هل يوجد الآن-وهنا بديل لـتصحيح المسار في تونس؟
تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT
منذ ظهوره على المنابر الإعلامية "خبيرا دستوريا" أو "تقني معرفة" ذا مصداقية، عمل السيد قيس سعيد على اتخاذ مسافة نقدية من مختلف الأطروحات السياسية التي هيمنت على المرحلة التأسيسية وما تلاها. وبحكم هامشيته في تلك المرحلة لعدم وجود سند حزبي أو لوبي نافذ يقف خلفه، فإن أطروحاته المختلفة جذريا عن التوافقات العامة بين أهم الفاعلين الاجتماعيين لن تُحمل على محمل الجد في مسار الانتقال الديمقراطي، رغم تصريحه بأهم أفكاره منذ اعتصام القصبة 2 سنة 2011 وأمام إحدى لجان المجلس التأسيسي ثم خلال الأزمة المعطّلة لأعمال المجلس التأسيسي (ما يسمى بـ"اعتصام الرحيل")، بعد الاغتيالات السياسية التي استهدفت المرحومين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي سنة 2013، وانتهت بسقوط حكومة الترويكا ومجيء حكومة "التكنوقراط" التوافقية برئاسة السيد مهدي جمعة.
ونحن نُذكّر بهذه المعطيات/الحقائق في فاتحة هذا المقال لإيماننا بأن "تصحيح المسار" وفلسفته السياسية (النظام الرئاسوي، الديمقراطية التصعيدية أو المجالسية، التحرك بمنطق البديل لا الشريك، رفض الأجسام الوسيطة والترويج لنهاية زمن الأحزاب.. الخ) ليست رد فعل على فشل "عشرية الانتقال الديمقراطي" ولا مجرد توظيف لأزمة النخب السياسية -خاصة في البرلمان- بل هي أطروحة سياسية موازية لذلك الانتقال ومهمّشة حتى من أولئك الذين سيتحولون إلى حزام سياسي مؤقت أو دائم للرئيس قبل إجراءات 25 تموز/ يوليو وبعدها. بعد وصوله إلى قصر قرطاج سنة 2019، استطاع "الخبير الدستوري" قيس سعيد أن يدفع بالتناقضات الداخلية للنظام البرلماني المعدّل إلى نهاياته المنطقية التي توجب الاستغناء عنه، وقد ساعدته في ذلك عدة معطيات داخلية وخارجية كثيرة.
أثبت "الثورة التونسية" أن مطلب "الديمقراطية التمثيلية" أو لامركزية السلطة ومحورية "الإرادة الشعبية" في بناء القرار السياسي هي كلها مطالب لا تعني عامة الشعب، بل لا تعني أغلب النخب التي أثبتت إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 أنها صاحبة "دعوى" لا "دعوة". فأغلب النخب، خاصة من يحتكرون صفة "العائلة الديمقراطية"، قد أكدوا أنهم لا يعارضون النظام الرئاسي -بل النظام الرئاسوي- بشرط أن تكون لهم فيه بعض الامتيازات أو المكانة الاعتبارية من جهة أولى، وبشرط الاستهداف المُمنهج لخصومهم الأيديولوجية من "الإسلاميين"
بصرف النظر عن التوصيفات المتعارضة لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، فإنها كانت إعادة هندسة للمشهد العام في تونس. ورغم فقدان "تصحيح المسار" لجزء كبير من حزامه السياسي وزخمه الشعبي بحكم تداعي "مشروعيته" المرتبطة بعجزه عن تحقيق وعوده الإصلاحية -وهو ما عبّرت عنه كل الاستحقاقات التي عاد فيها النظام إلى الإرادة الشعبية بما في ذلك الانتخابات الرئاسية الأخيرة- فإن ضعف "المعارضة"، سواء ما يسمى بـ"الموالاة النقدية" التي حاولت تغيير خيارات تصحيح المسار من الداخل أو "المعارضة الراديكالية" التي تطرح نفسها بديلا للنظام الحالي، قد مكّن الرئيس من تجديد عهدته الرئاسية الأولى والمضي في خيار سياسي وضع "المعارضة" بمختلف أشكالها أمام خطر "وجودي" يتجاوز مرحلة التهميش. فالديمقراطية المجالسية التي تمثل عند الرئيس وأنصاره إيذانا بنهاية زمن الديمقراطية التمثيلية، لا مكان فيها لسلطات -بل لوظائف- ولا إمكانية فيها لهيمنة الأحزاب على المشهد السياسي، بل لا تقبل بتعددية "الشرعيات" بحكم مصادرتها على أن الرئيس هو الممثل الشرعي الأوحد والنهائي للإرادة الشعبية غير المزيفة أو المتلاعب بها من "الفاسدين" و"المتآمرين" ووكلاء "الإمبريالية" و"الصهيونية".
أمام هذا الواقع المطبوع من جهة أولى بإصرار السلطة على المضي في "بديلها" السياسي إلى النهاية، والمطبوع من جهة ثانية بضعف المعارضة وتشتتها وعجزها عن تقديم أطروحات سياسية تتجاوز مستوى العودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021، قد يبدو أن "الواقعية" تجعل من طرح قضية "البدائل" الممكنة "الآن-وهنا" ضربا من الترف الفكري أو من الاحتكام إلى مبدأ الرغبة لا إلى مبدأ الواقع. فأقصى ما تطرحه "المعارضة" قد تحوّل -بمنطق رد الفعل واختلال التوازن بين السلطة وخصومها- إلى مطالب حقوقية لا يتجاوز سقفها ذلك البيت الشعري المعروف لامرئ القيس: "وقد طوّفتُ في الآفاق حتى / رضيتُ من الغنيمة بالإياب". والإياب هنا لا يعني "الخلاص الجماعي" أو الرجوع إلى الديمقراطية التمثيلية ومركزية الأحزاب في عملية السياسية، بل منتهى ما يعنيه هو "الخلاص الفردي" لكل أولئك المستهدفين بالملفات القضائية من مختلف العائلات الأيديولوجية. أما فرض منطق "الشراكة" على الرئيس فقد أصبح خارج دائرة المطالب السياسية حتى للمنتمين إلى "الموالاة النقدية"، فما بالك بمطلب إسقاطه وتشكيل نصاب سياسي جديد، وهو ما كانت "المعارضة الراديكالية" تدعو إليه منذ إعلان الرئيس عن إجراءاته "التصحيحية" يوم 25 تموز/ يوليو 2021.
رغم بعض الوجاهة في الأطروحة التي يدافع عنها الباحث يوسف الشاذلي في مقاله "النظام الرئاسي في تونس وإنتاج الاستبداد "المستقر"، المنشور في موقع "المدونة القانونية" بتاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، فإن ميل هذا الباحث إلى النظام البرلماني ضدا على النظام الرئاسي ونزوعه الجوهري إلى التحول من استبداد ديمقراطي إلى استبداد قمعي ليستقر في نظام دكتاتوري؛ هو أمر يحتاج إلى تدقيق. فالرئيس قيس سعيد لم ينجح في إنهاء "الديمقراطية التمثيلية" والنظام البرلماني المعدّل إلا لهشاشة هذه المنظومة السياسية أو لقابليتها للانفجار بحكم تناقضاتها الداخلية وفقدانها لمشروعية الإنجاز. كما أن مطلب "النظام الرئاسي" لم يكن مطلب الرئيس فحسب، بل كان مطلب العديد من الفاعلين المهمّين في "عشرية الانتقال الديمقراطي"، ولم يكن خيار "النظام البرلماني المعدل" إلا خيارا انتهازيا مؤقتا يحاول مسايرة التوازنات السياسية الجديدة. فوضع الجيش والديبلوماسية تحت سلطة الرئيس كان خيارا موضوعا أساسا لتحجيم سلطة "الحزب الأغلبي" (أي حركة النهضة تحديدا) وجعلها دائما في علاقة تصادم -أو على الأقل علاقة تجاذب- مع الرئيس الذي تشير كل المعطيات الإحصائية والضغوط الإقليمية بأنه سيكون من خارج تلك الحركة.
إن طرح قضية "الديمقراطية" في مستوى شكل النظام السياسي هو أمر نؤمن بأنه يحرف قضية بناء المشترك المواطني عن مدارها الحقيقي. فالمخيال السياسي التونسي لم يرفض "الديمقراطية التمثيلية" لأنها سيئة في ذاتها، بل لأنها لم توفر له في المستوى الاقتصادي ما وفّرته الأنظمة الموصوفة بـ"الدكتاتورية" منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية وسيطرة "الجبهة الوطنية" بقيادة الحزب الدستوري الحر على السلطة بعد إرساء دستور 15 آذار/ مارس 195، وهي "الجبهة" التي ستحكم تونس تحت أسماء مختلفة آخرها "العائلة الديمقراطية". لقد أثبت "الثورة التونسية" أن مطلب "الديمقراطية التمثيلية" أو لامركزية السلطة ومحورية "الإرادة الشعبية" في بناء القرار السياسي هي كلها مطالب لا تعني عامة الشعب، بل لا تعني أغلب النخب التي أثبتت إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 أنها صاحبة "دعوى" لا "دعوة". فأغلب النخب، خاصة من يحتكرون صفة "العائلة الديمقراطية"، قد أكدوا أنهم لا يعارضون النظام الرئاسي -بل النظام الرئاسوي- بشرط أن تكون لهم فيه بعض الامتيازات أو المكانة الاعتبارية من جهة أولى، وبشرط الاستهداف المُمنهج لخصومهم الأيديولوجية من "الإسلاميين" أو المطبّعين معهم من جهة ثانية.
إذا كانت "الديمقراطيات الرئاسية لا تزال أكثر عرضة للتحول إلى دكتاتوريات مقارنة بالديمقراطيات البرلمانية" كما يؤكد الباحث خوزي أنتونيو شيبوب، فإننا نذهب إلى أن "الديمقراطية البرلمانية" كما عرفتها تونس كانت تحمل في آليات اشتغالها علة إنهاء الحاجة إليها من وجهة نظر نسبة معتبرة من النخب والمواطنين. فأغلب "النخب الحداثية" لم يستطيعوا القبول بنظام سياسي يكون فيه لحركة ذات مرجعية "إسلامية" دورا رئيسا. أما تلك الحركة ذاتها فإن خيارها الاستراتيجي المتمثل في التوافق مع ورثة المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة قد جعلها تتحول تدريجيا إلى "جسم وظيفي" يمكن الاستغناء عنه بعد انتهاء الحاجة إليه، وبعد فقدانه لجزء معتبر من قاعدته الشعبية في الفئات المهمشة رمزيا واقتصاديا. ومن جهة الشعب فإن ديمقراطيةً تعجز عن توفير حاجياته الأساسية (الطعام، الأمن) هي ديمقراطية "فاسدة" لا يمكن الدفاع عنها، كما فعل الأتراك مثلا عند قيام بعض القيادات العسكرية بمحاولة انقلاب سنة 2016. وإذا كانت أغلبية الشعب التونسي لا يمكنها الآن أن تدافع عن "تصحيح المسار"، فإنها لا تجد أمامها أي بديل موثوق ولا نخبا يمكن التعويل عليها في بناء مشروع سياسي بديل.
في أفضل "أمنيات" المعارضة فإن سقوط النظام الحالي لن يكون سقوطا لواقع التخلف والتبعية وفقدان مقومات السيادة ولا تجاوزا جدليا للأساطير المؤسسة للدولة-الأمة ومخيالها السياسي، بل سيكون نوعا من "التنفيس" الذي سيبقي على هيمنة منظومة الاستعمار الداخلي لكن بعد تغيير واجهاتها السياسية، كما فعلت بعد هروب المخلوع وطيلة "عشرية الانتقال الديمقراطي".
لو أردنا تحييد منطق الرغبة والاحتكام إلى المعطيات الموضوعية "الآن-وهنا"، فإن أزمة السلطة وفقدانها للمشروعية لا يعني بالضرورة امتلاك المعارضة لأية قدرة على إسقاط النظام أو حتى حمله على تغيير سياساته والقبول بمنطق الشراكة معها. فالمعارضة لا تمتلك أي بديل، بل إن العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 ليس مشروعا توافقيا بين أهم أطياف المعارضة. وإذا ما جردنا التحليل أكثر، فإن إصرار المعارضة على أن خصمها الأساسي هو الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي، هو طرح يعمّي على العدو الأساسي المتمثل في منظومة الاستعمار الداخلي أو منظومة الحكم في مرحلة الاستعمار غير المباشر.
لكنّ السرديات السياسية لكل أطياف المعارضة، بما فيها المعارضة الراديكالية، تجعل هذه الحقيقة أ-ي حقيقة أولوية مواجهة منظومة الاستعمار الداخلي- خارج دائرة المفكر فيه، سواء بسبب العجز عن مواجهتها أو الرغبة في التموقع داخلها لتحقيق مكاسب مادية ورمزية معينة، وهو ما يجعل من الجميع مجرد بدائل من داخل تلك المنظومة لا في مواجهتها. ففي أفضل "أمنيات" المعارضة فإن سقوط النظام الحالي لن يكون سقوطا لواقع التخلف والتبعية وفقدان مقومات السيادة ولا تجاوزا جدليا للأساطير المؤسسة للدولة-الأمة ومخيالها السياسي، بل سيكون نوعا من "التنفيس" الذي سيبقي على هيمنة منظومة الاستعمار الداخلي لكن بعد تغيير واجهاتها السياسية، كما فعلت بعد هروب المخلوع وطيلة "عشرية الانتقال الديمقراطي".
وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن من يطرحون أنفسهم بديلا للنظام هم أنفسهم -على الأقل في المخيال الجمعي- سبب الأزمة خلال عشرية الانتقال الديمقراطي المجهض، فإن فرصتهم في النجاح، مع غياب أية مراجعات أو نقد ذاتي أو حتى نية تجاوز "الصراعات الهوياتية"، هي أمر مستبعد. وهو ما يجعل من "الكتلة التاريخية" بقيادة نخب بديلة هي أفضل الممكنات للخروج من الأزمة البنيوية للحقل السياسي التونسي، ولكنه بديل لم تنضج بعد شروطه الفكرية والموضوعية بالصورة التي تجعله "ضرورةً" لا مجرد خيار.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء قيس سعيد الديمقراطية البرلمان تونس تونس برلمان ديمقراطية قيس سعيد قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة التمثیلیة النظام الرئاسی تصحیح المسار قیس سعید یولیو 2021 لا تعنی وهو ما من جهة
إقرأ أيضاً:
ما هو أفق الصراع بين تصحيح المسار والاتحاد؟
بصرف النظر عن تناقض المواقف من الدور النقابي والسياسي للاتحاد العام التونسي للشغل بعد بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية، أي الدولة-الأمة المتأسسة على السردية البورقيبية، وبصرف النظر عن دور الاتحاد أو موقعه الوظيفي في منظومة "الاستعمار الداخلي" قبل الثورة وبعدها، فإنه من الصعب أن نجادل بعد الثورة في أهمية هذا الجسم النقابي داخل كل الاستراتيجيات الهادفة إلى إضفاء الشرعية على السلطة، خاصة شرعية حكومة الكفاءات ومن بعدها حكومات النداء وشقوقه ، وأخيرا شرعية "تصحيح المسار"، أو التشكيك في تلك الشرعية والدعوة إلى إعادة هندسة المشهد العام بعيدا عن الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع، خاصة التشكيك في شرعية المجلس التأسيسي وحكومة الترويكا، بل التشكيك في عشرية الانتقال الديمقراطي برمتها.
وقد لعب الاتحاد دورا كبيرا في التمهيد لـ"تصحيح المسار" وإنضاج الشروط الموضوعية والنفسية لنجاحه. ولكنّ الاتحاد الذي تحرك دائما بمنطق "الشريك الاجتماعي" للسلطات المتتابعة منذ الاستقلال وجد نفسه مقصيا من أي موقع داخل السلطة الجديدة، بل مقصيا حتى من "الحوار" مع نظام كان هو من أول المدافعين عنه والمسفّهين لعقول خصومه حتى لو كانوا من "العائلة الديمقراطية".
رغم تدهور العلاقة بين المركزية النقابية والسلطة، فإن قيادات الاتحاد حاولت دائما أن لا تنقطع "شعرة معاوية" بينهما، فاختارت التخلي التدريجي عن منطق التغول الذي طبع مواقفها من السلطات القائمة قبل 25 تموز/ يوليو 2021، وهو منطق يتأسس على مفهوم "الدور الوطني" لهذا الجسم النقابي، أي حق الاتحاد تاريخيا في لعب دور سياسي يتجاوز مستوى التفاوض النقابي/المطلبي. وإذا كان الاتحاد غير قادر نظريا على التنكر لشعار "الدفاع عن الحريات والحقوق"، فإنه واقعيا قد حصر تلك الحقوق والحريات في أهمها من منظور نقابي صرف، أي "الحق النقابي والحق في التفاوض من أجل الزيادات في الأجور ومكسب الحوار الاجتماعي"، كما جاء في صحيفة "الشعب نيوز" الناطقة باسم المركزية النقابية.
ولكنّ "شعرة معاوية" تفترض وجود إرادتين متقابلتين ستنجحان في عدم قطع "الشعرة"؛ حين تمد إحداهما ترخي الأخرى والعكس صحيح، وهو ما لا يتحقق في علاقة السلطة بالاتحاد. فمنذ الأيام الأولى لـ"تصحيح المسار" رفضت السلطة "الحوار الوطني" الذي دعت إليه المركزية النقابية، واستهدفت بعد ذلك بعض قياداته الجهوية في ملفات فساد، ثم استهدفت بعض حلفائه من منظمات المجتمع المدني. ولم تكتف السلطة بذلك، فأعدت ميزانية الدولة وأقرت الزيادات في الأجور بنسب متدنية دون تشريك الاتحاد. فهل يؤذن ذلك بقطع "الشعرة" بين المركزية النقابية والسلطة وتحويل الاتحاد إلى خندق المعارضة الصريحة للنظام، وبالتالي هل يتحول "الملف النقابي" إلى ملف أمني-قضائي مثل سائر ملفات "التآمر على أمن الدولة" والتواصل مع جهات أجنبية فيما يخص السياسيين؟
خلال مشاركته في ملتقى نقابي دولي في المغرب، اعتمد عضو المركزية النقابية حفيظ حفيظ خطابا تصعيديا ضد السلطات التونسية، وهو خطاب لم تتبرأ منه المنظمة النقابية، فمن خلال قسم الشؤون القانونية فيها، اعتبرت أن ما جاء فيه من مواقف وقرارات "تعبّر عن الاتحاد بأكمله وتمثّل موقفه الرسمي". فقرار الإضراب العام موجود منذ شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو يجسد ما أقرته الهيئة الإدارية للاتحاد ضمن لائحتها المهنية أيام 5 و6 و7 من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024. ففي ذلك الاجتماع قرر النقابيون مبدأ الإضراب العام في صورة تواصل غلق باب التفاوض مع السلطة، وفي 5 كانون الأول/ ديسمبر الجاري قررت الهيئة الإدارية القيام بإضراب عام يوم 21 كانون الثاني/ يناير من السنة القادمة. وهو قرار مرده -حسب جريدة الشعب نيوز- إلى تخلي النظام عن آلية الحوار الاجتماعي المعمول بها منذ سبعينات القرن الماضي.
بعد هذا القرار، فإن السلطة ستجد نفسها أمام عدة سيناريوهات ممكنة، ولكنها ذات كلفة سياسية كبيرة. فما هي هذه السيناريوهات؟ وهل يمكن لشعرة معاوية أن تظل مجازا قابلا للحياة في ظل فلسفة "التأسيس الثوري الجديد" والديمقراطية القاعدية، أي في ظل سردية سياسية تبشر بانتهاء زمن الأحزاب، وتعتبر الأجسام الوسيطة "خطرا جاثما" ومنافسا وجوديا لسلطة لا تقبل بتعدد الشرعيات ولا بوجود ممثلين للشعب خارج وسائطها "الثورية" الجديدة؟
يبدو أن استدعاء الرئيس قيس سعيد لسفير الاتحاد الأوروبي في تونس وإبلاغه احتجاجا شديد اللهجة لـ"عدم الالتزام بالضوابط الديبلوماسية"، بعد لقاء هذا الأخير بأمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي، هو رسالة مزدوجة للداخل والخارج. فالرئيس الذي كسر الأعراف الديبلوماسية بعدم ترك الاحتجاج لوزارة الخارجية التونسية، تدخل شخصيا ليؤكد أن النظام القائم لن يتسامح مع ما تسامحت معه الأنظمة السابقة بعد الثورة، ولن يقبل بالتعامل مع النظام خارج الأطر الرسمية المتعارف عليها. وهي رسالة للاتحاد الأوروبي الذي ما زال يصر على التدخل في الشأن التونسي عبر بوابة المجتمع المدني، ولكنها أيضا رسالة للاتحاد ذاته، فليس بين "الديبلوماسية النقابية" وبين "التآمر مع جهات أجنبية" إلا مقدار شعرةٍ لا معاويةَ لها.
ولا شك عندنا في أن تحديد الاتحاد ليوم إضراب بعيد نسبيا هو قرار مقصود بهدف ترك فرصة لفتح باب التواصل مع السلطة وإلغاء الإضراب، وهو احتمال قائم ولكنه ضعيف. ففتح باب التفاوض الآن -أي بعد تمرير الميزانية دون إشراك الاتحاد- لا معنى له سياسيا ونقابيا. ولذلك فإن خضوع السلطة لابتزاز الاتحاد سيكون أمرا بلا أي فائدة سياسية لها، ذلك أن الرأي العام التونسي سيعتبر ذلك ضعفا من السلطة، كما أن هذا القرار يُضادد فلسفة "تصحيح المسار" سياسيا. فهذه الفلسفة لا تعترف بالديمقراطية التمثيلية وبكل أجسامها الوسيطة، وهي لا تعترف أيضا بتعدد الشرعيات وأنماط التمثيل للإرادة الشعبية خارج السلطة. فلا شراكة في ظل نظام يتحرك بمنطق البديل، ولا مكان للجسم الوسيط النقابي في ظل فلسفة سياسية لا تعترف بالانقسام الاجتماعي ولا بشرعية أي تمثيل شعبي خارجها. ولكن ماذا لو نجح الإضراب العام؟
في ظل غياب أي مصادر موثوقة لاستطلاع الآراء، فإن الحديث عن نجاح الإضراب أو فشله سيظل مسألة تخمينية، وحتى لو كان للسلطة مصادر علمية لمعرفة آراء التونسيين في موضوع الإضراب، فإننا نعلم أن هذه السلطة كثيرا ما اتخذت مواقفها وبنت سياساتها ضد مواقف التونسيين، بمن فيهم أنصار" تصحيح المسار". وهو ما نجد آيته في كتابة دستور جديد رغم أن أغلبية آراء المشاركين في الاستشارة الوطنية كانت مع تنقيح دستور 2014، ثم نجد آية ثانية في دعوة الرئيس "اللجنة الدستورية" لاقتراح دستور يُعرض على الاستفتاء ثم التخلي عنه وطرح دستور كتبه بمفرده. ولذلك فإن المراهنة على أن موقف السلطة من فتح باب التفاوض ستحدده إمكانية نجاح الإضراب العام هي مراهنة خاسرة، وهو ما يعني أن موقف السلطة مشروط بمحددات أخرى تتجاوز المشهد النقابي، أي تتجاوز الموقف الحالي للمركزية النقابية من النظام. فما هي تلك المحددات؟
إن "تصحيح المسار" الذي رأى فيه الاتحاد وأغلب مكوّنات ما يُسمى بـ"العائلة الديمقراطية" مجرد مشروع للخلاص من حركة النهضة وعودة إلى مربع "اللائكية المتجانس" الخالي من "الخوانجية"، ورأوا في الرئيس -باعتباره رمز هذا المشروع ومركز الثقل فيه- مجرد حليف فكري وموضوعي ضد "الإخوان"، هو في الحقيقة مشروع سياسي لا سابقة له في التاريخ التونسي. وهو ما لم تستطع "القوى الديمقراطية" وملحقاتها النقابية والمدنية فهمه، فظلّت تقرأ المشهد السياسي بشبكات قراءة مفوّتة ومرتبطة بالنظام القديم وورثته بعد الثورة. فما لم يفهمه الاتحاد هو أن وجوده ذاته مرتبط بوجود ديمقراطية تمثيلية وإن كانت سقيمة أو فاسدة، بل إن فساد تلك الديمقراطية وهشاشتها هو ما يمنحه قوته التفاوضية وحتى "الابتزازية" لمن هم في السلطة. كما أن ما لم يفهمه الاتحاد هو أنه لم يكن يوما جزءا من النواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الجديد أو الاستعمار الداخلي، بل هو مكون وظيفي تحدّد له تلك النواة مربع الحركة بـ"الرشاوى السياسية" حينا وبالقمع حينا آخر.
ولمّا كانت شرعية الواجهة السياسية لتلك النواة مرتبطة بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، فإنها لن تسمح للاتحاد بدور "الشريك الاجتماعي" إلا صوريا. فعودة الاتحاد إلى دور الشريك الاجتماعي الحقيقي مؤذن بذهاب شرعية هذا النظام الذي أكد أنه قابل للحياة دون تعامد وظيفي كامل مع "العائلة الديمقراطية"، سواء في المجتمع المدني أو في الأحزاب السياسية. وهو ما يعني أن النواة الصلبة للحكم لن تسمح بنجاح الإضراب واستثمار ذلك النجاح سياسيا إلا إذا كانت تنوي طيٍّ صفحة "تصحيح المسار". أما إذا كانت هذه الصفحة مرْضية عند الأطراف المتحكمة في مركز القرار (القوى الصلبة، العائلات الريعية، الإدارة العميقة بالإضافة إلى الدعم الإقليمي الوازن)، فإن نجاح الإضراب العام لن يغيّر في الأمر شيئا مهما كانت مآلات الصراع بين النظام والمركزية النقابية.
x.com/adel_arabi21