حين يعلو الضجيج... هل يُسمع صوت المثقف؟
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
تعلو أصوات المنصات الرقمية، وتُستبدل فيه المقالة العميقة بالمقطع القصير، تتباين الرؤى حول موقع المثقف ودوره في تشكيل الوعي العام، هل ما زال المثقف قادرا على أن يكون صوتا فاعلا ومؤثرا في المجتمع؟ أم أن صوته بات غائبا، أو مهمشا، أو مكتفيا بخطاب نخبوي لا يصل إلى الناس؟
هذا الاستطلاع يفتح حوارا مع عدد من الكتّاب حول التحديات التي تواجه المثقف في ظل ضجيج المنصات وتراجع الاهتمام بالفكر الجاد، مستعرضا أسئلة ملحّة: هل تغيّر جمهور الكتابة؟ وهل بات المثقف يكتب للنخبة فقط؟ ما الأسباب التي تحول دون حضوره في الشارع، أو النقاشات العامة، أو عبر وسائط الإعلام الحديثة؟ وهل العزلة التي يعيشها البعض خيار إبداعي أم انعكاس لانقطاع حقيقي عن المجتمع؟ بين هذه التساؤلات، يرسم الاستطلاع ملامح الحضور الثقافي في العصر الرقمي، وفهم طبيعة التحوّلات التي طالت كلا من الخطاب الثقافي وطريقة تلقّيه، لنقف على حقيقة: هل لا يزال المثقف صوتا عاما، أم أنه انسحب طواعية إلى هامش العزلة؟
بداية يشير القاص سعيد الحاتمي إلى مسألة غياب صوت المثقف في الشارع والمنصات العامة، مؤكدا أن هذا الصوت ليس غائبا بشكل كامل، بل هناك تنوع في الأصوات والآراء، وبعضها يكتفي بالتفاعل بشكل غير منظم مع الشأن العام، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى نقاشات غير مثرية، فالمثقف غالبا منخرط في هذا الجدال من منطلق دوره التنويري، أو من خلال رغبته في أن يكون جزءا من هذا الحراك، لكن لم يشكّل المثقفون حالة مستقلة ومنفصلة عن بقية الأصوات لعدة اعتبارات؛ موضحا أن غياب حضانة شعبية تقبل أطروحات المثقفين قد يكون سببا مهما لهذا الغياب.
وفيما يتعلق بتغيّر طبيعة الخطاب الثقافي وتغيّر طبيعة التلقي، أشار «الحاتمي» إلى أن كلا الجانبين قد تغيّرا، وهو أمر طبيعي نتيجة للتغيّرات التي تطرأ على المجتمعات، فهناك ارتباط وثيق بين الخطاب الثقافي وطريقة تلقّيه، وأن تغيّر أحدهما يفرض تغيّر الآخر، كما يجب على المثقف أن يواكب طبيعة المتلقين ، فلا يمكن له أن يعتمد على الأسلوب نفسه لجميع الأوقات.
التحديات المعاصرة
وفي حديثها عن واقع المثقف العماني في عصر منصات التواصل الاجتماعي، تطرقت الكاتبة العمانية شريفة التوبية إلى التحديات التي يواجهها المثقف اليوم، في ظل ضجيج هذه المنصات وتراجع الاهتمام بالفكر العميق، حيث أكدت «التوبية» أن المثقف الحقيقي لا يزال قادرًا على التميز وسط الزحام، حيث تقول: ما هو أصيل لا يتغيّر، وما هو ثابت لا يتأثّر، وما زال المثقف الحقيقي موجودًا وسط الزحام، وهناك من يراه ويميّزه عن غيره، وما زال صوته مسموعًا رغم الضجيج، ولقد كثر الهرج والمرج من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وتعالت الأصوات من كل حدب وصوب، وعلت فقاعات كثيرة في سماء الثقافة، ما يؤدي إلى الشعور بالاختناق والغثيان.
ورغم هذه التحديات، شددت «التوبية» على أنه رغم هذه الفوضى الفكرية، تظل هناك مساحة ثابتة للمثقف يستطيع أن يختارها ويصنعها، مؤكدة بأن «المثقف يجب أن يعي دوره وسط هذا التحدي الكبير.. عليه أن يواجه الموجة الهادرة من الضجيج الفكري الهزيل ليحمي نفسه ثم ليحمي مجتمعه من الانجراف وراء هذا الضجيج».
وبشأن العزلة التي قد يشعر بها الكتّاب والمفكرون، أكدت «التوبية» أن «الكاتب لا يعزل نفسه عن الجمهور، بل إن العزلة التي يفرضها الكاتب هي جزء من الإبداع الأدبي، فعزلة الكاتب هي من ضرورات الإبداع والخلق الأدبي، ولكن ذلك لا يعني أن يسكن برجًا عاجيًّا بعيدًا عن قضايا مجتمعه، كما أن الكتابة عمل إنساني، والكاتب ذو رسالة، والكاتب لا يكتب من أجل الشهرة بل لأجل فكرة يؤمن بها، وقضية يدافع عنها، ومجتمع يضع مصلحته نصب عينيه، وواقع يعمل على إصلاحه». وأشارت إلى أن الجمهور لا يزال موجودًا، وإنْ تغيّر بعضه أو انجذب إلى سطحيات النشر.
واختتمت الكاتبة شريفة التوبية حديثها بالتأكيد على أن الحياة تتغيّر باستمرار، وأن الكاتب يجب أن يتكيّف مع هذه التغيّرات دون أن يؤثر ذلك على جودة رسالته. فالقارئ هو من يختار الكاتب، وليس العكس، والكاتب مطالب بأن يكتب ما يستحق الكتابة، لا ما يُرضي الجمهور، مؤكدة أن «الأصيل يبقى، والغث تأخذه رياح الزمن».
تأثير مُقيد بالواقع
من جانبه يتحدث الكاتب سلطان البحري عن تأثير المثقف في العصر الحديث، متناولا عدة قضايا حيوية تؤثر في دوره في المجتمع، فمن وجهة نظره، لا يزال المثقف قادرا على التأثير في الرأي العام، لكن هذا التأثير أصبح مرتبطا بشكل كبير بالوسائل المتاحة له والتمكين الذي يحصل عليه داخل المجتمع، فالثقافة بطبيعتها متغيّرة، وقدرتها على التأثير تستمر في التكيّف مع التغيّرات الاجتماعية والتقنية، إلا أن توافر الأدوات المناسبة والبيئة الداعمة يبقى العامل الأساسي لنجاح هذا التأثير.
وبحسب «البحري»، لا يزال المثقف يحتفظ بقدرته على التأثير بعمق، ولكن هذا التأثير مقيّد اليوم بوسائل التواصل الاجتماعي التي قد تضعف من قوة الخطاب الثقافي العميق، فوسائل الإعلام الجديدة رغم كونها فرصة لتوسيع دائرة التأثير والوصول إلى جمهور أوسع، تشكل تحديا للمثقف بما تحتويه من سرعة استهلاك وتوجه نحو الترفيه، وهو ما يصعب دمجها مع الثقافة العميقة التي تحتاج إلى وقت وتفكير، إلا أن المثقف، إن تمكن من التكيّف مع هذه الأدوات بوعي، يمكنه توظيفها لخدمة رسالته الثقافية، فمن الصعب أن تجد مساحة للتفكير في زمن «ريلز» والمقاطع التي لا تتجاوز ثواني معدودة، وهو ما أدى إلى تراجع القدرة على التركيز لدى المتلقين، كما أثبتته العديد من الدراسات.
وعن تراجع الحضور الثقافي في المجتمع، يرى الكاتب سلطان البحري أن السبب يعود في المقام الأول إلى تغيّر أولويات الناس، حيث أصبح البحث عن الشهرة السطحية والمحتوى السريع أكثر جذبًا للناس من الثقافة العميقة، وعلى الرغم من ذلك، لا يُعفى المثقف من المسؤولية، فبعض المثقفين قد ابتعدوا عن المجتمع بشكل طوعي، ما أسهم في تراجع دورهم التنويري والتواصلي.
تجربة متغيرة
وتُرجّح الكاتبة سارية الغنيمية أن «العزلة بالنسبة للمثقف ليست خيارا ثابتا أو قرارا مفروضا، بل هي تجربة متغيرة تتناغم بين الذات والواقع المحيط، فالمثقف قد يختار العزلة بحثا عن مساحة صافية للأفكار بعيدا عن ضوضاء الحياة اليومية، بينما قد يضطر أيضا إليها عندما تضيق به السبل في مجتمعه، ووفقًا لرؤيتها، فإن العزلة ليست تعبيرا عن كراهية للعالم، بل عن حب أعمق للحقيقة، فالعزلة هي نبتةٌ نمت في تربة مزدوجة، وفيها من اختيار الذات بقدر ما فيها من فهم الواقع»، فالمثقف الحقيقي يتسم بالقلق الدائم والتساؤل، ولا يكتفي بما يُقدم له جاهزا.
وفي حديثها عن كيفية استعادة المثقف لصلة حقيقية مع الناس دون التنازل عن عمق أفكاره، قالت «الغنيمية»: الإنسان لا يحقق كماله إلا بالعيش ضمن مجتمع؛ لأن الله لم يخلقه ليعيش وحيدا، مؤكدة أن المثقف يجب أن يتحدث مع الناس لا إليهم، وأن يستمع قبل أن يكتب، وعلى المثقف أن يجد لغة قادرة على التوازن بين العمق والبساطة، فالناس لا يرفضون الأفكار العميقة، بل ينفرون من التعقيد والغموض. أما بشأن أدوات المثقف في التواصل مع جيل جديد، فتؤكد «الغنيمية» ضرورة أن يواكب المثقف تحولات العصر الرقمي وأن يطور أدواته وأسلوبه، مشيرة إلى أن الجيل الجديد يعيش في فضاء رقمي سريع، ما يتطلب من المثقف استخدام وسائل الإعلام الحديثة مثل البودكاست والفيديو القصير، مع الحفاظ على جوهر فكرته وعدم الانزلاق إلى السطحية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخطاب الثقافی المثقف فی لا یزال
إقرأ أيضاً:
تأخير تشكيل الحكومة.. التأثير على عجلة دوران الاقتصاد السوداني
في الأول من يونيو الماضي، أعلن رئيس الوزراء السوداني د. كامل إدريس عن حل الحكومة وتكليف الأمناء العامين ووكلاء الوزارات بتسيير المهام حتى تشكيل حكومة جديدة.
ويعيش السودان حالة فراغ تنفيذي منذ ذلك الوقت، في ظل ظروف أمنية بالغة التعقيد، مما يزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ومنذ أدائه القسم، شرع رئيس الوزراء السوداني في بدء المشاورات لتكوين الحكومة، غير أن ثمة خلافات باتت تطفو على السطح تعمل على تأخير تشكيل الحكومة.
وأكد رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لدى مخاطبته فعاليات المؤتمر الرابع لتمويل التنمية بإسبانيا، أن السودان خطى خطوات مهمة في مسيرته نحو الاستقرار المدني عبر تعيين رئيس مدني لمجلس الوزراء في الحكومة المدنية الانتقالية.
وأضاف أن هذا التعيين يعكس إرادة السودان الثابتة في استكمال مؤسسات الدولة وتعزيز الانتقال المدني الديمقراطي، تمهيدًا لبناء مستقبل أفضل للشعب.
*بداية التشكيل*
وكبداية لتشكيل الحكومة، أصدر إدريس الأسبوع الماضي قرارًا بتعيين الفريق حسن داؤود كبرون كيان وزيرًا للدفاع، كما تضمن القرار ذاته تعيين الفريق شرطة بابكر سمرة مصطفى علي وزيرًا للداخلية. غير أن الفراغ التنفيذي القائم بالبلاد يتسبب في تعطيل دولاب العمل ويؤثر بشكل بالغ على دوران عجلة الاقتصاد القومي.
*تسليم التصاديق*
وطفت آثار هذا الفراغ على السطح، وانعكست بصورة واضحة في غياب بعض الخدمات المقدمة للقطاع الاقتصادي، في ظل غياب واضح للإجراءات والترتيبات المنظمة في عدد من القطاعات.
وأكد رجل أعمال – فضل حجب اسمه- على تعطل العمل بوزارة الاستثمار وعدم تسليم تصاديق المشروعات الاستثمارية.
وقال في حديثه لـ”المحقق” إن وزارة الاستثمار أوقفت تسليم تصديقات المشروعات الاستثمارية بسبب غياب الوزير خلال الفترة الماضية.
وأوضح أن الوزارة لم تصدر تفويضًا لشخص آخر للتوقيع على التصديقات، بالإضافة إلى وجود مشاكل فنية بالنظام المالي للوزارة.
وكشف عن أن الوزارة بدأت أمس الأول في تسليم بعض التصديقات القديمة، لافتًا إلى أن التأخير في تشكيل الحكومة سيخلق بلبلة وتأخرًا في الإجراءات، مما يؤثر سلبًا على المناخ الاستثماري المتأثر أصلًا بظروف الحرب.
*تداعيات اقتصادية*
من جهته، يرى الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي، سنهوري عيسى، أن هناك تداعيات اقتصادية عديدة لتأخر تشكيل الحكومة، تشمل تأمين إمدادات السلع والخدمات وتأمين مخزون استراتيجي من السلع الأساسية، خاصة بالولايات التي تتأثر بفصل الخريف سلبًا نتيجة لانقطاع الطرق وارتفاع تكلفة الترحيل والمضاربات في أسعار السلع والمغالاة من قبل التجار، إلى جانب تأمين إمدادات السلع واللوجستيات للقوات المسلحة قبيل حلول فصل الخريف.
ويقول عيسى لـ “لمحقق” إن التأثير سيشمل الاستعدادات للموسم الزراعي الجديد، مضيفًا أن الزراعة مواقيت.
وأوضح أنه “حانت مواقيت الزراعة بالقطاعين المطري والمروي، ولابد من تأمين احتياجات الموسم الزراعي مبكرًا لضمان نجاحه”.
*فقدان الموارد*
وأشار إلى أن تأثر العمل بدولاب الدولة مما انعكس بصورة مباشرة على تحصيل الإيرادات، خاصة التي بنيت عليها الموازنة العامة للدولة من رسوم جمركية وضرائب ورسوم مصلحية تفرضها الوزارات الخدمية، كوزارات الصحة والتربية والتعليم العالي والزراعة والتجارة والثروة الحيوانية والصناعة والداخلية والخارجية والمعادن والموانئ، وغيرها من المؤسسات الإيرادية، إلى جانب تأثر حركة الاستيراد والتصدير وانعكاسها على إعمار ما دمرته الحرب بمناطق العودة الطوعية.
ولفت سنهوري عيسى إلى تأثير فقدان الموارد عن طريق التهريب، خاصة تهريب الذهب والثروة الحيوانية والمنتجات الزراعية كالصمغ العربي والمعادن والإبل، فضلًا عن التأثير النفسي للمواطن الذي يعول على الحكومة الجديدة، والتي تواجه عسرًا في الولادة واختلافات حول المناصب.
*تباين واسع*
وبدوره، يقول الخبير الاقتصادي والمحلل السياسي د. محمد تورشين أن مسألة تأخير تشكيل الحكومة معقدة للغاية، وربما هناك تباينًا واسعًا في وجهات النظر بين الجهات المعنية المنوط بها المشاركة في الحكومة، خاصة حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام جوبا.
وقال تورشين لموقع “المحقق” الإخباري إن هذا التباين “ساهم في تعقيد مسألة الإسراع في تشكيل الحكومة، وهذا سيؤثر بشكل سلبي على عمل الحكومة في المستقبل”.
وأشار إلى أن هذه المسألة قد تجعل عمل الحكومة غير متجانس ومتوائم مع الخطة التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء، وسيكون الأمر شبه مستحيل.
وأوضح أن التفاؤل بشأن مستقبل عمل الحكومة بقيادة كامل إدريس قد يكون بعيدًا كل البعد عن الواقع، لأن ذلك بدأ يظهر الآن بشكل واضح من خلال التباين في وجهات النظر والتأخر في تشكيل الحكومة.
المحقق – نازك شمام
إنضم لقناة النيلين على واتساب