نشرت صحيفة "معاريف" العبرية، مقالا، للكاتبة صوفي رون موريا، قالت فيه إنّ: "أزمة تهرّب اليهود المتدينين من الخدمة العسكرية، في صفوف الاحتلال، تزداد، وسط تنامي رفض استجابة جنود الاحتياط لأوامر الاستدعاء التي بدأ يصدرها الجيش، فيما يواصل الحريديم بثّ بعض الخرافات الشائعة حول تجنيدهم".

وبحسب المقال الذي ترجمته "عربي21" فإنّ: "الخرافة الأولى التي يُردّدها الحريديم لرفض الخدمة العسكرية، تعود لقرار رئيس أول حكومة، ديفيد بن غوريون عام 1951، حين استجاب لطلب الحاخام أبراهام يشعياهو كارليتز بإعفاء 400 من طلاب المدارس الدينية".



"بزعم استعادة عالم التوراة، الذي عانى من ضربة قاتلة في الهولوكوست في أوروبا، لذلك يمكن تعريف قراره بأنه أمر مؤقت، كترتيب لبضع سنوات، حدّ أقصى لفترة جيل، ولكن ليس لمدة 74 عامًا أو أكثر" تابع المقال نفسه.

وأضاف بأنّ: "هذه الخرافة تتبدّد بلغة النسب المئوية، ففي عام 1951، بلغ عدد السكان اليهود بإسرائيل 1.4 مليون نسمة، واعتبارًا من عام 2024، يعيش 7,250 مليون يهودي، وإذا كانت الدولة ينبغي أن تمنح ألفي حريدي إعفاء كل عام من الخدمة العسكرية، فإن هذا لا يعني توفير إعفاء شامل لجميع المنتمين لهذا القطاع الحريدي".

·     المعاهد الدينية
أشارت موريا في مقالها إلى أنّ: "الخرافة الثانية تتعلق بدعم المجتمعات اليهودية على مرّ الأجيال لطلاب المعاهد الدينية، ولفترة محدودة، بجانب دعم النخبة فقط على مرّ الزمن لتنشئة الحاخامات والمفسرين، لكن ما يحصل اليوم أنّ مجتمع الطلاب، الذي يدرس فيه معظم الرجال في المعاهد الدينية طوال حياتهم هو تحريف وُلد في القرن العشرين بمبادرة من الزعيم الروحي الليتواني الحاخام كارليتز، وبالتالي فإن دعم المجتمع لطلاب المعاهد الدينية التابعين له، من مجتمع آخر، مسألة أجنبية وبعيدة".

وأكدت أنّ: "الخرافة الثالثة تتعلق بأن الحريديم يدرسون التوراة بدلًا من العلمانيين، وعندما يُعلن الحاخام موشيه غفني، الذي يجلس على المنصة منذ جيل، كرئيس للجنة المالية في الكنيست، عن رؤيته المتمثلة بأنّ: نصف اليهود سيدرس التوراة، وسيخدم النصف الآخر في الجيش، ويعمل".

"إنّه يسعى لفرض الاتفاق على المجتمع الإسرائيلي، مع أنهم في الكُنُس والمدارس الدينية الحريدية، لا يُصلون من أجل سلام الدولة والجنود، بل يُربون تلاميذهم على كراهية الدولة، والانفصال عن رموزها، والامتناع عن أيام الحداد" تابعت الكاتبة.

وأضافت بأنّ: "الخرافة الرابعة مُهمّة للديموغرافيا، ففي العائلات الأرثوذكسية المتشددة، يكون مُعدّل المواليد بأعلى مستوياته، ويزيدون من عدد السكان اليهود، فكيف إذن يمتنعون عن العمل في الوظائف العامة، ولا يتجندون في الجيش، ويتفرّغون فقط لإنجاب الأطفال".


·     تزايد مواليد المتدينين
أكدت أنّ: "الخرافة الخامسة مفادها سبب تركيز الدولة على المتدينين المتشددين للانخراط في الخدمة العسكرية، وعدم توجيه ذات التركيز على فلسطينيي48، بزعم أنهم لا يتطوعون في صفوف الجيش، مع أن هذا الادعاء يتجاهل أن الدولة تتعامل مع فلسطينيي48 على أنهم أقلية غير يهودية من جهة، ومن جهة أخرى، أين المنطق في توزيع أسلحة الجيش على عشرات الآلاف من الشباب المسلمين".

وأضافت: "الخرافة السادسة تتعلق بأن عدم انخراط اليهود المتشددين في التجنيد، لأن الجيش غير مُجهّز بما يسمح لهم بالحفاظ على نمط حياتهم، مع أن الجيش مستعد لتزويد الجندي الحريدي بطعام الحلال "كوشير"، لكن ليس من المفترض أن يُعيد الجيش للجندي العادات الاجتماعية التي عفى عليها الزمن".

ولفتت إلى أنّ: "الخرافة السابعة هي أنّ: الجيش في حالة حرب، ويخوض حرب "السيوف الحديدية"، التي دفعت الدولة لحافة الهاوية، فإذا لم يكن آن أوان انخراط الحريديم بالخدمة العسكرية، وعندما يحتاج الجيش المزيد من القوى العاملة، فمتى إذن؟".

ومضت بالقول إنّ: "الخرافة الثامنة مزاعم الحريديم بإمكانية حلّ المشكلة بالاتفاق والحوار، مع أن كل محاولات التصرف بحذر دفعت الحريديم للانعزال عن الدولة، بل ومقاومتها، ولذلك فإن الهدف من هذا الادعاء هو تفويض السلطة، والدولة لا تتعامل مباشرةً مع الشاب الحريدي، بل تتواصل معه من خلال قيادات مجتمعه، كما لو كان مواطنًا من دولة أخرى".

وأردفت بأنّ: "الجيش لن يُجنّد الشباب الحريدي، وستُحدّد الحكومة الحصص المخصصة لهم من التجنيد، حيث ستُقرّر قيادتهم من سيُدرجون في سلّم التجنيد سنويًا، كما لو كانت إسرائيل روسيا القيصرية أو الإمبراطورية النمساوية المجرية".

·     معاداة الصهيونية
أشارت الكاتبة إلى أنّ: "هذا ليس نهجًا مُعاديًا للصهيونية فحسب، بل إن مثل هذا "الحوار" لا يملك أي فرصة للنجاح، لأن الهدف المشترك للفصائل الحريدية الحفاظ على الوضع الراهن القائم، وإبقاء شبابها بالقوة في الغيتو الذي سمحت الحكومات بإنشائه".

واستدركت: "من الواضح أن هناك سبيلاً آخر، دون الحاجة لإخراج المتهرّبين من منازلهم بالقوة، بل وقف تمويل المؤسسات المعادية للصهيونية، وعدم دفع المنح الدراسية، والامتناع عن تقديم المزايا للشباب الذين لم يلتحقوا بالجيش، وفي هذه الحالة، فلن يكون هناك أي تهرب خلال بضع سنوات".

وأضافت بأنّ: "الخرافة التاسعة التي يرددها الحريديم: لماذا الآن تعود المطالبة بتجنيدهم في صفوف الجيش، وعلى الفور تصدر الإجابة بأنها محاولة لإسقاط الحكومة اليمينية، مع أن الوقائع التاريخية تُكذّب ذلك، لأن عدم تجنيد تم تكريسه في تشريع 1958، وفي 1975، حدّدت المحكمة العليا حصة الإعفاءات بـ800 حريدي سنويًا".

وأشارت إلى أنه: "حين صعد مناحيم بيغن للسلطة عام 1977، بات الحريديم نقطة تحول في التنافس المستمر بين حزبي الليكود والعمل، وشكّل ائتلافًا اعتمد عليهم، ومنذ ذلك الحين، دأب كل رئيس وزراء، من إسحاق شامير إلى شمعون بيريز، ومن إسحاق رابين إلى بنيامين نتنياهو، على دفع رشاوى للفصائل الحريدية مقابل السلطة".


·     السابع من أكتوبر
أكّدت أنّ: "توقيت تجدد الدعوة لتجنيد الحريديم مرتبط بالحرب الدائرة على غزة، ولولاها فربما سمح المجتمع الإسرائيلي للنظام السياسي بمواصلة التأجيل والتسويف لعدم تجنيدهم، رغم أن ذلك معارضة للواقع القاسي الذي يُجنّد فيه الجيش جنود الاحتياط مرارًا وتكرارًا، ويُمدّد الخدمة النظامية، بينما يواصل الشباب والشابات في القطاع الحريدي التهرب من الخدمة، وتكافئهم الدولة على ذلك".

"هذه خرافة مرتبطة بذات الخرافة التي دأب الإسرائيليون على تكرارها عقودا طويل،ة وهي أنّ الدولة قد تكتفي بجيش صغير وذكي، لذلك لم تكن هناك حاجة لتجنيد الحريديم، حتى جاء السابع من أكتوبر، وانهار هذا الادعاء الوهمي" استرسلت الكاتبة عبر المقال الذي ترجمته "عربي21".

وختمت بالقول إنّ: "الخرافة العاشرة تتمثل في مواصلة جميع قادة المعارضة: ليبرمان ولابيد وغانتس وآيزنكوت وبينيت، الذي سيتولى السلطة قريبًا، دعم إلغاء تجنيد الحريديين، وتمويل عشرات الآلاف منهم مقابل الوصول للسلطة، لأنه منذ الأزمة السياسية في 2019، عندما شكل نتنياهو كتلة الليكود-الحريديم، فقدت فصائلهم مكانتها كرأس الميزان".

وختمت بالقول إنّ: "المواجهة المتوقعة في الانتخابات المقبلة ليست بين نتنياهو ويائير غولان، بل بين الليكو-بن غفير وليبرمان وبينيت، النقاش ليس سياسيًا، بل يركز على طبيعة الدولة، وهنا لم يعد الحريديم رأس الميزان، بل هم القضية برمّتها".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة دولية الاحتلال غزة غزة الاحتلال تجنيد الحريديم المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المعاهد الدینیة الخدمة العسکریة فی صفوف إلى أن

إقرأ أيضاً:

الحرية الدينية في الإسلام.. بين الانضباط الشرعي والجدل المفتوح

تنشر "عربي21" هذا المقال بالتزامن مع نشره على الصفحة الرسمية للدكتور عبد المجيد النجار، الكاتب والباحث في شؤون الفكر الإسلامي، الذي يتناول فيه موضوع الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية.

في هذا المقال، يعالج الدكتور النجار مفهوم الحرية بوجه عام، ويتفرع منه إلى الحرية الدينية، موضحًا موقعها في بنية الشريعة الإسلامية، ومحددًا الأبعاد التي تشملها والضوابط التي تنظمها.

ويستعرض الكاتب أهم الإشكالات التي تحيط بالحرية الدينية في الخطاب المعاصر، سواء من داخل الدائرة الإسلامية أو من خارجها، بين من يضيّق مفهومها حتى يكاد ينفي وجودها، ومن يوسّعها حتى يتجاوز بها الإطار الشرعي. ويؤكد أن الموقف المتزن لا يُستمد إلا من النصوص الإسلامية ومقاصدها، بعيدًا عن ردود الأفعال أو التأثر بالمفاهيم المستوردة.

قيمة الحرية

من أكثر القيم التي تستأثر بالاهتمام اليوم قيمة الحرية، ومن ضمنها الحرية الدينية، فيكاد لا يخلو محفل عالمي أو محلي من حديث عن الحرية في أبعادها المختلفة وخاصة منها البعد الديني، ومن أجلها أقيمت المؤسسات، وأُنشئت المنظمات، وانتظمت المؤتمرات، والمحور دائما هو المطالبة بالحرية، والنضال من أجل الحصول عليها، ومقاومة الاعتداء عليها. والعالم الإسلامي يتوفّر على حجم كبير من هذه المناشط؛ وذلك لأن الحرية فيه تعيش حالة مخاض عسير بين مفاهيم غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف، وانتهاكات واقعية لما هو متفق عليه من حدودها على أصعدة مختلفة سياسية وفكرية ودينية.

وفي هذا الخضمّ النظري والعملي المتلاطم تتأرجح الحرية الدينية بين من يذهب بها إلى تضييق يكاد يلغي حقيقتها، ومن يذهب بها إلى توسيع يكاد ينقلب بها إلى الفوضى، وبما أنّ الشريعة الإسلامية قد جاءت مبينة لهذه الحرية من حيث حقيقتها وحدودها وضوابطها، فإن المتكلم في الحرية الدينية ينبغي أن يلتزم فيها بتلك الحدود والضوابط حتى يكون رأيه صادرا عن المفهوم الشرعي، فلا يميل إلى هذا التوسيع أو إلى ذلك التضييق فيحيد عن رأي الدين من حيث يحسب أنه عنه يصدر.

إذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية،ومما يزيد من تأكّد الضبط  للحرية الدينية وفق الرؤية الشرعية ما نراه يتوجّه إليها في هذه الرؤية من شُبه ترد أحيانا من الخارج وتأتي أحيانا من الداخل. فالبعض من خارج الدائرة الإسلامية يزعم أن الحرية الدينية في الإسلام هي قيمة مهدرة، إذ الإكراه الديني هو المعنى الذي تتضمنه نصوصه، وهو الذي جرى به التاريخ، وربما مالأه في هذا الرأي بعض من الداخل ممن هم متأثرون بنفس الوجهة. والبعض من داخل الدائرة الإسلامية تعدّى بالحرية الدينية ضوابطها فانتهى بها إلى تمييع لا تبقى معه لهذه الحرية حقيقة ثابتة.

وكل من هذا وذاك يدعو إلى تحقيق علمي في شأن هذه الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، من حيث حقيقتها، ومركزها في الدين، ومن حيث أبعادها وضوابطها، ومن حيث ضماناتها وتطبيقاتها، مقارنة في ذلك بالحرية الدينية في الأديان والمذاهب والقوانين، وردا على الشُبه التي توجّه إليها في مختلف هذه العناصر.

1 ـ الحرية والحرية الدينية

ربما اختلفت تعاريف الحرية اختلافا كبيرا بحسب الناظر فيها بين مضيق وموسّع في مدلولها، وربما انعكس ذلك الاختلاف أيضا على الحرية الدينية بذات الأسباب، ولكن قدرا معينا من المعنى في كل منهما قد يكون مشتركا بين المختلفين في التعريف، ويبقى ما بعده محل اختلاف لا يعود على الأصل المشترك بالنقض، وهو ما يمكن أن يعتمد في التحليل والتأصيل، مع مراعاة مناطق الاختلاف لخصوصيات المعرفين والمحللين.

أ ـ الحرية

تعني الحرية في أقرب معانيها أن يكون الإنسان متمكّنا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القولية والتصرفات السلوكية، سواء على مستوى الفرد في خاصّة نفسه أو على مستوى انتمائه الجماعي. إلا أنّ هذه الحرية في الاختيار يبقى معناها قائما ما لم تعد على أصلها بالنقض، كأن يكون الاختيار شاملا لما فيه إلحاق الضرر بالآخرين من الناس، وهو الحدّ الذي ينتهي إلى هدم الحياة الجماعية، بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية؛ ولذلك فإنه لا يُتصوّر معنى حقيقي للحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها فلا تنقلب إلى فوضى مدمّرة تأتي عليها هي ذاتها بالإبطال؛ ولذلك قال أبو زهرة عن حقيقة الحرية: إنها" تتكون من حقيقتين: إحداهما السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا الخضوع لحكم الهوى، والثانية، الإحساس الدقيق بحق الناس عليه وإلا كانت الأنانية، والحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان".

ويشمل معنى الحرية أول ما يشمل حرية التفكير وهي أن يكون العقل في حركته إلى معرفة المجهول ينطلق في تفكير لا تحكمه إلاّ المقتضيات المنطقية التي تفرضها طبيعة العقل في تركيبه الفطري، ولا يتعامل إلاّ مع المعطيات الموضوعيّة للقضيّة المبحوث فيها كما هي في الواقع، سالما في ذلك من أيّ توجيه من خارجه إلى نتيجة مسبقة يُراد له أن يصل إليها، ومن أيّ قيد لا تقتضيه طبيعته المنطقية أو الطبيعة الواقعية لموضوع بحثه، فحينئذ يوصف التفكير الذي هو حركة العقل  بأنّه تفكير حرّ.

ومن عناصر الحرية حرية الأقوال، أو ما يعبّر عنه أحيانا بحرية التعبير، وهو في حقيقته تابع لحرية المعتقد إلا أنه يتضمّن معنى زائدا عليه، إذ هو يحمل بعدا اجتماعيا، فالأقوال أو التعابير إنما هي متجهة بالخطاب إلى الآخرين وليست متّجهة إلى ذات القائل.

فمن وجوه الحرية المعتبرة أن يصدع الإنسان بالتعبير عما يراه حقا من الرؤى والأفكار والمعتقدات، ليقنع بها الآخرين على أنها هي الحق، أو ليكتّلهم عليها في منتظم جماعي، أو ليوجّه سير الحياة بحسب مقتضياتها، فهذا الوجه من الحرية هو من جهة مكمّل للحرية الفردية في المعتقد إذ الأقوال هي ترجمان المعتقدات، وهو من جهة أخرى معدود من الحريات الجماعية باعتبار توجّه الخطاب للمجتمع.

كما يشمل معنى الحرية أيضا حرية التصرّف السلوكي، وذلك على معنى أن يكون الإنسان مختارا في خاصّة أعماله، التي تشمل أنواع مآكله وملابسه ومساكنه وأعماله التي يرتزق منها ومحالّ إقامته وأماكن تنقّله وسياحته وما هو في حكم ذلك من التصرّفات المتعلّقة بخاصّة النفس أو ذات العلاقة بالآخرين من الناس، فالاختيار في هذه التصرّفات يُعتبر من أهمّ عناوين الحرية، والقيود عليها تُعدّ من مظاهر الاستبداد، وكلّ ذلك في نطاق الحدود والضوابط التي ألمحنا إليها آنفا، والتي تعصم الحرية من أن تؤول إلى أن تنقض نفسها بنفسها إذا تجاوزت تلك الحدود.

وقد انتهى تحديد الحرية في العصر الحديث إلى تصنيفها إلى نوعين اثنين: الحريات الفردية أو الشخصية، وهي التي تتعلّق بالفرد في ذات نفسه أو التي يكون البعد الجماعي فيها ضعيفا كالحرية في اختيار الأفكار إذا بقيت في مستوى القناعة الذاتية، واختيار الملبس والمأكل والمسكن ومحلّ الإقامة وما هو في حكمها. والحريات العامّة، وهي التي تتعلّق بالحياة الجماعية العامّة، مثل حرية التعبير ونشر الأفكار، وحرية التنظّم الحزبي والتوالي الجماعي، وحرية الاختيار لأنظمة الحكم وللقيّمين عليه، ولعلّ الحرية الدينين تجمع بين هذين النوعين من الحرية.

وقد جاءت التعاليم الإسلامية كما سنبيّن لاحقا تؤسّس لهذين النوعين من الحرية في أصل مبادئها التي أقرّها الوحي قرآنا وسنّة، ثم شرحها الفقه الإسلامي في أبوابه الخاصّة بهذا الشأن، كما انتهى الفكر الغربي إلى إقرار هذه الحريات عبر مراحل من التفاعلات الاجتماعية والثقافية تراوحت الحلقات فيها بين الصراع العنيف والوئام السلمي، وتوّجت أخيرا بجملة من المعاهدات والمواثيق والإعلانات التي تشرحها وتضبط أبعادها وتحدّد ضماناتها، والتي من أشهرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وإذا كانت الحريات الشخصية قد حظيت في كلّ من الإسلام والفكر الغربي بقسط من الاهتمام باعتبار أنها هي المنطلق الأساسي لمفهوم الحرية إذ ينطلق هذا المفهوم من رفع القيود عن ذات الفرد، فإنّ  الحريات العامّة حظيت هي أيضا في كلّ منهما بذات القدر من الأهمية، بل قد يكون قدرها من الاهتمام أوفى من الاهتمام بالحريات الشخصية؛ وذلك بالنظر إلى آثارها في انتظام المجتمع على الهيئة التي يكون بها أقدر على النهوض بالأداء الحضاري، وبالنظر إلى أنّ انعدامها يؤدّي بالمجتمع إلى أبواب من الفتن إذا ما فشا فيه الاستبداد الذي هو أحد المفاسد الكبرى التي تعوق المجتمعات عن التحضّر، وتدفع بها إلى الفتنة المذهبة للريح.

وكلّما تطوّرت المجتمعات وتعقّد بناؤها وتشابك تركيبها كانت إلى الحريات العامّة أحوج، وإليها أشدّ طلبا؛ وذلك لكثرة ما يعتاص من مشاكلها فلا يُحلّ إلا بالمشورة الواسعة والمشاركة الأوسع بالرأي والتنفيذ، ولكثرة ما تتعارض من مصالح وأهواء وأفكار أفرادها، فلا تنتظم في سياق اجتماعي موحّد إلا بإجراء المفاوضات بينهم على أوسع نطاق ممكن لينتهي بينهم بالتراضي على سنن موحّد، والتوافق على صعيد مشترك تتراجع إليه الأهواء المتضادّة، والأفكار المتناقضة، والمصالح المتنافرة، جرّاء المطارحات الحرّة التي تُتاح للجميع فيلتقي الناس بها على سواء.

المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.وفي هذا العصر تطورت المجتمعات الإنسانية وتعقّدت بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني، فقد أصبح الفرد في المجتمع يحتاج في كلّ شؤونه إلى جميع الآخرين من الأفراد، وأصبح إنجاز أيّ شأن من شؤون الحياة لا يمكن أن يتمّ إلا باشتراك بين العدد الكبير من أفراده؛ ولذلك فإنّ الحريات العامّة أصبحت في العصر الحديث المطلب الأعلى من مطالب الحرية، وربما كان على رأسها الحريات السياسية التي من أجلها قامت الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية وغيرها، وما زلنا نشهد إلى اليوم كيف أنّ التاريخ يكاد يتمحّض في حركته بالتدافع من أجل الحريات السياسية بفروعها المختلفة، وهو الأمر الذي لا تخطئه العين في العدد الأكبر من الأقطار على تفاوت بينها في المقدار الذي أُنجز من إرساء هذه الحرّيات وثبات جذورها في الثقافة الاجتماعية وفي الإجراءات العملية التي ينتظم بها المجتمع.

ب ـ الحرية الدينية

المحور الأساسي في كل دين هو الإيمان بجملة من الغيبيات تترتب عليه لوازم سلوكية قد تتسع أو تضيق من دين إلى آخر ولكن لا يخلو منها دين على الإطلاق؛ ولذلك فإن الحرية الدينية تبتدئ بحرية المعتقد وتمتدّ إلى سائر لوازمه السلوكية، وهي من أهمّ ما ينضوي تحت الحرية من العناصر باعتبار أنّ المعتقد هو أسمى ما يتشوّف إليه الإنسان من القيم، حتى إنه ليبلغ به الأمر في ذلك إلى أن يضحي بحياته وهي أغلى ما يملك في سبيل معتقده.

 والمقصود بالاعتقاد هو الإيمان بجملة من المفاهيم والأفكار على أنّها حقّ أو هي الحقّ، وبخاصّة منها تلك التي تفسّر الوجود والكون والحياة، ويتشعّب منها كلّ ما يتعلّق بشؤون الإنسان الفردية والجماعية. وقد ينطبق هذا المعنى بدلالة أعمق على ما يتعلّق من هذه المفاهيم والأفكار بما هو مصبوغ بصبغة دينية غيبية، إذ الإيمان بها يكون في الغالب أحكم في النفوس وأقوى تأثيرا عليها، وقد يلحق به ما هو مصبوغ بصبغة فلسفية، إذ هو يكون أيضا على قدر من اليقينية والرسوخ.

وحرّية الاعتقاد تعني حرّية الاختيار في أن يتبنّى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير أو ما يصل إليه بأيّ وسيلة أخرى من وسائل البلاغ، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنّها هي الحقّ، ويكيّف حياتها النظرية والسلوكية وفقها، دون أن يتعرّض بسبب ذلك للاضطهاد أو التمييز أو التحقير، ودون أن يُكره بأيّ طريقة من طرق الإكراه على ترك معتقداته، أو تبنّي معتقدات أخرى مخالفة لها.

ومعلوم أنّ الإيمان بالأفكار ومنها المعتقدات هو من حيث ذاته لا يمكن أن يرد عليه قيد، فالحرية فيه حاصلة على وجه البداهة، إلا أنّ الطريق التي يحصل منها الإيمان بالأفكار هي التي يمكن أن يطالها القهر بالحجر على بعض المسالك والتوجيه إلى أخرى بطرق مختلفة من الحجر والتوجيه بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، مثل ما كان يفعل فرعون بأتباعه حينما كان يقول لهم ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ ( غافر/29)، فتكون حرية المعتقد إذن مبتدئة من أن يُخلّى بين عقل الإنسان وبين المعطيات الموضوعية للموضوع المفكَّر فيه في غير إلجاء إلى بعضها دون بعض بأيّ وجه من وجوه الإلجاء.

مقالات مشابهة

  • أزمة الحريديم تشتعل مجددا.. إنذار نتنياهو لإقرار قانون التجنيد
  • مخيمات الحوثيين الصيفية..معسكرات الموت المبكر.. تجنيد الطفولة واغتيال المستقبل
  • بالفيديو.. القسام تنشر الكمين الذي نفذته ضد ناقلتي جند إسرائيلية في خان يونس
  • الصين تتهم أمريكا بمحاولة تجنيد مسؤولين عبر إعلانات توظيف
  • في اليوم الأول العالمي لمكافحة البهاق.. خرافات لا تصدقها
  • الجيش اللبناني يوقف قياديا في تنظيم الدولة.. ضبط معه أسلحة وطائرات مسيرة
  • من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
  • عاجل. الجيش اللبناني يعلن توقيف أحد أبرز قياديي تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد
  • الحرية الدينية في الإسلام.. بين الانضباط الشرعي والجدل المفتوح
  • رويترز: لا خسائر بشرية في صفوف القوات الأمريكية بعد الهجوم الإيراني بقطر