مقدمة
تناولت الرواية السودانية المعاصرة موضوع الرق بوصفه ميراثًا مركبًا، يتجاوز الحكايات التاريخية إلى تمثيل علاقات القوة والهوية في الحاضر. فالعبودية ليست مجرد مرحلة تاريخية في ذاكرة الشعوب، بل تستمر كطبقات متراكمة من القهر والوصم الاجتماعي في سرديات ما بعد الاستعمار. من خلال هذا المقال، نرصد كيف عالج عدد من الروائيين السودانيين موضوع الرق، سواء عبر إعادة تمثيل الماضي أو مساءلة الحاضر، مع تقديم ملاحظات توثيقية ونقدية تعزز فهم القارئ لأبعاد هذا التناول الأدبي.



الرق في "شوق الدرويش": العبودية كجذر للهوية السودانية

في رواية شوق الدرويش لحمور زيادة، يتجلى موضوع الرق من خلال شخصية "بخيت منديل"، العبد السابق الذي يعيش في نهايات القرن التاسع عشر، متقاطعًا مع صعود وسقوط دولة المهدية. تُعيد الرواية بناء التاريخ، لا كماضٍ مغلق، بل كحقل يتجدد فيه العنف وتتناسخ فيه السلطة باسم الدين والحرية. إذ تُظهر الرواية أن الإمام المهدي، رغم خطابه التحريري، أعاد إنتاج نظام عبودي مقنَّع، خاصةً في ممارسات خلفائه.

هذا التحليل يتطلب توثيقًا دقيقًا، إذ أن بعض الدراسات (مثل المهدية في السودان لبيتر هولت) تبيّن أن المهدي نفسه حظر تجارة الرق رسميًا، غير أن الدولة المهدية في مراحلها اللاحقة اعتمدت على نظام الرق لتمويل حروبها، ما يبرر قراءة حمور زيادة المتشككة في الخطاب المهدوي التحريري.

الرواية تتعامل مع الرق لا كحادثة تاريخية بل كخبرة وجودية تشكّل الوعي. علاقة بخيت بكاترين، الأوروبية التي تسكن الخرطوم، تُعبّر عن أزمة الحرية والانتقام والهوية. بخيت، العبد السابق، يتحوّل إلى قاتل باسم الحب، في استعادة فانونية لفكرة العنف كوسيلة تحرر. لكنه في النهاية لا يتحرر، بل يتحول إلى نسخة مشوهة من جلاده.

"366" وأطياف الرق المعاصر: الخادمة السودانية كجسد غير مرئي

في رواية 366 لأمير تاج السر، وإن لم تكن مكرسة لموضوع الرق، إلا أن الخادمة السودانية في الخليج تُمثل ترميزًا لعبودية حديثة: الجسد الأسود الذي يُستغل في الهامش، والهوية التي تُمحى داخل فضاءات الحداثة. شخصيتها بلا اسم، بلا تاريخ، تُستخدم وتُنسى. ربما وقع خلط في النص الأصلي حين تم ربط الرواية بالموريسكيين؛ إذ أن موضوع الرواية يدور حول واقع المهاجرين السودانيين، لا الطرد الأندلسي، وهو ما يوجد ربما في روايات أخرى لتاج السر مثل العطر الفرنسي.

التباس العناوين: "حدائق الرئيس" والخلط بين المؤلفين

ورد في النص الأصلي أن حدائق الرئيس رواية للكاتب السوداني ستانلي بشرى، وهو خلط يستوجب التصحيح. الرواية المعروفة بهذا العنوان كتبها العراقي أحمد سعداوي (2019)، بينما يكتب ستانلي بشرى – وهو من جنوب السودان – في مجال مختلف، يُعنى بصراع الهويات ما بعد الانفصال، والمقاومة الثقافية للوصم العرقي. من المهم التمييز بين الأسماء والتجارب، لا سيما في بيئة أدبية تتشابك فيها العناوين والمواضيع.

المرأة الشبح والأساطير الشعبية: الحاجة إلى توثيق أنثروبولوجي

في إشارات النص إلى "أسطورة المرأة الشبح" في جنوب السودان، يتطلب الأمر مرجعية واضحة. الأساطير الشفهية في جنوب السودان تُوثق أحيانًا في أعمال فرانسيس دينق، الذي ركز على البنية الرمزية للقصص الشعبية لدى الدينكا. مثل هذه الرموز تمثل الذاكرة الجماعية والصراع مع السلطة الذكورية، لكنها تحتاج توثيقًا ميدانيًا حتى لا تظل في نطاق الافتراض الأدبي.

إغفال الجنوب السوداني: الحاجة إلى سرديات موازية

من أبرز الملاحظات أن النص ركز على شمال السودان، متجاهلًا أدب جنوب السودان، خاصة بعد الانفصال. روايات مثل الراقصون في العاصفة لأكول بول، أو أعمال جوزيف أوكلي، تُعيد مساءلة الرق من منظور جنوبي، حيث لم يكن الجنوبي عبدًا فقط، بل مشاركًا في مقاومة تلك البنية. هذا التغييب يُعيد إنتاج المركزية الثقافية التي كثيرًا ما تتّهم بها النخبة السودانية.

المصطلحات القانونية: من الرق إلى "أنماط شبيهة بالرق"

عند الحديث عن النازحين أو الأطفال المستغلين، من الأفضل استخدام تعبير "أنماط شبيهة بالرق"، لأن "الرق" كمصطلح قانوني يحدد ممارسات معينة مشمولة باتفاقيات دولية (مثل اتفاقية 1926). ويشمل ذلك السخرة، الاتجار بالبشر، والزواج القسري، وكلها حاضرة في السياقات السودانية، لكنها تختلف في توصيفها القانوني والأدبي.

مقاومة الرق في الذاكرة التاريخية: الزنج والبجة وأنماط التمرد

للرق تاريخ مقاومة طويلة في المنطقة، من ثورة الزنج في القرن التاسع إلى مقاومة قبائل البجة في الشرق. هذه الحركات لم تُستثمر روائيًا بشكل كافٍ، وكان من الممكن أن تضيف بعدًا آخر لفهم الرق كبنية مقاومة، لا فقط كقهر. كذلك، في جبال النوبة، قاومت طوائف محلية محاولات استعبادها في بدايات القرن العشرين، وهي مادة أدبية غنية تنتظر الاستدعاء.

نحو إطار نقدي أعمق: ما بعد الاستعمار والتابع الذي لا يتكلم

كان من المفيد تأطير النقاش داخل مفاهيم ما بعد الاستعمار، مثل مفهوم التابع لغاياتري سبيفاك، الذي يسائل: هل يستطيع التابع – أو العبد السابق – أن يتكلم؟ هل هو ذات فاعلة أم مجرد صدى لخطابات السلطة؟ كذلك، يمكن استدعاء مفاهيم فرانتز فانون حول "أقنعة الرجل الأسود" والعنف بوصفه تطهيرًا نفسيًا.

الرواية السودانية في تعاملها مع موضوع الرق، لا تكتفي بوصف المأساة، بل تُعيد صياغة الذاكرة والهوية.
غير أن هذا التناول الأدبي يحتاج مزيدًا من التوسيع، والتوثيق، والانفتاح على تجارب الهامش – من الجنوب، والشرق، والغرب – مع توظيف أكثر وعيًا بالأطر النظرية والنقدية الحديثة.
الرق ليس ماضيًا فقط، بل شبحٌ يتنكر في وجوه جديدة: في دواخلنا وأحساسنا بالاخرين وفي المدن، في العمالة، في العلاقات، وفي اللغة. والرواية هي وسيلتنا الأذكى لمطاردته أن أستطعنا فعل ذلك .

هوامش ومراجع مقترحة:

Peter Holt, The Mahdist State in the Sudan (Oxford University Press, 1958).

Richard Hill, Slavery in the Sudan (Frank Cass, 1983).

Gayatri Chakravorty Spivak, Can the Subaltern Speak? (1988).

Franz Fanon, Black Skin, White Masks (1952).

Chinua Achebe, Things Fall Apart (1958).

Francis Deng, Dinka Folktales (African World Press, 1993).

ILO, Global Estimates of Modern Slavery (2017).

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: جنوب السودان ما بعد

إقرأ أيضاً:

حلقة عمل كتابية تستعرض كيفية توظيف المكان في العمل الأدبي

نفذ النادي الثقافي حلقة عمل كتابية بمحافظة مسندم بعنوان "كيف تحكي قصة المكان؟"، قدمها الحائز على جائزة البوكر العربية زهران القاسمي، على مدار يومين، وذلك بقاعة منتجع أتانا مسندم بولاية خصب.

وهدفت الحلقة إلى التعرف على أنواع المكان وأشكاله وكيفية كتابته، كما هدفت إلى تدريب المشاركين على تقنيات إلقاء الضوء على المكان داخل الحكاية، وتناولت محاور متعددة منها أنواع المكان باعتباره مطلق ومحدود.

وعن أشكال الكتابة التي قدمها القاسمي للمشاركين، هي: الوصف باعتباره وصف لتفاصيل المكان كما هو، والصورة الفنية وهي إضفاء الحالة الحسية والانفعالية في وصف المكان مثل مشاعر الفرح والحزن والغضب والخوف، كما قدم أنواع الأزمنة الحاضر والماضي والمستقبل، وأشكاله مثل الساعة، والوقت، والسنة، والأسبوع في محاولة لتدريب المشاركين على توظيف الزمان في الحكاية؛ إما بالطريقة التراتبية أي أن يكون الزمن مستمرا دون انقطاع أو عن طريق الفترات الزمنية التي يصح فيها انقطاع الزمن أو اختزاله.

وخلال حلقة العمل، تداخلت نقاشات المشاركين للاستفادة من تجربة الروائي وأثرت نقاشاتهم محاور الجلسة، كما تم التعرض لأعمال روائية عمانية وعالمية للاستشهاد على تقنيات السرد المكاني المختلفة.

وفي ختام الجلسات، قدم الكاتب العديد من التمارين الكتابية في محاولة لتنقيح أعمال المشاركين الكتابية، واستحسن المشاركين مثل هذه الجلسات العملية التي يقدمها النادي الثقافي للمهتمين للتعريف والتدريب على الكتابة الإبداعية.

من جانبها، أشارت مكية بنت حسن الكمزارية إحدى المشاركات بالحلقة إلى أن مثل هذه الحلقات تشجع الملكة الكتابية على المضي قدما، كما أن المكان في الحكاية موضوع يحمل بين طياته ذاكرة مكانية تختزل العديد من الصفحات والزوايا، لذا كانت الإشارة المكانية وتشجيع المشاركين على إنتاج نصوص تقولب المكان وتوظيفه بمهارة هدفا لامس جميع المشاركين في حلقة العمل وشجعهم على إنتاجها.

من جهة أخرى، التقى فريق النادي الثقافي أعضاء صالون مسندم الثقافي وتم خلال اللقاء تبادل الآراء ومناقشة قضايا متنوعة تهم المجتمع، والثقافة، والفكر، وأكد اللقاء أهمية التركيز على المواضيع التي تهم المجتمع لتحقيق النجاح والاستدامة في الصالون الثقافي، كما ناقش اللقاء خطة الصالون الثقافي خلال الأشهر القادمة، منها تعزيز الحوار واكتشاف المواهب ونشر الوعي، بالإضافة إلى إقامة فعاليات حوارية مع المثقفين والأدباء أو إقامة أمسيات شعرية وحلقات عمل متنوعة، وجلسات حوارية حول قضايا تهم المجتمع، وذلك في إطار خطة زمنية قابلة للتنفيذ، ونشر هذه الفعاليات على منصات التواصل الاجتماعي.

مقالات مشابهة

  • عناوين الصحف السودانية الصادرة اليوم الأحد
  • الحكومة السودانية ترحب ببيان مجلس السلم والأمن الأفريقي
  • تركيا تطرق الأزمة السودانية بشدة.. ولقاء يجمع الرئيس السيسي وهاكان فيدان
  • تصحيح امتحانات الشهادة السودانية منتصف أغسطس
  • عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية السودانية اليوم الجمعة 8 أغسطس2025م
  • تقديرا للموقف المصري.. صحفي يكشف سبب اختيار رئيس الحكومة السودانية القاهرة كأول زيارة له
  • السفارة السودانية بتشاد تتسلم سيارات نُهبت من السودان خلال فترة الحرب
  • حلقة عمل كتابية تستعرض كيفية توظيف المكان في العمل الأدبي
  • برلمانية: العلاقات المصرية السودانية تاريخية.. ومصر حريصة على تجاوز أزمة الأشقاء بسلام
  • القوات الجوية السودانية: دمرنا طائرة تابعة لمليشيا الدعم السريع تقل مرتزقة كولومبيين