من أين نبدأ؟ الحرب والخسائر وإعادة الإعمار في السودان (الجزء الاول)
عمر سيد أحمد
[email protected]
أبريل 2025
المقدمة
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، والتي تدخل الآن عامها الثالث، يعيش السودان مأساة إنسانية واقتصادية كبرى. مع استمرار القتال واتساع رقعته، تحولت حياة الملايين إلى كارثة حقيقية.

في هذا المشهد المظلم، بدأت تظهر تصريحات وتحركات تتحدث عن إعادة الإعمار، رغم أن الحرب لم تتوقف بعد.
من بين هذه التصريحات، ما نقلته تسجيلات متداولة عن اتفاق مزعوم بين القيادة العسكرية السودانية وبعض الجهات المصرية، أشار فيه متحدث مصري إلى أن تكلفة إعادة الإعمار قد تفوق المائة مليار دولار، وأن شركات مصرية ستتولى تنفيذ المشروعات مقابل الحصول على الذهب السوداني.
الحديث عن إعادة الإعمار قبل وقف الحرب بشكل نهائي، يبدو ضربًا من العبث. لا سلام، لا استقرار، ولا بناء حقيقي طالما أن صوت الرصاص يعلو فوق صوت الحياة. كما أن الشركات المصرية المُروَّج لها، تفتقر إلى الخبرة الفنية اللازمة لإدارة مشروعات بهذا الحجم [1].
الخسائر الاقتصادية والإنسانية: أرقام مرعبة
القطاع الزراعي: العمود الفقري المحطّم
كانت الزراعة توفر سبل العيش لنحو 70% من السكان [2]. ومع استمرار الحرب، خرج أكثر من 50% من الأراضي الزراعية عن دائرة الإنتاج، خاصة في مناطق الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، كردفان، ودارفور [3]. أدى توقف مشروع الجزيرة، الذي يعد أهم مشاريع الزراعة المروية في إفريقيا، إلى شل إنتاج القطن، الفول السوداني، والقمح. وقدرت الخسائر المباشرة للقطاع الزراعي بأكثر من 20 مليار دولار [4].
القطاع الصناعي: انهيار شامل
تركز النشاط الصناعي في السودان سابقًا في الخرطوم وعدد من المدن الرئيسية. ومع تصاعد العمليات العسكرية، تعرض أكثر من 60% من المنشآت الصناعية إلى الدمار الكامل أو الجزئي [5]. قدرت الخسائر المالية للقطاع الصناعي بحوالي 70 مليار دولار، إضافة إلى تفكك سلاسل التوريد وهجرة الكفاءات الصناعية، ما فاقم أزمة البطالة وأدى إلى تعميق الانهيار الاقتصادي [6].

القطاع الصحي: منظومة تنهار
شهد السودان انهيارًا شبه كامل للنظام الصحي، إذ توقفت أكثر من 70% من المستشفيات والمراكز الصحية عن العمل أو تعرضت للتدمير [7]. وسط هذا الانهيار، تفشت الأمراض المعدية مثل الكوليرا، الملاريا، وحمى الضنك [8]. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية [9]، فإن السودان يواجه اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الصحية في تاريخه الحديث، مع خسائر مادية للقطاع الصحي تتجاوز 13 مليار دولار.
تفشي الأوبئة: كارثة صحية موازية
تسبب الانهيار الصحي في تفشي واسع النطاق للكوليرا، الملاريا، وحمى الضنك [9]. أدى غياب الرقابة الصحية، وانهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتوقف حملات التطعيم، إلى انفجار وبائي حاد، تضاعفت معه معدلات الوفيات خصوصًا بين الأطفال وكبار السن.
قطاع التعليم: جريمة ضد المستقبل
على صعيد التعليم، فقد أكثر من 18 مليون طفل وشاب فرصتهم في التعليم بسبب استمرار الحرب [10]. دُمرت آلاف المدارس أو تحولت إلى معسكرات للنازحين، مما جعل العملية التعليمية مشلولة في معظم أنحاء السودان، مع مخاطر جسيمة بضياع جيل كامل.
القطاع المصرفي: ضربة قاتلة
تركزت نحو 70% من المراكز الرئسية للمصارف والفروع في الخرطوم قبل الحرب، وقد تم تدمير معظمها أو تعرضها للنهب [11]. أدى هذا إلى شلل النظام المصرفي، وانتشار الاقتصاد الموازي، وانهيار قيمة الجنيه السوداني.
قطاع الصادرات: نزيف بلا توقف
انخفضت الصادرات الزراعية والحيوانية بنسبة تفوق 80% [12]، بينما ازداد تهريب الذهب والمحاصيل عبر الموانئ السودانية بتواطؤ بعض القيادات العسكرية [13].
الفقر والمجاعة: وجه آخر للخراب
تجاوزت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر 70% [14]. كما يواجه نحو 17.7 مليون شخص خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد [15]، وسط تفشي المجاعة الصامتة في عدة مناطق وانعدام الاستجابة الإنسانية الكافية.
معاناة النازحين واللاجئين
أدى النزاع إلى تهجير أكثر من 10 ملايين سوداني داخليًا [16]، يعيشون في معسكرات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. كما فر نحو 2 مليون لاجئ إلى دول الجوار مثل مصر، تشاد، جنوب السودان، وإثيوبيا، وسط ظروف قاسية وانعدام للخدمات الأساسية.
الإعلام المأجور: صناعة الزيف وتضليل الناس
بموازاة الدمار العسكري، ينشط إعلام النظام السابق عبر قنوات ممولة بشكل ضخم لتزييف الحقائق، تغذية الكراهية العرقية، وتشويه الحركات المدنية السلمية [17].
الجزء الثاني يتبع غدا …….

الوسومإنهيار التعليم القطاع الصحي المستقبل عمر سيد أحمد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إنهيار التعليم القطاع الصحي المستقبل عمر سيد أحمد

إقرأ أيضاً:

العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان: شلّ الاقتصاد أم كبح آلة الحرب؟

العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان: شلّ الاقتصاد أم كبح آلة الحرب؟

عمر سيد أحمد

العقوبات من واشنطن إلى الخرطوم… ما بين الحساب والعقاب

في 24 أبريل 2025، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عزمها فرض عقوبات صارمة على السودان بموجب “قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لعام 1991”، وذلك بعد تأكيد استخدام الحكومة السودانية لأسلحة كيميائية في عام 2024، في خرق صريح لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي تُعد السودان طرفًا فيها.

القرار، الذي سُلِّم إلى الكونغرس الأميركي مرفقًا بتقرير يؤكد “عدم امتثال السودان”، يُمهّد لتطبيق حزمة من التدابير العقابية، تشمل حظر الوصول إلى خطوط الائتمان الأميركية، وتقييد الصادرات، وتجميد الأصول. ومن المتوقع أن تدخل هذه العقوبات حيّز التنفيذ في أو حوالي 6 يونيو 2025، عقب نشرها في السجل الفيدرالي الأميركي.

ورغم أن هذه العقوبات تأتي ردًا على خروقات خطيرة للقانون الدولي، فإن توقيتها في ظل حرب أهلية طاحنة، وانهيار اقتصادي شامل، وتوسع المجاعة والنزوح، يطرح تساؤلات أخلاقية واستراتيجية حول فاعليتها وجدواها، ومدى تأثيرها الفعلي على النخبة الحاكمة مقارنة بما تلحقه من أضرار مباشرة بحياة المواطنين واقتصاد الدولة.

تجربة السودان السابقة مع العقوبات (1997–2020)

بين عامي 1997 و2020، خضع السودان لعقوبات أميركية شاملة فرضت عليه عزلة اقتصادية ومصرفية خانقة، بتهم دعم الإرهاب واحتضان تنظيمات متطرفة. طالت العقوبات المؤسسات الحكومية والمالية، وحرمت السودان من:

استخدام النظام المصرفي العالمي المرتبط بالدولار. استقبال الاستثمار الأجنبي المباشر أو التمويلات الإنمائية. التحديث التكنولوجي والاتصال بأسواق المال.

أدت هذه العقوبات إلى تدهور البنية الاقتصادية، وزيادة الاعتماد على التهريب والاقتصاد الموازي، وهروب الكفاءات ورؤوس الأموال. ورغم الرفع التدريجي للعقوبات في 2017، إلا أن استمرار وضع السودان على قائمة الإرهاب حتى أواخر 2020 أعاق أي تعافٍ جاد، خصوصًا مع تعاقب الأزمات السياسية والانقلابات والحرب الأخيرة.

 العقوبات الجديدة – البنود والتوقيت

العقوبات الأميركية الجديدة، التي ستدخل حيز التنفيذ في يونيو 2025، جاءت كرد مباشر على ما وصفته واشنطن بـ”استخدام موثّق للأسلحة الكيميائية من قبل حكومة السودان”. وتشمل:

حظر التعاملات بالدولار الأميركي. تجميد أصول الحكومة والشخصيات المتورطة. منع الشركات الأميركية من تصدير تقنيات أو منتجات للسودان. حرمان السودان من الوصول إلى التمويل الأميركي أو الدولي المدعوم أميركيًا، خصوصًا عبر خطوط الائتمان أو التسهيلات المالية.

ما يضاعف من أثر هذه العقوبات هو هشاشة الوضع الداخلي، حيث يخوض السودان واحدة من أسوأ حروبه الأهلية، وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة المدنية.

ثالثًا: التأثيرات الاقتصادية المباشرة خروج فعلي من النظام المالي العالمي

السودان اليوم شبه معزول عن النظام المالي العالمي، ومع تنفيذ هذه العقوبات، ستفقد البنوك السودانية القدرة على:

فتح الاعتمادات المستندية لشراء السلع. تنفيذ التحويلات البنكية الرسمية. التعامل مع المؤسسات الوسيطة في التجارة الخارجية.

هذا يعني عمليًا إغلاق باب التجارة القانونية، وتوجيه كل النشاطات نحو السوق السوداء أو التهريب.

تهديد الأمن الغذائي والدوائي

مع صعوبة الاستيراد الرسمي، تتراجع واردات القمح، الدواء، الوقود، والأدوية المنقذة للحياة. ويؤدي ذلك إلى:

نقص حاد في الإمدادات الأساسية. تضاعف الأسعار نتيجة ارتفاع تكلفة التأمين والنقل. توسّع الفجوة في الخدمات الصحية. ضياع موارد الدولة من الذهب

في ظل غياب الرقابة وازدهار اقتصاد الظل، يُقدّر حجم الذهب السوداني المُهرّب بأنه يفوق 50 إلى 80% من الإنتاج السنوي. وقدرت الخسائر من التهريب خلال العقد الماضي بما بين 23 و36 مليار دولار. العقوبات الحالية تدفع بهذا المورد نحو مزيد من التهريب، وتُفقد الدولة فرصة استثمار أكبر كنز نقدي تملكه.

تعميق أزمة سعر الصرف

كل هذه التطورات تؤدي إلى:

تسارع تدهور الجنيه السوداني أمام الدولار. تزايد التضخم المفرط. انهيار القدرة الشرائية للمواطنين. رابعًا: من يدفع الثمن؟

رغم أن العقوبات تستهدف النظام السياسي والعسكري، إلا أن من يدفع الثمن فعليًا هو المواطن العادي:

العامل الذي فقد وظيفته بسبب توقف المصنع عن الاستيراد. المزارع الذي لا يجد سمادًا ولا وقودًا. المريض الذي لا يحصل على دواء. التاجر الذي يُجبر على التعامل عبر السوق السوداء. خامسًا: العقوبات كأداة سياسية – فعالة أم عقوبة جماعية؟

تاريخيًا، نادرًا ما أسقطت العقوبات الأنظمة القمعية. بل كثيرًا ما زادت من تماسكها عبر:

خطاب “الحصار الخارجي”. عسكرة الاقتصاد. قمع المعارضة بحجة الطوارئ.

وفي السودان، حيث الاقتصاد منهار أصلًا، ستدفع العقوبات الناس نحو مزيد من الفقر واليأس، دون ضمان أن تؤدي إلى تغيير حقيقي في سلوك النظام.

سادسًا: أهمية وقف الحرب فورًا

العقوبات في حد ذاتها خطيرة، لكن الحرب تجعلها كارثية. فكل يوم يستمر فيه القتال:

يُفقد السودان مزيدًا من موارده. ينهار الأمن الغذائي. يتوسع النزوح والدمار.

وقف الحرب هو الخطوة الأولى والأكثر إلحاحًا للخروج من هذه الدوامة. فبدون وقف إطلاق النار، لا يمكن التفاوض، ولا يمكن الإصلاح، ولا يمكن للعالم أن يستجيب لدعوات تخفيف العقوبات.

الآثار المتوقعة على إعادة الإعمار بعد الحرب

من أبرز التداعيات الخطيرة للعقوبات الأميركية المرتقبة أنها ستُقوّض بشدة فرص إعادة الإعمار بعد الحرب، حتى إذا تم التوصل إلى وقف إطلاق النار أو تسوية سياسية. إذ أن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة – من طرق ومرافق وخدمات عامة – تتطلب تمويلات ضخمة، لا يمكن تغطيتها من الموارد المحلية وحدها، خصوصًا في ظل الانهيار الكامل للإيرادات العامة وغياب مؤسسات الدولة الفاعلة. وبما أن العقوبات تشمل حظر الوصول إلى التمويل الأميركي وخطوط الائتمان، فإنها تحرم السودان من أي فرص واقعية للحصول على قروض ميسّرة، أو دعم من المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، أو حتى من شركات مقاولات عالمية. كما أن استمرار العقوبات يُعزّز مناخ عدم الثقة في السودان كبيئة استثمارية، ما يدفع المستثمرين للابتعاد عنه، ويطيل أمد العزلة الاقتصادية، وبالتالي يُجمّد أي مسار حقيقي نحو التعافي والتنمية بعد الحرب.

خاتمة: بين المحاسبة والإنقاذ

العقوبات الأميركية على السودان تُعبّر عن موقف دولي حازم ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، لكنها في سياق حرب داخلية وانهيار اقتصادي، تتحول إلى عقوبة جماعية تهدد بقاء الدولة ذاتها. المطلوب اليوم ليس فقط التعامل مع العقوبات، بل تغيير المسار السياسي والاقتصادي كاملاً.

وذلك يتطلب:

وقف الحرب فورًا. تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية. إصلاح شامل للقطاع المالي والمؤسسي. الشروع في مفاوضات مع المجتمع الدولي لرفع العقوبات تدريجيًا مقابل التزامات واضحة بالسلام والشفافية.

فالعالم لن يستثمر في بلد يحكمه الرصاص والتهريب، ولن يخفف عقوبات ما لم يرَ إرادة حقيقية للتغيير. والسودان، برغم الجراح، لا يزال يملك فرصة – لكنها تضيق كل يوم.

* خبير مصرفي ومالي وتمويل

مايو 2025

الوسومالإنقاذ الحرب الخرطوم السودان العقوبات الأمريكية على السودان القطاع المالي والمؤسسي النظام المالي العالمي سعر الصرف عمر سيد أحمد واشنطن

مقالات مشابهة

  • الفريق البسامي: ضبط أكثر من 400 شركة حج وهمية وإعادة ما يزيد عن 269 ألف مقيم مخالف داخل مكة
  • وزير الصحة: نسبة الرضا في المحافظات المطبقة لمنظومة التأمين الصحي تجاوزت الـ80%
  • ورشة عمل عن معالجة الصرف الصحي وإعادة الاستخدام في الزراعة بمياه قنا
  • العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان: شلّ الاقتصاد أم كبح آلة الحرب؟
  • حلقة حول سلسلة الإمداد في القطاع الصحي
  • اليونيسف: أكثر من 50 ألف طفل في غزة قتلوا أو أصيبوا منذ بدء الحرب
  • بن غفير يطالب بـ«إبادة شاملة» في غزة.. والأمم المتحدة تحذر: القطاع أصبح أكثر بقاع الأرض جوعًا
  • حرب السودان.. حجم خسائر القطاع الصناعي نحو خمسين مليار دولار
  • الإمارات.. جهود بارزة لدعم القطاع الزراعي في السودان
  • أونروا: القطاع الصحي في غزة منهار وتحول لحجيم