لم يكن قرار المواجهة نابعًا من رغبة، ولا كان خيار السلاح مألوفًا في قاموس الجماعة التي نشأت في المساجد واشتغلت بالدعوة. لكن في ربيع عام 1979، بدا أن الأفق السياسي في سورية قد أُغلق بالكامل، وأن النظام قرر حسم معركته مع جماعة الإخوان المسلمين بالحديد والنار.

في هذه الشهادة التي يواصل المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، الأستاذ علي صدر الدين البيانوني، سردها حصريًا عبر "عربي21"، نستعيد معه تفاصيل مرحلة حرجة في تاريخ سورية، تقاطعت فيها السياسة بالقمع، والدعوة بالدم، والانقسام الداخلي بالخطر الوجودي.



من خروجه من السجن، إلى تكليفه بإدارة العمل التنظيمي، مرورًا بلحظة المواجهة، وانتهاءً بمحاولة توحيد الصفوف مع "الطليعة المقاتلة"، يروي البيانوني ما جرى كما شاهده وشارك فيه، لا كما يُروى من بعيد.

وقد جاءت فكرة استعادة هذه السيرة في لحظة رمزية: بعد أن أسقطت الثورة السورية جدار الخوف، ووضعت مستقبل البلاد وماضيها القريب تحت المجهر. كنتُ، بوصفي إعلاميًا تونسيًا عايشت سورية لسنوات، أستحضر خصوصية التجربة الإخوانية هناك، ليس فقط بوصفها جزءًا من تاريخ سورية السياسي، بل باعتبارها واحدة من أكثر التجارب الإسلامية تعقيدًا وتأثيرًا.

إنها قصة تستحق أن تُروى، لا فقط للمراجعة، بل أيضًا للتعلّم، ولمنح الأجيال القادمة فهمًا أعمق لما جرى، ولماذا جرى، وإلى التفاصيل:

8 ـ بعد الخروج من السجن

خرجت من السجن في السابع من نيسان 1977، وكان مطلوباً مني مراجعة فرع مخابرات أمن الدولة كل أسبوع، لتحذيري من الاتصال بالتنظيم، وليتأكدوا من عدم عودتي إليه. إلاّ أن المراجعات كانت، في معظم الأحيان، شكلية روتينية.

وبعد الإفراج عني بعدة شهور، استدعاني الأخ المراقب العام - حينئذٍ - الأستاذ عدنان سعد الدين (أبو عامر)، ليبلغني أنه بناءً على قرار مجلس الشورى، تم اختياري عضواً في المكتب التنفيذي للجماعة، نائباً للمراقب العام، فحاولت الاعتذار عن ذلك بسبب وضعي الأمني ومراجعاتي الأسبوعية لفرع المخابرات، لكنه أصرّ عليّ، واعتبره تكليفاً تنظيمياً، فامتثلت. وكان الأستاذ أبو عامر يقيم في الإمارات العربية المتحدة، ويقوم بزيارات لسورية خلال العطلة الصيفية، وكنت أتولّى إدارة أعمال الجماعة في الداخل.

ولعلّ أبرز إنجازات الجماعة خلال هذه المرحلة، اعتماد خطة عمل واضحة للجماعة، ومتابعة تنفيذ خطة العمل الدعوي المسجدي التي كانت معتمدة قبل اعتقالي في عام 1975، والتي كانت آثارها واضحة في إقبال الشباب على المساجد، والمشاركة في الأنشطة والاحتفالات بالمناسبات الدينية المختلفة، في معظم المساجد، في مختلف المدن السورية، قبل أن تندلع أحداث الثمانينيات، التي أدّت إلى الصدام المباشر مع النظام في عام 1979

9 ـ  أحداث الثمانينيات والصدام مع النظام السوري:

منذ منتصف السبعينيات، كانت تحدث عمليات اغتيال دقيقة وغامضة، لبعض مسؤولي الأمن والمخابرات، بين الحين والآخر، لم تكن تترك أثراً، ولم يكن يُعرَفُ من يقوم بها أو يقف وراءها. وقد اطلعت على تقرير سرّي في أواخر عام 1978، مرفوع من قِبَل مخابرات أمن الدولة في حلب، إلى الإدارة العامة للمخابرات بدمشق، عن طريق أحد المتعاونين، يشير إلى دقة هذه العمليات، وعدم معرفة الأجهزة الأمنية من يقوم بها، أو من يقف وراءها.

ويشير التقرير إلى أن منفذي هذه العمليات، يتمتّعون بخبرة واسعة، وتدريبٍ عالٍ، ولا يتركون أيّ أثر. وكانت التخمينات والاحتمالات التي تضمّنها التقرير، تشير إلى حزب البعث العراقي، أوإلى حزب الكتائب اللبناني، وتستبعد قيام الإسلاميين بها.

اطلعت على تقرير سرّي في أواخر عام 1978، مرفوع من قِبَل مخابرات أمن الدولة في حلب، إلى الإدارة العامة للمخابرات بدمشق، عن طريق أحد المتعاونين، يشير إلى دقة هذه العمليات، وعدم معرفة الأجهزة الأمنية من يقوم بها، أو من يقف وراءها.لكن يبدو أنه بعد ذلك، ومن خلال التحقيق مع بعض المعتقلين في مدينة حماة، تبين وجود علاقة لهذه الاغتيالات، ببعض الأفراد المتأثرين بفكر الشيخ مروان حديد رحمه الله، ممن أطلقوا على أنفسهم فيما بعد (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين)، ونفذوا عملية مدرسة المدفعية في شهر حزيران 1979.

ومع أن منفذي العملية، تركوا بياناً باسم الطليعة، وكانوا معروفين وملاحقين من قبل أجهزة الأمن، ومع أن الجماعة أصدرت بياناً في ذلك الحين نفت أيّ علاقة لها بالعملية، وأكّدت أن مثل هذه الأعمال تتعارض مع منهجها السلمي الذي تتمسّك به.. إلاّ أن السلطات السورية وجدتها فرصة - على ما يبدو - لتوجيه الاتهام للجماعة، وملاحقة قياداتها وأفرادها، وتوجيه ضربة قاسية لها، فأعلنت الحرب عليها في بيان وزير الداخلية عدنان دباغ، الذي حمّل الجماعة المسئولية عن العملية، وعن عمليات الاغتيال الأخرى، وتوعّد بملاحقة أبناء الجماعة، وتصفيتهم في الداخل والخارج، وبدأت بالفعل عمليات الملاحقة وتمشيط المدن..

وتوسعت دائرة الملاحقات، حيث شملت جميع قيادات الجماعة، والآلاف من أفرادها، وكانت الأنباء الخارجة من السجون، تتحدّث عن عمليات تعذيب، وتصفيات جسدية، تتمّ داخل السجون، كما نُفّذ حكمُ الإعدام بمجموعة من الإخوان كانوا معتقلين من قبل، ولا علاقة لهم بهذه العمليات. ووجدت الجماعة نفسها في أتون حربٍ معلنة، لم يكن من خيار أمامها، إلاّ  خوضَها، والدفاعَ عن نفسها، فاتخذت بعد ذلك في شهر أيلول 1997، قراراً بالمواجهة دفاعاً عن النفس، استفتح القرار بالآية الكريمة: (أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا، وإنّ الله على نصرهم لقدير..)، رغم أن الجماعة لم تكن تملك أيّ خططٍ أو استعداداتٍ أو قدراتٍ عملية، لدخول مثل هذه المواجهة.

وكانت ملاحقة أبناء الجماعة، قد بدأت منذ أوائل عام 1979، قبل حادثة مدرسة المدفعية بحوالي ستة شهور، وقبل تفجّر الأحداث في سورية. وكنتُ في زيارة لفرنسا، للمشاركة في مؤتمر إسلامي دعوي، عندما دوهم بيتي في مدينة حلب، في شهر نيسان 1979، في محاولة لاعتقالي، فاعتقلوا ولدي أيمن الذي كان طالباً في المرحلة الثانوية، وصهري زوج ابنتي الكبرى، المهندس عبد الإله البعلبكي الذي كان قادماً إلى حلب في مهمة رسمية، لمؤسّسة الكهرباء، فاعتقلوهما رهينةً عني، ثم أعدموا صهري فيما بعد، وأفرج عن ابني نتيجة مساعي بعض الأصدقاء، فقررتُ حينها البقاء في فرنسا، بناءً على طلب الإخوة، ثم انتقلتُ منها إلى الأردن، وبدأت رحلة الهجرة والغربة منذ ذلك الحين.

10 ـ موقف الجماعة الثابت من حمل السلاح:

لا بدّ من الإشارة هنا، إلى تأكيد موقف الجماعة الثابت، الرافض لحمل السلاح في مواجهة الحكومات، ولنهج الشيخ مروان حديد، وموقفها من الأفراد المتأثّرين به، ومن عملية مدرسة المدفعية.. وتمسّكها بالعمل الدعوي، والنهج السلمي، وحرصها عليه، فقد كانت الجماعة تحاور الأفراد المتأثّرين بهذا النهج، فإذا أصرّوا على مواقفهم، كانت تفصلهم من الجماعة، كما فعلتْ مع الأخ عدنان عقلة وآخرين.. بينما كان النظام يحاول بشتّى الأساليب، الزجّ بالجماعة في أتون المعركة التي أعلنها. ولم يكن قرار المواجهة التي اتخذته الجماعة في أيلول 1979 - كما أسلفت - إلاّ دفاعاً عن النفس، وبعد أن وجدت الجماعة نفسها في أتون المعركة التي شنّها النظام عليها بشكلٍ رسميّ ومعلن.

11 ـ العودة إلى الداخل للتفاهم مع مجموعة الطليعة:

بعد أن اتخذت الجماعة قرارها بالمواجهة دفاعاً عن النفس، كان الواقع الميدانيّ في الداخل متشابكاً ومرتبكا، ورغم احتدام العمليات التي كان ينفذها بعض الشباب من الإخوان ومن الطليعة، إلاّ أن الوضع في الداخل كان يتّسم بالفوضى والانفعال.. وبينما كان النظام يعمل بتخطيط، وقيادة مركزية، وقرات عالية.. كان واقع الشباب المتوزّعين على مجموعات، في المخابئ، لا يدار من قيادة مركزية، ولا يمتلكون إستراتيجية تصون الدماء، وتنظم الجهود، وتتقدّم نحو تحقيق الأهداف..

بعد أن اتخذت الجماعة قرارها بالمواجهة دفاعاً عن النفس، كان الواقع الميدانيّ في الداخل متشابكاً ومرتبكا، ورغم احتدام العمليات التي كان ينفذها بعض الشباب من الإخوان ومن الطليعة، إلاّ أن الوضع في الداخل كان يتّسم بالفوضى والانفعال.. ووكانت قيادة الجماعة قد استقرت في الخارج . بينما توزعت القيادات الميدانية في الداخل، دون تنسيق أو تعاون بين شباب الطليعة ومجموعات الإخوان.. فكان لا بدّ من صيغ عملية، للتنسيق بين قيادة الجماعة، وبين القوى الميدانية، وخاصة قيادة الطليعة، وعلى رأسها الأخَوان هشام جنباز في حماه، وعدنان عقلة في حلب. ولم يكن ذلك ممكناً عن طريق المراسلة. فعرض عليّ المراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين، النزول إلى الداخل، من أجل ذلك.

وعلى الرغم من المخاطر التي كانت محدقة بالمشهد السوري وبنقاط العبور، فقد توجّهت ـ متخفّياً ـ إلى الداخل، بناءً على قرار من قيادة الجماعة، في مطلع العام 1980، والتقيت بالأخ عدنان عقلة، وببعض القيادات حوله، وبقيت معه في بيتٍ واحد حوالي شهرين، دون أن أصل معه إلى اتفاق، حيث كان يصرّ على أن تكون قيادة العمل للطليعة، وأن تكون الجماعة تابعة لها، فنصحني بعض الشباب حوله من الحريصين على التفاهم مع الجماعة (أذكر منهم الأخ الشهيد مصطفى قصار) بالتوجّه إلى حماة، والالتقاء بالأخ هشام جنباز الذي كان المسئول الأول عن الطليعة، والتفاهم معه، باعتباره راغباً في ذلك. فتوجّهتُ إلى حماة، والتقيتُ الأخ هشام، فوجدته ـ فعلاً ـ حريصاً على التفاهم وتوحيد العمل، ولم نجد صعوبة في الوصول إلى صيغة اتفاق واضحة، تحقّق التنسيق الكامل والتعاون، وتحدّد دور كل طرف في المعركة. وعندما عدت إلى حلب وأطلعت عدنان عقلة على الاتفاق، لم يُبدِ ارتياحاً، وأصرّ على موقفه، مما دعا هشام جنباز، بعد ذلك، للتراجع عن الاتفاق. فعدت إلى الأردن، بعد أن قضيت في سورية حوالي ثلاثة شهور.

إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ "عربي21".. هذه بدايتي

إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي تفاصيل تجربته في سجون الأسد

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير سورية البيانوني سورية اخوان البيانوني ذاكرة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه العملیات فی الداخل فی سوریة عن النفس التی کان لم یکن بعد أن

إقرأ أيضاً:

طريقنا إلى مستقبل أفضل لا يمر عبر سجون الماضي أو الحاضر

طريقنا إلى مستقبل أفضل لا يمر عبر سجون الماضي أو الحاضر

خالد عمر يوسف

أثار انتباهي بالأمس النقاش الذي ابتدره “قريبي” د. عبد الرحمن حمد، والذي استند فيه على لقاء أجريته مع قناة الجزيرة مباشر في ضيافة الإعلامي المتميز أ. أحمد طه، وعلى الرغم من عدم اتفاقي مع كثير من النقاط الذي ذكرها د. عبد الرحمن، إلا أنني متفق معه تماماً في المنهج الذي اتبعه، وهو التركيز على المشتركات والسعي للبناء عليها، وعليه سأركز هذه المداخلة على النقطة الرئيسية التي ذكرها حول ضرورة أن تكون هنالك رؤية واضحة للسلام المنشود، واعتقد أن هذا هو مربط فرس تصحيح النقاش حول حرب ١٥ أبريل، التي انقسم الناس فيها عميقاً على أسس عديدة، حتى ضاعت بين طيات هذه الانقسامات فضيلة الحوار الموضوعي بين الرأي والرأي المضاد.

بداية أود أن أقر بعميق ارتياحي لتصاعد الأصوات الداعية للتفكير في بدائل سلمية عوضاً عن الاستمرار في النفخ في نار هذه الحرب. بعد أكثر من عامين ذاق فيهما أهل السودان كل أشكال العذاب، فقد أضحى واضحاً صعوبة إنهاء هذا النزاع عسكرياً إضافة إلى الكلفة الباهظة التي تدفعها البلاد وشعبها جراء استمرار الحرب، وإن أقصر الطرق وأكثرها جدوى حقيقة هو الحل السلمي التفاوضي اليوم قبل الغد.

في تقديري فإن حرب السودان لديها بعدين لا يمكن أن تخطئهما العين، بعد داخلي بين السودانيين أنفسهم، وبعد خارجي متشابك للغاية ويتزايد يوماً بعد يوم، والمنهج الأوفق للوصول لحل مستدام هو حل الأزمة الداخلية بين السودانيين أنفسهم أولاً، وتوافقهم على عقد اجتماعي يضمن تعايشهم المشترك دون حروب أو قتال، ومن ثم مخاطبة البعد الخارجي للصراع بصورة موضوعية تجعل السودان آمناً في ذاته ومتصالحاً مع محيطه الإقليمي والدولي وفق أسس عادلة ومنصفة.

غالب أهل السودان لا يريدون الحرب، وحتى من يساند منهم أي طرف من الأطراف تراه أحياناً يتخوف من سلام لن يؤمن حياته وماله وعرضه وحريته، وهي مخاوف متفهمة للغاية ومخاطبتها تأني عبر الحديث عن السلام الذي يريده كل منا، ونقاشه بعقول وقلوب مفتوحة حتى يتوافق الناس على أفضل الصيغ لإنهاء الحرب. إن السلام الحقيقي سيأتي حينما نفكر في المستقبل لا حين نغرق في الماضي أو الحاضر، عليه فإن السؤال هو أي مستقبل نريد لبلادنا عقب هذه الحرب؟

أدناه نقاط مختصرة اعتقد أنها يمكن أن تشكل بداية نقاش جدي حول المستقبل الأفضل الذي ينشده الجميع.

١- السودان بلد رسم حدوده المستعمر، ولم يستشر أهل السودان في هذه الحدود. خلقت هذه الوضعية وحدة متنازع عليها أدت في نهاية المطاف لتقسيم السودان، ولا زال خطر التقسيم ماثلاً. عليه فإن السؤال المفتاحي الأول هو حول طبيعة الوحدة التي نريد في المستقبل؟ لا اعتقد بأن النموذج السابق سيصلح مرة أخرى، وعليه فإن الحوار العميق بين السودانيين بمختلف اقاليمهم حول صيغة فيدرالية حقيقية تمنح كل أقليم صلاحيات حكم ذاته عبر أهله والاستفادة من ثرواته وضمانات حمايته في إطار وحدة متراضى عليها، سيكون مدخلاً مهماً ليطمئن كافة الناس حول أن المستقبل لن يكون كما كان الماضي والحاضر الذي نعيشه.

٢- قضية المؤسسة الأمنية والعسكرية هي قضية مفتاحية في الوصول لسلام مستدام. تعرضت القوات المسلحة السودانية لصنوف من التشويه في تاريخها عبر الاختراق الحزبي، وثقافة الانقلابات، وصناعة المليشيات والجيوش الموازية، وكانت سنوات نظام المؤتمر الوطني هي الأسوأ، وما نعيشه اليوم هو حصاد ذلك التدمير الممنهج الذي اتبعه نظام البشير. المستقبل لا يحتمل تلاعباً في قضية الجيش الواحد المهني القومي، والقوات المسلحة هي الأساس في ذلك بلا شك، فلا اعتقد في صحة الحديث عن هدمها أو استبدالها، انما المطلوب هو ان تبنى على أساس يضمن وحدة الجيش، وتعبيره عن تعدد وتنوع السودان، وبعده الكامل عن السياسة وانهاء اي وجود حزبي داخله، واحتكار السلاح بصورة كاملة وعدم السماح بوجود اي تشكيلات مسلحة خارجها، واقتصار نشاطها الاقتصادي في الصناعات العسكرية ومتعلقاتها، وهذه الاجراءات يجب أن تشمل كذلك جهازي المخابرات والشرطة بذات المنهج مع تحديد الاختصاصات والصلاحيات. هنالك تجارب عالمية كثيرة يمكن أن نستهدي بها للوصول لهذه الغايات دون موت أو قتال.

٣- لا يمكن الوصول لسلام مستدام دون اقرار منهج واضح للعدالة، يكشف الجرائم وينصف الضحايا ويحاسب المنتهكين ويجبر الضرر. الخطوة الأولى نحو التعافي الوطني تمر عبر بوابة الإنصاف وليس التناسي، ولدينا في تجارب مجتمعاتنا والاقليم من حولنا ما يمكن ان نستزيد منه لتحقيق ذلك.

٤- الإصلاح السياسي واجب ملح، يتطلب تكوينات منظمة تلتزم بقواعد القانون والتداول السلمي للسلطة، والشفافية والمحاسبية في مصادر التمويل والصرف، وكيفية تعبيرها عن تنوع السودان وتعدده، وغيره من متطلبات قصرت منظوماتنا الوطنية عن بلوغها لظروف عديدة، ولكن الواجب هو الانتباه لذلك، وأن يكون أمر حكم الناس متروكاً بالكامل لهم، عبر دستور يعبر عن إرادة الشعب، ومؤسسات تضمن التعبير عن أصوات الناس وحاجياتهم لا اهتمامات النخب فحسب.

٥- سؤال التنمية والنموذج الذي نبغي اتباعه هو قضية رئيسية، فقد عانى السودان من التخلف والفقر وعدم التوازن والتهميش، رغم ثراء البلاد التي خذلتها طرق الإدارة وغياب النظرة القومية الشاملة للبناء. إعادة إعمار ما دمرته الحرب يتطلب أن يكون في إطار مشروع قومي تنموي يصحح خطايا الماضي، ويعظم من بنية الانتاج المحلي والتكامل الاقتصادي والتقني مع محيطنا العالمي.

٦- قضية المواطنة المتساوية وما يتعلق بها من أمر انهاء كافة أشكال التمييز، وهو ما يتطلب حل حقيقي وجذري لقضية الدين والدولة التي أرقت منام البلاد سنين طويلة وأدخلتها في صراعات ومشاريع ايديولوجية كلفتها وحدتها في نهاية المطاف.

هذه بعض القضايا المهمة التي لا يجب أن تغفل عنها مناقشات البحث عن مستقبل أفضل للبلاد. كل هذا لا يمكن تحقيقه عن طريق فوهة البندقية، بل عبر الحوار والتوافق ولا طريق آخر سوى ذلك. اتمنى أن ننفض عن خطابات الكراهية والاستقطاب وأن نعمل البصر كرتين في هذه القضايا وقضايا أخرى تضمن أن تكون هذه الحرب هي آخر حروب السودان، وأن يشكل المستقبل قطيعة كاملة مع ما تأباه النفوس من ماضينا وحاضرنا المعاش. أعظم الأمم نهضت عقب حروب دامية لا عبر الاستمرار في القتل والدمار، بل بتحكيم صوت العقل والحكمة والتدبر فيما ينفع الناس، وأرجو أن تكون هذه هي لحظتنا الوطنية الكبرى التي نبني فيها سوداناً مختلفاً يضعه في مصاف من سبقه من شعوب وعت دروس صراعاتها جيداً ووضعت لها نهاية لا رجعة فيها.

الوسومالسلام السودان المؤسسة الأمنية المستعمر خالد عمر يوسف خطاب الكراهية قناة الجزيرة

مقالات مشابهة

  • حرب التحرير .. باتت .. معروفة المصير
  • استشهاد 3 معتقلين من غزة في سجون الاحتلال
  • أعمال شغب في سجون لبنان
  • الاستدارة نحو الداخل أصبحت استحقاق فالخطأ لا يُمْحَى بالإنكار..
  • الاستدارة نحو الداخل أصبحت استحقاق فالخطأ لا يُمْحَى بالإنكار
  • وزير الخارجية السيد أسعد الشيباني لـ سانا: نرحب بتصريحات الرئيس دونالد ترامب الأخيرة بشأن رفع العقوبات التي فُرضت على سوريا رداً على جرائم الحرب البشعة التي ارتكبها نظام الأسد.
  • مفتي القاعدة السابق يروي قصة إعدام الجهاد شابين عملا جاسوسين
  • طريقنا إلى مستقبل أفضل لا يمر عبر سجون الماضي أو الحاضر
  • العراق وسياسة التوازن بين أطماع الخارج وتحديات الداخل