أكثـرُ أوهام كونيّـةِ القيـم فُـشُـوًّا ورواجـًا، في عالـم اليـوم، وهْـمُ «كونيّـة الحقوق» واستوائِـها على نظامٍ من المبادئ والقواعد واحـدٍ وجامع في العالم كلِّـه. عهـدُ البشريّـة بهذا الوهـم ليس جـديدًا؛ فـلقد شهدت على أمثـلةٍ لـه منذ نهايات عـقـد الأربعينيّـات من القرن العشرين كان أظهرها جميعًا صدور «الإعـلان العالميّ لحقوق الإنسان»؛ لكنّـه الوهم الذي ما فتئ يتزايد كثـافةً وسعةً مع توالي الزّمـن وصولًا إلى لحظـة انعطافـه الكبرى مع ميلاد العولمة وزحْـف حركتها على المجتمعات والدّول، في أركان الأرض قاطبة، على امتـداد الأعوام الخمسة والثّـلاثين الماضية.
وغالبًا ما كان المايسترو الذي يدير معزوفة الحقوق بين هذه المؤسّسات الدّوليّـة واحدًا: إنّـه الحاكم بأمره للنّظام الدّوليّ، منذ قيامه، قبل ثمانية عقود، والرّاعي للمنظّـمات الحقوقـيّـة غـيـرِ الحكوميّـة بالإنفاق والتّوجيه السّياسيّ والتّمكين لقولها وفعْـلِها في القـرار الدّوليّ.
يقضي زعـمُ كونيّـة الحقوق، عند القائلين بها، بوجوب التّسليم بأنّ المعايير التي توزَن بها حقوقُ الإنسان والحقوقُ الاجتماعيّـة- الاقتصاديّـة في العالم معايـيرٌ موحَّـدة ساريةٌ، بالضّـرورة، على الجميع: دولًا ومجتمعات؛ وأنّ أي دعـوةٍ إلى التّـمسُّك بالهـويّات والخصوصيّات لـدفْع أحكام تلك الكـونيّـة دعوى باطلةٌ مردودة على أصحابها، وقد تكون - أبعـد من هـذا - منتهكـةً للقانون الدّوليّ.
هـكذا، يستـغلّ دعاةُ الكونيّـة سوابقَ صدور قرارات دوليّـة للبناء عليها بالقول إنّها كـونيّـةٌ مـعترفٌ بها ومحـطُّ إجمـاعٍ دوليّ وهي، بالتّالي، جزءٌ لا يتجزّأ من القانون الدّوليّ، وكـلُّ اعتـراضٍ عليها اعتـراضٌ على القانون الدّوليّ وانتهاكٌ لأحكامه يقـتضي ردْعـًا من نـوعٍ مّـا. هكـذا، أيضًا، يقضي التّسليمُ بكونيّـة المعايـير تلك بضرورة تكيـيف المنظومات القانونيّـة للدّول جميعِها بما يتـناسب والأحكام القانونيّـة الدّوليّـة في مجال حقوق الإنسان والحقوق الاجتماعيّـة- الاقـتصاديّة.
إنّ سيادة الدّول في مجال التّـشريع وإصدارِ القوانين لا يعود، في منظور هـذه «الكـونيّة»، أكـثر من دعـوًى غرضُها الرّئيس التّـنصُّـل من التـزام الأحكام التي يفرضها القانون الدّوليّ على الجميع، وهي دعوى لن تعفيَ أصحابَها من الخضوع لما تـقضي به تلك الأحكام بحسبانها أحكامًا مرجعُها إلى القانون الدّوليّ؛ فهي مدعوّة إلى الخضوع لها طوعاً وبإرادتها، وإلاّ أُكْـرِهت على ذلك بالقـوّة. هذه، مـثلًا، حال تلك الدُّول التي عُـدَّت «مارقـة» في نظـر دعاة كونيّـة الحقوق، فـتلقّـت وجْباتٍ من العقاب الدّوليّ متـفاوتـةَ القـسوة: من العـقوبات الاقـتصاديّة إلى الحصار إلى الحرب عليها!
يصطدم المرءُ، هـنا، بحقيقـة الفجوة الكبيرة التي تـنـتصب بين دعـوى الكونيّـة هذه وواقعٍ موضوعيّ مجافٍ لا يشهد لها. صحيح أنّها دعوى تـترجم نفـسَها في سياساتٍ دوليّـة، وأنّ هذه السّياسات مطبَّـقة على قسـمٍ كبير من أمم العالم ودولـه، مع ذلك لا شيء فيها يدلُّ على اسمها؛ إذْ ليس فيها من الكونيّـة سوى ادّعاؤُها المعلن.
ولنا، في الشّأن هـذا، دليلان على قـلـناه:
أوّلهما أنّ مفعول هذه التّـشريعات الكونيّة مطلوبٌ أن يسريَ على دولٍ بعينها من دون أخرى: على الدّول الصّغرى في العالم وحدها - وهي تـنتمي إلى الجنوب والشّـرق - ومعها على الدّول الكبرى المناهضة للغرب والمنافِسـة له. إنّ على هذه الدّول أن تُخْضِـع منظوماتها القانونيّـة القوميّـة للأحكام التي تقضي بها القوانين الدّوليّـة في مضمار الحقوق والتّـشريع وِفْـق والمعايـير التي بها تـتحـدّد، ثمّ عليها - بالتّـالي- أن تـتحمّـل تبعات التّـنكّـب عن التـزامها بما في ذلك ما يمكن أن يرتّـبه عليها التّـنكّـب ذاك من عـقوبات. في المقابل، تظلّ دول الغرب الكبرى - خاصّـةً الولايات المتّحدة الأمريكيّـة- محتفظـةً بمنظوماتها القوميّـة، غيرَ متجاوبةٍ مع دعوات تكييف قوانينها مع القوانين الدّوليّـة ولا حتّى آبهـة لِـمَـا يعنيه سلوكها السّياسيّ هذا - القائم على ازدواجيّـة صارخة في المعايير- من تناقضٍ صارخ مع العالم ومن انفضاحٍ كبير لأُزعوماتها حـول كونيّـة الحقوق!
وثانيهما أنّ التّـفاوت الصّارخ بين حقوق الأمم والدّول في ما تـتمتّـع به من حقوقٍ بمقتضى القوانين النّظريّـة الدّوليّـة يفضح، من جهـته، مزعمة الكونيّـة تلك ويميط النّـقاب عمّا تحمله من رياء. نعم، ليس للأفراد الحقوق عينُها في الدّول جميعها وعلى قـدم المساواة بينها فيها. حقّ التّـنقُّـل الحرّ مكفول لكلّ مواطنٍ في الغرب في بقاع العالم كلِّها من غير قيود، فيما هو مقـيَّـد في معظم دول العالم بشروطٍ تعجـيزيّـة من دول الغرب (نظام التّأشيرة أحدُها مثـلًا).
وهـذا مَثَـل واحد من مئات الأمثلة النّظـير. ثمّ ليس لشعوب العالم وأممه من الحقوق الوطنيّة والقوميّة في السّيادة والوحدة ما لشعوب الغرب وأممه مع أنّ احتلال أراضيها وتجزئة الاستعمار لكياناتها أفعالٌ تـنـتهك القانون الدّوليّ وتعتدي عليه! حتّى أقـدس الحقوق - التي لم يمنحها قانونٌ - وهـو الحقّ في الحياة تستكـثـرُه دولٌ كـثيرةٌ في الغرب على شعوبٍ ترزح تحت وطأة الاحتلال والعـدوان والفـقر والتّجويع فـتراها ضالعة في انتهاكه أو ساكـتة عن ذلك الانتهاك! فأيـن «كونيّة الحقوق» في هذا؟!
إذا كان ما تُفصح عنه سياساتُ القـوى المتحكّـمة بالنّظام الدّوليّ هو الكونيّـةُ في عُرفها، فهي قطـعًا كونيّـةٌ عنصريّـة تقـسِّم سكّـان الأرض إلى فئتين على طرفي نقيض: فئة البشر وفئة ما دون البشر. يستحقّ الأوّلون إنسانيّـتهم التي اعتُـرِف لهم بها وما ينجُم منها من سابغ الحقوق كاملةً غيـرَ منقوصـة، فيما لا يستحقّ الثّانون من الحقوق إلاّ ما قـدَّر سادةُ العالم أنّها الحقوقُ التي يستحقّـونها: على مثـال ما يملك الإنسان أن يقـدّر ما هي الحقوق التي تـتمتّع بها حيواناتُه الأليفة في البيت! فـقط في مثـل هذه العنصريّـة النّـكراء، يمكن للعقل أن يُدرِك معنًى مفهومًا لهـذه «الكونيّـة»...
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الد ولی ـة الکونی ـة ة الحقوق
إقرأ أيضاً:
ما أوراق الضغط التي يستخدمها ترامب ضد نتنياهو لوقف حرب غزة؟
قال محمد أبو شامة، مدير المنتدى الاستراتيجي للفكر، إن المفاوضات الجارية بشأن التهدئة في قطاع غزة دخلت مرحلة الحسم، خاصة بعد الرد الإيجابي من حركة حماس على المقترح المطروح، مع بعض التعديلات، يقابله رفض إسرائيلي لهذه التعديلات، مشيرًا إلى أن وفدًا إسرائيليًا وصل بالفعل إلى الدوحة للمشاركة في مفاوضات غير مباشرة مع قيادة حماس.
وأكد أبو شامة، خلال مداخلته في برنامج "ملف اليوم"، المذاع على قناة القاهرة الإخبارية، وتقدمه الإعلامية آية لطفي، أن الوساطة الدولية تسعى حاليًا لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، لكن الحسم الحقيقي قد يكون في واشنطن، وليس في الدوحة، حيث من المتوقع أن يمارس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضغوطًا مباشرة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال لقائهما المرتقب.
وأوضح أن أجندة الاجتماع في البيت الأبيض تشمل ملفات معقدة، من أبرزها مستقبل الحرب في غزة، الملف الإيراني، تسليح إسرائيل بعد استنزاف قدراتها العسكرية، وحتى مستقبل نتنياهو السياسي نفسه.
وأشار إلى أن نتنياهو يسعى للخروج الآمن سياسيًا من أزمته الداخلية، وأن ترامب قد يكون طرفًا فاعلًا في تقديم ضمانات تتيح التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بل وربما إنهاء الحرب في غزة بشكل كامل.
وأضاف أبو شامة أن الهدنة لا تزال معلقة منذ عدة جولات تفاوضية سابقة، وغالبًا ما كانت تفشل في اللحظات الأخيرة بسبب خلافات تتعلق بالمطالب الفلسطينية، وعلى رأسها الانتقال من هدنة مؤقتة إلى إنهاء دائم للحرب، وضمانات أمريكية تردع عودة إسرائيل إلى التصعيد العسكري كما حدث بعد اتفاق يناير الماضي.
وختم بتأكيد أن الضمانات الدولية، وخاصة الأمريكية، ستكون حاسمة لتجنب تكرار سيناريوهات انهيار التفاهمات السابقة، ووقف الإبادة الجماعية بحق المدنيين في غزة، بما في ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية، وهي إحدى أدوات الضغط التي تستخدمها إسرائيل.