمالك، ونفهم أن تغيب واحدة من هذه الخصائص عن رواية ما، ولكن غيابها جمعاء وإصرار دار النشر أو الكاتب أو كائن من يكون أن يحشر العمل ضمن خانة الرواية قسرا، فهذا يسقط العمل مهما كان جماله وعمقه.
من الواجب والأمانة أن أذكر أن لا غبار على لغة نور في هذا النص… التي هي الأخرى لم تكن روائية، لكنها لغة عميقة في المعنى، دقيقة في الوصف، متأنية في التعبير، صادقة بمشاعرها، ويكاد يكون النص خاليا من الأخطاء النحوية والدلالية، وهذا الأمر بات نادرا ندرة الألماس في الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين.
"فيلة صغيرة في بيت كبير" نص جميل على صعيد الأفكار المطروحة واللغة السلسة والتقسيم الفني الجذاب للفصول، غلافه أنيق وعنوانه ذكي.
في حوار مع الكاتبة نور أبو فراج في نادي صناع الحرف للقراءة عبر زوم، ذكرت الكاتبة أنها غير مقتنعة بأن كتابها هو رواية بالفعل. لكن أحدهم قرأ المخطوطة قبل نشرها وقال لها إنها رواية. هذه الفكرة تثلج الصدر، فعلى أقل تقدير نجد من يشاطرنا الرأي بأن هذا النص ليس رواية. والأجمل أن من يشاطرك هذا الرأي هو كاتب العمل نفسه.
إعلان