منتدى الاعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة

تقرير : راديو دبنقا

الخرطوم- بعد عامين من لهيب الحرب الذي اكتوى به السودان، تتجلى فصول كارثة إنسانية متفاقمة، لا تقتصر فصولها المؤلمة على قصص الضحايا والنازحين الذين عصفت بهم رياح الصراع. ففي العاصمة القومية الخرطوم، يبرز وجه آخر للمأساة، يتمثل في الدمار الشامل الذي لحق بجميع المؤسسات الإعلامية والصحف السودانية التي كانت يوماً نبضاً للحقيقة ومنبراً للمعرفة، مُسهمةً في ترسيخ قيم التعايش المشترك والديمقراطية.

باستثناء مبنى الإذاعة والتلفزيون القوميين الذي سقط تحت سيطرة قوات الدعم السريع لرمزيته السيادية، تحولت هذه الصروح الإعلامية إلى مجرد أطلال صامتة، شاهدة على حجم الخراب الذي طال حتى صوت الكلمة.

يتضح من خلال هذا المشهد المأساوي، كيف لم يسلم من نيران الحرب حتى حراس الحقيقة وناقلوها، ليضاف فصل جديد ومؤلم إلى سجل الخسائر الفادحة التي تكبدها السودان وشعبه. نحاول في هذا التقرير استعراض نماذج للدمار الذي تعرضت له هذه المؤسسات، بعد ان اصبح الوصول لدور ومقار هذه المؤسسات ممكنا عقب اعادة الجيش السيطرة على الخرطوم.

إذاعة “هلا”… صمتٌ يلف الأثير

ياسر أبو شمال، مدير إذاعة “هلا” التي كانت نبض الشباب السوداني وأحد أكثر المنابر الإذاعية شعبية، حبس أنفاسه وهو يشاهد للمرة الأولى صوراً ومقاطع فيديو لمبنى الإذاعة العريق في قلب العاصمة الخرطوم. “الخسارة فادحة ومؤلمة”، قالها بصوت يخنقه الأسى.

يضيف أبو شمالة، واصفاً حجم الكارثة في مقابلة مع راديو دبنقا: “لم يكن الأمر مجرد تدمير لمبنى، بل هو تدمير ممنهج لاستوديوهات البث والإنتاج بالكامل. كانت هذه الاستوديوهات مجهزة بأحدث التقنيات الرقمية: مازجات صوت متطورة، سيرفرات ضخمة، مكتبات صوتية لا تقدر بثمن، أرشيف برامجي يوثق لتاريخنا، ميكروفونات، كوابل، وحتى جهاز الإرسال الرئيسي الذي كان يحمل أصواتنا عبر الأثير إلى المحطات الأرضية لإعادة البث”. يؤكد أبوشمالة أن كل تلك المعدات الثمينة “أتت عليها نيران الحرب ويد النهب، ولم تسلم الملحقات الأخرى، بما في ذلك أنظمة البودكاست الصوتية والمرئية المتطورة، شبكة الحواسيب، وأجهزة لا حصر لها”. قُدّرت الخسائر المادية الأولية لإذاعة “هلا” بأكثر من 350 ألف دولار.

احد استديوهات مركز ارتكل في الخرطوم بعد تدميره بسبب العمليات العسكرية الصورة ردايو دبنقا مركز “أرتكل”… حلمٌ تحوّل إلى أنقاض

مشهد الخراب لم يقتصر على “هلا”، بل امتد ليطال مركز “أرتكل” للإنتاج الإعلامي، الذي كان يُعد منارة إعلامية واعدة وصرحاً إنتاجياً ضخماً في السودان، مبنىً ومعنى. عثمان فضل الله، مدير المركز، عبّر عن صدمته في مقابلة مع دبنقا بصوت كاد يغيب من فرط الألم: “ليتني لم أرَ تلك الصور القاسية… الدمار الذي لحق بالمركز جعلني أشعر وكأن خمسين عاماً من عمري قد سُحقت، وأن 25 عاماً من مسيرتي المهنية تحولت إلى مجرد ركام.”

يتحدث عثمان عن “أرتكل” بحرقة، كأنه يتحدث عن كائن حي فُجع فيه: “المركز لم يكن مجرد مبانٍ ومعدات تُقدّر بمئات الآلاف من الدولارات، بل كان قصة حياة، مشروع حلم راودني طيلة مسيرتي المهنية، سكبت فيه عصارة فكري وجهدي، وكل ما أملك من خبرة وعلاقات وتفانٍ.”

ويستطرد قائلاً: “كل قطعة أثاث، كل جهاز، كان يمثل لي جزءاً من كياني، ومساحة من ذاكرتي. كان طموحنا كبيراً، أردنا لـ”أرتكل” أن يكون نقطة ضوء حقيقية تشع في سماء الإعلام السوداني”.

يكشف فضل الله أن المركز، الذي أُنشئ عام 2022 بُعيد ثورة ديسمبر المجيدة، حمل في طياته رؤية طموحة ليتجاوز كونه مجرد مركز إنتاج، ويصبح مدرسة للصحافة. “نظمنا العديد من الدورات التدريبية المتخصصة في صحافة السلام، ومكافحة خطاب الكراهية، وتعزيز النسيج الاجتماعي. كان المركز منصة لتوثيق فعاليات الثورة وملتقى للحوارات البناءة بين الصحفيين والصحفيات.”

من الناحية الفنية، كان “أرتكل” صرحاً متكاملاً لإنتاج البرامج التلفزيونية، يضم استوديوين من أفخم الاستوديوهات المتكاملة، وخمس وحدات صوت مجهزة بتقنيات متنوعة، وثماني وحدات إضاءة حديثة، وثماني كاميرات احترافية، من بينها ثلاث كاميرات من طراز Canon 5D. كما كان يحتوي على ثلاثة حواسيب “ماك” متقدمة بأنظمة مونتاج وأرشفة متكاملة، ووحدة طباعة حديثة، وقاعة مؤتمرات شهدت العديد من الفعاليات الهامة، بالإضافة إلى قاعتين تدريبيتين مجهزتين بأحدث الوسائل.

“كنا نطمح لتحويله إلى أكاديمية تخرّج أجيالاً من الإعلاميين القادرين على مواكبة التطورات المهنية باحترافية عالية”، يقول فضل الله بحسرة، ثم يتنهد بعمق: “لكن كل ذلك الطموح أمسى حطاماً.”

الدمار الشامل… ورغم الجرح، يبقى وميض الأمل

لم يسلم شيء من آلة الدمار؛ فالأجهزة والمعدات والأثاث وشبكات البث، وحتى السيارة الخاصة بإدارة المركز، كلها إما سُرقت أو دُمّرت بالكامل. ورغم هول الفاجعة، يقول فضل الله بنبرة يمتزج فيها الأسى بالإصرار: “لا أريد أن أبدو محبطاً أو يائساً، فذلك ليس من شيمنا، ولكن إعادة بناء المركز بنفس المواصفات والمعايير تبدو مهمة بالغة الصعوبة في ظل الظروف الراهنة.” ومع ذلك، يختتم حديثه بلمحة أمل: “سنبذل قصارى جهدنا لإعادة الحياة إلى “أرتكل” قدر المستطاع… فالأمل، رغم كل شيء، ما زال يراودنا.”

هذا التقرير الصحفي من إعداد راديو دبنقا ، وقد تم نشره عبر مؤسسات منتدى الإعلام السوداني بمناسبة اليوم العالمي للصحافة لتسليط الضوء على اوضاع الصحافة والصحفيين في السودان. لنقف مع السودان#

SilenceKills #الصمت يقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضع في السودان لايحتمل التأجيل #StandWithSudan #ساندواالسودان #SudanMediaForum

الوسومإذاعة هلا الإعلام الحرب الخرطوم السودان مركز آرتكل منتدى الإعلام السوداني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإعلام الحرب الخرطوم السودان منتدى الإعلام السوداني الإعلام السودانی فضل الله

إقرأ أيضاً:

لقاء الكبار ومصير أوكرانيا.. رقعة الشطرنج في الشرق الأوروبي

منذ أن انكسرت أعمدة الإمبراطورية السوفيتية، وأوروبا الشرقية تعيش في فراغٍ جيوسياسي يشبه الصمت الذي يسبق العاصفة. أوكرانيا، التي وصفها مستشار الأمن القومي الأمريكي "بريجنسكي" في كتابه الشهير "رقعة الشطرنج بـ"روسيا الصغرى"، تحولت إلى ساحة مواجهة كبرى بين إرث التاريخ وطموحات الحاضر. إنها ليست مجرد دولة على الخريطة، بل جسر جغرافي وثقافي يربط بين شطري أوروبا، ومفتاح التوازن في البحر الأسود، حيث تتدفق التجارة، وتتحرك الأساطيل، وتتقاطع خطوط الغاز والطموحات.

القرم: الشريان الجيوستراتيجي

جزيرة القرم ليست قطعة أرض عابرة، بل شريان حيوي لروسيا داخل الأراضي الأوكرانية، ونقطة ارتكاز بحرية تتحكم في حركة الملاحة والتجارة في البحر الأسود.سيطرتها تعني بالنسبة لموسكو السيطرة على الجنوب الأوكراني وخنق أي طموح لكييف في الانفتاح البحري الحر. بالنسبة للغرب، هي ورقة ضغط ومعيار لمدى قدرة أوروبا على كبح التمدد الروسي.

ترامب والحرب: صفقة أم هدنة؟

عودة دونالد ترامب إلى المشهد الأمريكي أثارت تساؤلات عميقة: هل يسعى لإنهاء الحرب بصفقة كبرى مع موسكو، أم أن الأمر مجرد إعادة تموضع لصالح واشنطن؟ ترامب يفكر بعقلية التاجر أكثر من القائد العسكري، ربما يطرح حلاً يرضي الأطراف الكبرى، لكنه بالضرورة لن يلبي أحلام القوميين الأوكران أو يعيد رسم حدود ما قبل 2014.

محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية
أوروبا بين الوحدة والانقسام

جغرافياً، القارة الأوروبية تبدو كتلة متجانسة، لكن سياسياً هي كيان منقسم بين شرق يتوجس من الدب الروسي، وغرب يضع أولوياته الاقتصادية فوق كل اعتبار. توريط أوروبا في الحرب الأوكرانية لم يكن مجرد قرار عسكري، بل كان نتاجاً لسلسلة من الحسابات الخاطئة والانجرار وراء صراع تتحدد فيه أجندات واشنطن وموسكو أكثر مما تتحدد في بروكسل.

الأقليات والقوميات والدين: جغرافيا الصراع الخفية

أوكرانيا ليست كتلة سكانية متجانسة، فهناك الروس العرقيون في الشرق والجنوب، والأوكران القوميون في الغرب، والأقليات التتارية في القرم، إلى جانب انقسامات دينية بين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت. هذه الفسيفساء القومية والدينية تشكل أرضية خصبة للصراع الداخلي، وتجعل أي تسوية هشة ما لم تعالج جذور الانقسام.

رقعة الشطرنج العالمية

اليوم، شرق أوروبا هو رقعة شطرنج تتقابل فيها قطع اللعبة الكبرى: روسيا بثقلها التاريخي والجغرافي، أمريكا بسطوتها الاقتصادية والعسكرية، وأوروبا العالقة بين حلف الناتو وحاجتها لسلام مستدام. السؤال الذي يفرض نفسه: هل سنشهد ترتيبات أمنية جديدة ترسم خرائط شرق أوروبا، أم أن المنطقة ستظل برميل بارود ينتظر شرارة أخرى؟

الفلسفة الجيوسياسية للتاريخ

التاريخ يعلمنا أن الحدود في شرق أوروبا لم تكن يوماً خطوطاً ثابتة، بل كانت دائماً نتاج صراعات وتحالفات، وانكسارات ونهوضات. ربما يكون الصراع على أوكرانيا حلقة جديدة في سلسلة إعادة تشكيل العالم بعد الحرب الباردة، لكن النتيجة النهائية ستعتمد على وعي الشعوب أكثر من اتفاقيات القادة.

في النهاية، يظل السؤال معلقاً: هل ينجح ترامب في وقف الحرب ويعيد رسم التوازن، أم أن أوكرانيا ستظل منطقة توتر مفتوحة، تذكرنا بأن الجغرافيا قد تغيّر الملوك، لكن لا تغيّر طبيعة الصراع؟

اقرأ أيضاًجنرال أمريكي سابق: رسوم ترامب على صادرات الهند تهدد تمويل روسيا لحرب أوكرانيا

مساعد الرئيس الروسي: موقف موسكو من أوكرانيا لم يتغير وسط حديث عن لقاء بوتين وترامب

مجلس الأمن يعقد جلسات عن السودان وأوكرانيا والساحل الإفريقي الأسبوع الجاري

مقالات مشابهة

  • الوجه الآخر لحرب السودان.. مرتزقة وراء البحار
  • مأساة غزة من منظور الإعلام المتصهين : بأي وجه ستلقون الله ؟
  • مقابر الحرب العشوائية.. مأساة وحكايات لم تُروَ في قلب الخرطوم
  • تم احتواء الكوليرا في الخرطوم والوفيات صفر
  • عناوين الصحف السودانية الصادرة اليوم الأحد
  • دعوات لإنقاذه.. ما الذي يتهدد اتفاق السلام في جنوب السودان؟
  • السودان.. تخطيط جديد للعاصمة وشارع النيل بمعايير عالمية
  • فصول جديدة.. ما الذي دار بين دفاعات الجيش السوداني وطاقم طائرة قبل تدميرها في نيالا؟
  • مسؤولة “أممية”: الخرطوم مدينة أشباح مدمّرة منهوبة.. والشعب السوداني يملك روح الصمود
  • لقاء الكبار ومصير أوكرانيا.. رقعة الشطرنج في الشرق الأوروبي