عربي21:
2025-12-13@14:02:11 GMT

المسيحية والإسلام في تاريخ مصر

تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT

في قلب الكنانة، حيث يلتقي التاريخ بالعقيدة، عاش المسيحيون الأقباط تحت ظلال الإمبراطورية البيزنطية التي سامتهم سوء العذاب، وفعلت فيهم مثلما فعل قبلهم الرومان الوثنيون الذين أسرفوا في القتل، لا سيما في عهد الإمبراطور دقلديانوس، الذي شهد عصره واحدة من أشرس حملات القتل والتعذيب، حتى أن الكنيسة القبطية بدأت تقويمها المعروف بـ"تقويم الشهداء" من بداية حكمه.



كانت الكنيسة القبطية، برمزيتها العميقة وتاريخها الصامد في وجه القمع والتنكيل، تواجه حربا مزدوجة؛ حربا على بقائها الروحي، وأخرى على وجودها الدنيوي. لم يكن الاضطهاد مجرد كلمة تُطلق، بل كان واقعا يُعاش في كل زاوية: صلبان تُحطم، ورجال دين يُنفون، وعقيدة تُوصم بالهرطقة فيُقتل أتباعها لمجرد اختلافهم عن مذهب الحاكم. ورغم ذلك، لم يتزحزحوا عن إيمانهم، ولم يتركوه.

لم يُسمح للأقباط ببناء كنائس جديدة، بل حتى الكنائس القائمة أُغلقت أو حُوّلت إلى معابد تتبع المذهب الملكاني المفروض من القسطنطينية. وقد ورد في كتابات المؤرخ القبطي سويرس بن المقفع أن كثيرا من الكهنة اختفوا عن الأنظار أو قُتلوا، وأن الناس "كانوا يتعبدون في السر، في البيوت أو المغارات". وذكر المؤرخ يوحنا النقيوسي أن "الاضطهاد لم يترك للقبط موضعا يتعبدون فيه إلا خلسة، خوفا من أنظار السلطة ورجالها".

كانت أصوات الاستغاثة ترتفع بلا مجيب، والعيون تتطلع إلى السماء طلبا للخلاص، في وقتٍ اشتدت فيه قبضة البيزنطيين وأمعنوا في القمع والتنكيل، حتى جاءت لحظة مفصلية في تاريخ مصر: الفتح الإسلامي لمصر عام 640م
كما بيّنت وثائق المجامع الكنسية القبطية أن بناء الكنائس كان محرّما بقرار إمبراطوري، واعتُبر خروجا عن الدين الرسمي للدولة. القيود لم تكن فقط دينية، بل اقتصادية واجتماعية أيضا. فقد جُرِّد الأقباط من مناصبهم، وفُرضت عليهم ضرائب باهظة، وعُوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم، كما حُرموا من الصلاة بلغتهم، وتم تغيير اللغة المستخدمة في المنشآت الحكومية إلى اللغة اليونانية، في محاولة من البيزنطيين لفرض لغتهم ومحو اللغة القبطية بالقوة.

كانت أصوات الاستغاثة ترتفع بلا مجيب، والعيون تتطلع إلى السماء طلبا للخلاص، في وقتٍ اشتدت فيه قبضة البيزنطيين وأمعنوا في القمع والتنكيل، حتى جاءت لحظة مفصلية في تاريخ مصر: الفتح الإسلامي لمصر عام 640م، والذي جاء -كما يذكر بعض المؤرخين- نتيجة لاستغاثة بابا الأقباط. فحارب جيش المسلمين جيش بيزنطة، وقُتل ثلث جيش المسلمين لتحرير الأقباط، كما وصف الكاتب الإنجليزي والتر إيمري.

لم يدخل المسلمون كغزاة يسفكون دماء الأقباط، بل دخلوا بلدا منكسرا، وشعبا أنهكه القمع، فلم يجدوا كنائس عامرة ولا كهنة ظاهرين، بل وجدوا ديانة خفية، وأمة صامتة تنتظر من يُنقذها.

وكان أول ما فعله عمرو بن العاص، القائد المسلم، أنه أرسل في طلب البابا بنيامين، بطريرك الأقباط، الذي كان مختبئا في صعيد مصر منذ 13 عاما. لم يطلب منه تغيير دينه، بل أمّنه وأعاده إلى كرسيه البطريركي في الإسكندرية، وأعاد فتح الكنائس، ومنح الأقباط حريتهم الدينية التي طالما حلموا بها.

ثم رحل الجيش الإسلامي عن أرض مصر، ولم يبقَ سوى عدد يتراوح بين 500 إلى 4000 رجل، حسب ما ذكره المؤرخون، وهؤلاء الرجال كانوا من طلاب العلم، ظلوا ليُعلّموا الناس تعاليم الإسلام. لم يفرضوا الإسلام، بل عاشوا في كنف المجتمع. ومع مرور الوقت، بدأ الأقباط يقتربون من الإسلام، لا خوفا ولا إكراها، بل رغبة في فهمه، واقتناعا بعدله.

وهنا يأتي السؤال: كيف انتشرت اللغة العربية وصارت هي لغة مصر بينما كان عدد العرب المسلمين الذين تركهم الجيش من 4000 إلى 500 فرد، بينما كان عدد الأقباط 7 ملايين شخص؟

الإجابة ببساطة تقوض كل سرديات الإكراه والاضطهاد، فالأقباط بعدما شعروا بالأمان في ظل دولة الإسلام، ورأوا الفرق بين المسلمين وغيرهم ممن حكموهم، حتى أولئك الذين كانوا على ملتهم ولكن اختلفوا في المذهب، بدأوا في الإقبال على معرفة هذا الدين وتعاليمه، والدخول فيه، ثم بدأوا في تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن.

وهكذا، كان الأقباط أنفسهم من نشروا اللغة العربية، وهم من نقلوا هذا الدين الجديد فيما بينهم، لا خوفا ولا رهبة، بل حبا واقتناعا. وهو ما يفسر أن عدد المسلمين في مصر اليوم يقترب من 100 مليون.

نسيج مجتمعي جديد من الأقباط: مسيحيون ظلوا على دينهم يمارسونه بحرية، وأقباط اعتنقوا الإسلام لا كرها ولا قسرا، بل اقتناعا. فليس من العقل أن شعبا ذاق كل صنوف العذاب لقرون ولم يترك دينه، يتركه مجبرا بعد أن أمن العذاب
لم يُجبَر الأقباط على الإسلام، بل مارسوا عقيدتهم بحرية، ودفعوا الجزية التي كانت أقل وطأة من ضرائب البيزنطيين، وأُعفي منها الفقراء والرهبان والعجزة. لم تُفرض عليهم اللغة أو الدين بالقوة، وإنما كانت التحولات نابعة من التفاعل والتعايش.

ومع مرور الوقت، بدأت تُنسج قصة جديدة على أرض مصر. نسيج مجتمعي جديد من الأقباط: مسيحيون ظلوا على دينهم يمارسونه بحرية، وأقباط اعتنقوا الإسلام لا كرها ولا قسرا، بل اقتناعا. فليس من العقل أن شعبا ذاق كل صنوف العذاب لقرون ولم يترك دينه، يتركه مجبرا بعد أن أمن العذاب.

أما في الحياة الاجتماعية، فلم يكن الأقباط معزولين عن الدولة الجديدة بعد دخول الإسلام، كما حدث معهم في السابق، بل تولّى عدد منهم مناصب عليا في الجهاز الإداري للدولة الإسلامية عبر تاريخها، مثل:

- ابن أبي السرح القبطي، مترجم وكاتب في عهد عبد العزيز بن مروان.

- إسطفان بن باسيل، مسؤول عن ديوان الخراج.

- بطرس بن رومانوس، من كبار موظفي الدولة العباسية.


وكذلك غيرهم من الأسماء التي تؤكد أن الأقباط ظلوا جزءا من نسيج الدولة الإسلامية والمجتمع.

إن الرواية التي تقول إن الفتح الإسلامي كان احتلالا هي رواية باهتة لا تصمد أمام الوثائق والشهادات الموثقة في العديد من كتب المؤرخين المسيحيين المصريين أو الغربيين:

- "تاريخ البطاركة"، ساويرس بن المقفع.

- "تاريخ الكنيسة القبطية"، إيريس حبيب المصري.

قصة الفتح الإسلامي لمصر ليست فقط فصلا من التاريخ، بل شهادة حيّة على عدالة الإسلام، وعلى صلابة أقباط مصر وصبرهم وتمسّكهم بهويتهم
- ألفرد بتلر، الذي قال بوضوح إن "الفتح الإسلامي لمصر لم يكن غزوا، بل تحريرا للأقباط من اضطهاد استمر قرونا".

ولعل الأجمل في هذه الحكاية ليس فقط ما جرى، بل ما بقي في وجدان وجينات الأقباط بمسلميهم ومسيحييهم، وهي جينات مقاومة المحتل. فتمسّك الأقباط بلغتهم القبطية في وجه الاحتلال الروماني والبيزنطي كان فعلا مقاوما، كما قاوم المصريون اللغة الفرنسية والإنجليزية إبان الاحتلال، ورفضوها.

وهكذا، فإن قصة الفتح الإسلامي لمصر ليست فقط فصلا من التاريخ، بل شهادة حيّة على عدالة الإسلام، وعلى صلابة أقباط مصر وصبرهم وتمسّكهم بهويتهم.

ختاما، فإن هذا المقال لا يسعى إلا إلى توضيح الحقائق وردع أي محاولات لضرب النسيج المجتمعي في مصر. وندعو أبناء الوطن من المسلمين والمسيحيين إلى قراءة التاريخ بعين الباحث عن الحقيقة، لا بعين الأهواء والتعصّب.

إن صلابة الأقباط، وعدالة الإسلام، وقدرة مصر على احتضان الجميع، تشكل أساسا متينا لوطن واحد، لا يفرّق بين أبنائه، بل يوحدهم تحت راية العدالة والكرامة والاحترام المتبادل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الاضطهاد مصر عدالة مصر اسلام اقباط اضطهاد عدالة مدونات قضايا وآراء مدونات مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة

د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • العربية لغة الحياة
  • إلهام أبو الفتح تكتب: المناظرة الكبري
  • تنظيم ندوتين لطلاب مدرستين بمركزي الفتح وأسيوط لتعزيز الخصائص السكانية
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • صحة أسيوط تتسلم ثلاث وحدات صحية جديدة بـ "بني مر والقوطا والعصارة" لخدمة المواطنين
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • «قتل الجماعة للواحد»
  • الإعادة بين 6 مرشحين بمركز الفتح بأسيوط بانتخابات مجلس النواب 2025
  • الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن الإعادة بين 6 مرشحين بدائرة الفتح بأسيوط
  • البابا تواضروس يهنئ الأقباط ببدء شهر كيهك