خلل بنيوي تاريخي، بتاع فنلتك
تاريخ النشر: 20th, April 2025 GMT
هناك مغالطة تستخدم كثيرا في الخطاب السياسي للتمرد ومن جماعة السياسيين العملاء في قحت، وتستخدم عن عمد من أجل التضليل. هذه المغالطة تستند على تبرير وتسبيب الحرب على الدولة والجيش القائمة اليوم، من خلال الاستدلال بوجود (خلل تاريخي أو بنيوي) في تكوين الدولة نفسها وفي المجتمع السوداني نفسه.
هذه المغالطة من ناحية منطقية تعرف بمغالطة (السبب الزائف)، ويتم فيها تعظيم وتضخيم ما يظن أنه سببا لحدث محدد، دون الإشارة لجوانب أخرى مهمة وفعالة أو اقتطاعها من سياقها واستخدامها في غير محلها، والحدث هنا هو (نشوء الحرب وموقفهم منها)، فيقومون باستدعاء سبب مضلل من التاريخ، وذلك بغرض صرف النظر عن الواقع ودورهم فيه وكذلك جرائم المليشيا، أيضا تشتيت الانتباه عن دور أطراف خارجية ودعم المليشيا وتضليل الرأي العام عن كل الجوانب المهمة، وهذه عملية جزء من استراتيجيتهم ودعايتهم في الحرب.
إن الحديث العمومي في خطاباتهم السياسية عن وجود خلل بنيوي أو تاريخي في الدولة، يأتي كلاما مبهما وغامضا ومرسلا وإدعاء يحتاج دوما لسياق ودراسة وشرح وتبيين، هذا الشيء المجرد العام عندهم يمكن أن يكون سببا لأي شيء، وهو نفسه ما سببه أصلا؟ وكيف نفهمه؟ وهل هو (سبب فعال) أم جزء من (واقع) يمنح احتمالات كثيرة للفعل. كل ذلك ليس مهما عندهم لأن مجرد الإحالة لهذا المعطى التجريدي كاف للتضليل وتشتيت ذهن المتلقي.
هذا نوع من السفسطة الكلامية والتلاعب اللفظي والعجز الفكري، ويعود بنا لتاريخ طويل من البناء الفكري الموروث من المستعمر والمستشرقين. ولا يخفى على من يهتم بهذه الدراسات أن هذه السردية نفسها هي سردية المستعمر حولنا، وذلك بتضخيم الفوارق والمشكلات وافتراض الجهل والعجز عندنا.
بالطبع تساعد هذا العدو المضلل آلة إعلامية ضخمة، وإذا تتبعت ما قامت به (قناة الحدث) مثلا في الأيام الماضية، ستجدها عقدت لقاءات مطولة مع شخصيات من المليشيا وتحالفاتها السياسية، وخلاصة اللقاء تصميم مسرح لحوار بين قيادي عميل وخائن مثل عبدالعزيز الحلو وأمامه مذيعة برامج لا تعرف شيئا مهما عن السودان، القيادي مهمته حشد عبارات على شاكلة الجذور التاريخية للحرب، الأسباب البنيوية، المظالم التاريخية، التهميش والخلل البنيوي….إلخ وهذه مفاهيم تمنح شعورا زائفا لدى قائلها بأنه على حق وقد ترهب المشاهد العادي المتلقي.
لكن لماذا هي مغالطة أصلا وتعليل خاطئ؟
أي حدث سياسي واجتماعي له أسباب (معاصرة فعالة) صنعته ودفعت به للحدوث، وحين تصنعه فإنها ستفعل ذلك من خلال تحريك مادة الواقع الاجتماعي والسياسي، وفي حالتنا فالحرب حدث معاصر ولها أسباب حركت واقع السودانيين نحو العنف والانفجار، واقع السودان هنا هو تراكم صنعته عوامل داخلية وخارجية أنتجت تركيب اجتماعي وسياسي لدولة لها مشكلاتها وسماتها، وهذا التركيب لا يزال ديناميكا في تحوله وتغيره من خلال التفاعل مع عوامل متجددة ومتغيرة كأسباب فعالة معاصرة.
وفي لحظة محددة من الواقع تفجرت الحرب، وأسبابها لا يمكن منطقيا إحالتها لعوامل التاريخ والجذور فهذه ليست أسباب، بل هي جزء من مادة الواقع نفسه وليس ثمة دليل منطقي وعقلاني يدفعنا للإدعاء بأنها حتما تقود للحرب، ومن يسمها أسباب فهو لا يفرق بين المفاهيم، عليه فما هي أسباب الحرب إذن؟
الأسباب هي بوضوح الممارسة السياسية قبل الحرب ونتائج سلوك السياسيين قصيري النظر بهدف الوصول للسلطة بأي ثمن، وهذه الممارسة عجزت عن اتباع مسار سليم لا يقود للحرب، والسبب الثاني والأهم هو العامل الخارجي، والذي ساهم في تعزيز السبب السابق ذكره، وهذا العامل الخارجي تمثل في وجود مشروع إقليمي صهيوني إماراتي غربي حول السودان، مثله دور سفراء دول الرباعية ودور البعثة الأممية التي ساهمت بشكل واضح في الصراع قبل الحرب واتباع استراتيجية توازن عسكري بين قوتين تم تكريس مساواتهما سياسيا وتم الانحياز لأحدهما ثم مده بالغطاء السياسي بجانب التمويل التسليحي والاستخباراتي.
هذه هي أسباب الحرب بالمعنى المنطقي لكلمة سبب، وبالمعنى الذي يشير لعامل فعال يحرك واقع ويقود لنتيجة مرتبطة به حتما بعلاقة معروفة منطقيا هي (علاقة السببية). أما إحالة الحرب للتاريخ فهو تضليل وسفسطة كلامية، وقد لاحظت أنك حين تناقشهم حول مقصدهم من خلل بنيوي تتفاجأ بأنهم عاجزين عن تقديم تفسير موضوعي للواقع السوداني وعاجزين عن مقارنة حالة دولتنا بحالات مشابهة وأكثر تعقيدا مضت بمسارات مختلفة.
لكن ذلك التضليل مهم لماذا يا عزيزي؟ لأن المليشيا والسياسي الذي يدعمها يستخدمون هذه الجمل الزائفة لصرف النظر عن الأسباب الحقيقية فهم جزء من التآمر، ولأن نشر مثل هذه المفاهيم يساعد الأطراف الخارجية في تغطية دورها ومشروعها.
هشام عثمان الشواني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: جزء من
إقرأ أيضاً:
المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني
12 دجنبر، 2025
بغداد/المسلة: تشهد الساحة الإعلامية العراقية تصاعداً لافتاً في الخطاب السوقي والسطحي على عدد من الفضائيات المحلية خلال الأشهر الأخيرة، حيث غلبت لغة الإثارة والمباشرة على التحليل المعمق، ما جعل كثيراً من التغطيات تبدو أقرب إلى عروض درامية منها إلى نقاشات سياسية موضوعية.
وبرزت برامج حوارية تكرّس الانفعالات وتضخّم الخلافات الحزبية والطائفية، مع تقديم ضيوف محللين يتشدقون بمواقف حزبية غامضة قبل أن يكونوا محللين مهنيين، ما أثار موجة من الانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي من جمهور يرى أن هذه الفضائيات ارتدت إلى منابر لترويج سرديات متباينة بدلاً من تسهيل فهم الجمهور للأحداث.
وقال القيادي في تيار الحكمة فهد الجبوري إن فوضى الإعلام لدى بعض الجهات في بلد مثل العراق بتاريخه العريق وحضارته العميقة، أصبحت أمراً يستدعي الوقوف عنده بجدية..
وتابع: من المؤسف أن نرى تصرفات تُقدَّم بأسلوب يدعو للسخرية والضحك بينما هي في الواقع تعكس صورة عن واقعنا العراقي وتُعرَض أمام ملايين المتابعين على وسائل التواصل..
واستطرد: نحن بحاجة إلى إدارة إعلامية واعية تضع مصلحة العراق وأمنه القومي فوق كل اعتبار.
وأظهرت حوارات عديدة انحداراً في مستوى الخطاب السياسي على الشاشات، إذ افتقرت إلى التحليل المعمق وأصبحت تكتفي بتكرار قوالب جاهزة من الاستقطاب، بينما يغيب النقد الذاتي لمقدّمي البرامج أو لأحزاب تدعو لهم تلك المنابر، ما يعكس حالة من الانجراف الإعلامي نحو الخطاب الانفعالي على حساب المعالجة المتوازنة.
ومثل هذا النمط يسهم في تضخيم الخلافات بين القوى السياسية عوضاً عن تفسير جذورها وسياقاتها، وهو ما تعكسه ردود فعل واسعة على تويتر وفيسبوك حيث يعبر مستخدمون عن استيائهم من ما يسمونه “صحافة الصراخ” التي تحوّل السياسة إلى مادة ترفيهية بدلاً من مادة فهم.
ومن جانب آخر، يغيب عن المشهد الضوابط المهنية الصارمة التي من شأنها كبح جماح السطحية، إذ لا توجد آليات فعّالة تراقب الخطاب الإعلامي وتعيّن حدوده المهنية في تغطية القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة.
وما يزيد الإشكالية تعبير بعض الضيوف عن مواقف حزبية واضحة بشكل تحريضي، دون مساءلة من قبل الهيئات المنظمة أو من قبل الجهات السياسية نفسها، ما يعزز الانطباع لدى المشاهد بأن هذه الخطابات لا تُنتج إلا لتعزيز الاستقطاب وتصعيد الخلافات داخل المجتمع.
ويدعو محللون عراقيون إلى أن تتولى هيئة الإعلام والاتصالات مهامها بضبط الخطاب الإعلامي، ليس من أجل تقييد الحريات الصحفية، بل لترسيخ قواعد الممارسة المهنية التي يجب أن تميّز بين النقد والتحليل والتحريض الطائفي أو الحزبي، وإرساء بيئة إعلامية تحترم تعددية الآراء دون أن تغذي التوترات الاجتماعية.
ويشدد هؤلاء على أن غياب مثل هذه الضوابط من شأنه أن يقوّض الثقة العامة في الإعلام ويزيد من توترات سياسية واجتماعية موجودة أصلاً في البلاد.
الساحة الإعلامية العراقية تواجه تحديات كبيرة في استعادة دور الإعلام كقاطرة للنقاش العقلاني بدلاً من أن يكون منصة لتكرار روايات الاستقطاب، وهو ما يتطلب جهوداً تشاركية من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني لحماية الصحافة المهنية وتعزيز الوعي الإعلامي لدى الجمهور.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts