نقل المَقْرِي التلمساني في كتابه "نَفْح الطِّيب"، قول لِسَان الدِّين ابن الخطيب عن أحوال الأندلس قبيل سقوطها:
"وإن تَشَوَّفْتم إلى أحوال هذا القُطْر ومَن به مِن المسلمين، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تيارا، ونكابر بحرا زخَّارا، ونتوقع -إلا إن وقى الله تعالى- خُطوبا كِبارا، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصارا، ونلجأ إليه اضطرارا، ونستمد دعاء المسلمين بكل قُطْرٍ استعدادا به واسْتِظْهارا، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطارا، وينشئ رِيحَ رَوْح الله طيبة معطارا، (.
ونقل المقري التلمساني -كذلك- عمن وصفه بأنه صاحب مناهج الفكر:
"ولم تزل هذه الجزيرة [الأندلس] منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق، إلى أن طَمَا بمُتْرفيها سَيْلُ العِناد والنفاق، فامْتازَ كلُّ رئيسٍ منهم بصَقْعٍ كان مَسقَطَ رأسه، وجعَلَه مَعْقِلا يعتصم فيه من المخاوف بأفْرَاسِه، فصار كل منهم يَشُنُّ الغَارَة على جارِه، ويحارِبُه في عُقْر دارْه، إلى أن ضعفوا عن لقاءِ عدوٍّ في الدين يعادي، ويراوح مَعاقِلَهُم بالعَيْث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمانِ هدْنةٍ مُقَدَّرَة، وإتَاوَةٍ في كل عام على الكبير والصغير مُقَرَّرَة، كان ذلك في الكتاب مسطورا، وقدرا في سابق علم الله مقدورا".
عندما ألَّف تقي الدين بن المقريزي كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، جعل العنوان كاشفا عن غايته ومقصده من كتابه، وتلك غاية التاريخ والقصص؛ العِظَة والاعْتِبار، وفي التنزيل "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"، وما نورده عن الأندلس هنا ليس للتباكي، بل للاعتبار من حال الافتراق والتعادي، أو حال الانصراف عن نُصْرَةِ جماعةٍ تواجه "عدوّا في الدين يعادي، ويراوح مَعاقِلَهُم بالعَيْث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمانِ هدْنةٍ مُقَدَّرَة".
في بداية مرحلة الطفولة نحفظ جميعا قصة الثيران الثلاثة التي أُكِلت تِباعا عندما انفرط عقد اتحادها، وهذا الدرس للأطفال، يحمل حكمة بعُمْر التاريخ البشري، ومع ذلك يظل البشر يقعون في خطأ تجاهل هذا الدرس. ولعل الدافع الرئيس للوقوع في الخطأ، هو المذكور نفسه في القصة، وهو الخوف من العدو القوي، في حين أن العِبرة تقول إن الاتِّحاد يَجْبُر نقص الآحاد، وإن المرء ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بإخوانه، ولو اتحدت الأطراف المنفردة، لأَوْجَعت الخَصْم الصَّائِل، ولكن هيهات أن يعتبر أولو الحُكم، والمتشبِّثين بمتاع الحياة الدنيا، وهو متاع قال عنه صاحب التنزيل: "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"!
إذَا انْصَرَفَتْ أذهانُ أولي الحكم عن درس الاتحاد، فلا عُذر للمحكوم أن ينصرف عن الدرس، ودرسُ الأندلس يقول إن الحكام المتآمرين على بعضهم، أرادوا الاحتفاظ بأوطانهم مقابل موالاة العدو، أو معاداة القريب، وأَمِنَ أتباعهم للحال باعتبار أنهم لا ناقة لهم ولا جمل في مسائل الحكم، فلما قوِيَ العدو، مدَّ سطوتَه وبطشَه على المحكوم قبل الحاكم، وألْحَقَ الصَّغار بالجميع. ومن هنا وَجَبَ على المحكومين أن يعلموا أن حكامهم إذا لم يكونوا ممتثلين لإرادتهم، لن يحفظوا لهم أرضا ولا عِرضا.
الإشكال الرئيس في مسألة الحكام والمحكومين أن الشعوب تحتاج إلى تنظيمات تقود عملية الضغط، وقد نتج عن انتكاسة الربيع العربي أن التنظيمات التي كانت تستطيع رفع صوتها، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، قد انزوت على نفسها نتيجة البطش الأمني، أو صارت تخشى من التعبير عن نفسها لأن العالم يغض الطرف عن اعتقال الإسلاميين أو حتى قتلهم، فباتت تكلفة الاعتراض على الحكام شديدة الارتفاع، ولا سقف لها.
في مقابل هذا الإشكال، يأتي واجب الانتصار للمظلومين في فلسطين وغزة تحديدا، وأيّا كان الثمن، فإنه لا يمكن أن يبلغ بحال من الأحوال ما يقدمه أهل غزة الصابرة، والأَوْلى أن تبدأ التنظيمات السياسية غير الدينية في الخروج من انعزالها وترك أوهام أنها تحافظ على مكتسبات غير موجودة سوى في خيالها، كما تحتاج التنظيمات السياسية الدينية إلى رَفْعِ الصوت للضغط على الحكام من أجل فلسطين، إذ إن الفلسطينيين يستحقون أن نضحي معهم ولو بحُرِّيتنا، كما أن تحركات الضغط هذه ربما تحتاج إلى تجاهل الهتاف السياسي ضد هؤلاء الحكام أو المطالبة بإسقاطهم، في محاولة أخيرة كيلا يتذرعوا بهذه الحجة لقمع الاحتجاجات.
إن التواطؤ العربي ضد القضية الفلسطينية بلغ مستوى غير مسبوق، وسيكون مُخلَّدا في صفحات التاريخ السوداء، كما لا نزال نستذكر الخيانات التاريخية منذ آلاف السنين فيما وصَلَنا من روايات التاريخ، ونتيجة ما يحدث في فلسطين سيمتد إلى كل وطن عربي، فالمستعمِر لم يتوقف يوما عن نهب مقدراتنا رغم خروج قواته من بلادنا، واليوم أصبحت قواته تعود وتقترب وتنتشر في منطقتنا، عندما مرَّغَتْ جماعة صغيرة أنف وكيل القوى الاستعمارية في التراب، بمعدات محدودة، وقدرات بسيطة، وعندما هددت قوى الاستعمار بسحق مهاجمي الكيان البغيض، خرجت جماعات أخرى تقارعها على حدود بلدها الفقير المطحون.
إن لعنة وجود كيان الاحتلال لن ترحم أحدا، والصمت المطبق عن أهل غزة سيحل لعنة على الجميع، "واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه فلسطين غزة الاحتلال احتلال فلسطين غزة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الله تعالى
إقرأ أيضاً:
الغماري في رسالة لكتائب القسام: اليمن سيبقى حاضراً في ميدان المعركة مع فلسطين
الثورة نت /..
عبر رئيس هيئة الأركان العامة اللواء الركن محمد عبدالكريم الغماري، عن أسمى آيات التهاني والتبريكات للمجاهدين الأبطال في كتائب عز الدين القسام – الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، بمناسبة عيد الأضحى المبارك.
وقال اللواء الغماري، في رسالة وجهها لكتائب عز الدين القسام، “في هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة، ومع حلول عيد الأضحى، يطيب للقوات المسلحة اليمنية أن ترفع إليكم قيادة وجنودًا، أسمى آيات التهاني والتبريكات مقرونة بالفخر والاعتزاز بصمودكم الأسطوري، وبطولاتكم الخالدة التي سطّرتموها في ميادين المواجهة مع العدو الصهيوني الغاصب”.
وأشار إلى أن ما يجترحه مجاهدو القسام من عمليات نوعية، وضربات موجعة ومواقف إيمانية راسخة، هو موضع إعجاب وإلهام لكل الأحرار، وهو دليل لا يُدحض على أن من توكل على الله وثبت في ساحات الوغى، فإن النصر حليفه ولو اجتمعت عليه قوى الأرض.
وخاطب رئيس هيئة الأركان العامة كتائب القسام بالقول “نشد على أياديكم، ونؤكد لكم أن اليمن – شعبًا وجيشًا وقيادة – سيبقى حاضرًا في ميدان المعركة مع فلسطين قلبًا وسلاحًا وموقفًا ودعاءًا حتى يتحقق الوعد وتعود الأرض لأهلها”.
ولفت إلى أن غزة التي صارت رمزًا للعزة، لن تُكسّر ما دام في هذه الأمة من يشبه القسام، رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، آمنوا بأن الجهاد فريضة وبأن النصر من الله لعباده المستضعفين الصادقين.
وجدّد اللواء الغماري العهد لكتائب القسام في عيد التضحية، “أن درب الجهاد هو دربنا ومصير العدو هو الهزيمة وفلسطين في قلب صنعاء، كما أن القدس في عقيدتنا ومناهجنا وبوصلتنا”.