الجزيرة:
2025-07-07@20:05:46 GMT

عاصفة في السودان عقب قرار البرهان

تاريخ النشر: 23rd, May 2025 GMT

عاصفة في السودان عقب قرار البرهان

أصدر رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان الاثنين مرسومًا دستوريًا قضى بتعيين كامل الطيب إدريس رئيسًا لمجلس الوزراء.

والسيد كامل إدريس دبلوماسي وسياسي بارز، شغل منصب المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية لأكثر من عشر سنوات، كما شغل منصب الأمين العام للاتحاد الدولي لحماية المصنفات النباتية.

وهو يعد شخصية سياسية مستقلة لم يعرف عنه سابق انتماء حزبي أو أيديولوجي، وقد خاض انتخابات الرئاسة في العام 2010 ضمن المرشحين المستقلين في مواجهة الرئيس السابق عمر البشير.

تزخر السيرة الذاتية للرجل بمحطات عديدة ومواقع عمل مختلفة ساهمت في تكوين خبرة تراكمية أهلته ليكون خيارًا مميزًا من بين عدة شخصيات أخرى ليشغل منصب رئيس الوزراء في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به السودان.

اختيار كامل إدريس لرئاسة الوزراء بكامل صلاحيات المنصب وضع حدًا لفترة فراغ في هذا المنصب استمرت لأكثر من ثلاث سنوات منذ استقالة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك في يناير/ كانون الثاني من العام 2022، حيث ظل مجلس الوزراء طوال تلك الفترة يباشر مهامه التنفيذية بالتكليف.

وقد أثار تعيين كامل إدريس جدلًا واسعًا في الأوساط الشعبية وعلى مستوى النخب والقوى السياسية السودانية على حد سواء، ليس فقط لأن قرار تعيينه كان مفاجئًا وغير متوقع، وإنما أيضًا بسبب بُعد الرجل وغيابه عن المشهد السياسي – على الأقل – منذ اندلاع الحرب التي دخلت عامها الثالث الآن، حيث ظل الرجل معتكفًا فيما يشبه العزلة عن مجريات الأحداث، واتخذ لنفسه مكانا قصيًا عن قوة جذب الاستقطاب الحاد الحادث بين مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي بقيادة حمدوك من جهة، والحكومة السودانية ومؤيديها من القوى السياسية من جهة أخرى.

إعلان

استطاع كامل إدريس أن يحتفظ بحالة حياد تام بين الجانبين ولم يصطف مع طرف بعينه في مواجهة الطرف الآخر، وهو موقف يعكس بوضوح شخصيته التي تميل بشكل كبير نحو الاستقلالية.

ولهذا السبب فإنّ تعيينه أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية ما بين مؤيد، ومعارض.

مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي كانوا في طليعة المعارضين لتعيين كامل إدريس رئيسًا للوزراء بكامل الصلاحيات، ويؤسسون معارضتهم ورفضهم تعيينَ الرجل على ما يرونه من أن الحكومة ليست لها الشرعية التي تخولها القيام بهذا الإجراء من الأساس باعتبار أن شرعيتها انتهت عقب اتخاذ البرهان إجراءات 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 التي قضت بإزاحة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك من منصبه.

وترى هذه الفئة أن حمدوك هو رئيس الوزراء الشرعي، وفي الحقيقة فإن هذا الرأي تفنده حقيقة أن حمدوك كان قد أعيد لمنصبه في أقل من شهر من تاريخ إزاحته، لكنه وبعد شهرين من إعادته تقدم باستقالته لرئيس مجلس السيادة مسببًا الاستقالة بفشل جهوده لإحداث إجماع سياسي وطني "ضروري للإيفاء بما وعدنا به المواطن من أمن وسلام وعدالة وحقن للدماء"، حسب تعبيره.

كذلك من أسباب رفض مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي تعيينَ كامل إدريس أنها تتهمه بأنه صنيعة لنظام البشير، وأنه كان جزءًا من ذلك النظام وأنه – حسبما عبر عن ذلك المستشار القانوني لمليشيا الدعم السريع محمد مختار النور – يتماهى مع التيار الإسلامي، وأن تاريخه مليء بالتناقضات.

تبرز أصوات أخرى متفرقة داخل معسكر الرافضين تعيينَ كامل إدريس وتمثل مشارب مختلفة داخل الطيف السياسي السوداني من قوى وطنية تقف مساندة ومؤيدة للجيش وللحكومة السودانية، منهم سياسيون، وصحفيون، وناشطون، خاصة من فئة الشباب عبروا عن تحفظاتهم على تعيين الرجل- في مواقع التواصل الاجتماعي- وبنى هؤلاء موقفهم هذا على أن التزام كامل إدريس للحياد إزاء الحرب، هو موقف يثير الشكوك حول حقيقة موقفه؛ باعتبار أن طبيعة الحرب- وما تمخض عنها من تداعيات شديدة الفظاعة، بسبب الانتهاكات وجرائم الحرب التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، والتدخل الخارجي بالدعم- لا تدع مساحة للوقوف على الحياد منها، ولا تبرر أي اتجاه سلبي لا يفصح بشكل واضح عن دعمه للجيش والحكومة.

إعلان

أما في الجانب الآخر وعلى صعيد الفئة المؤيدة لتعيين كامل إدريس، فتأتي على رأس هذه الفئة القوى السياسية التي كانت قد تقدمت للبرهان بخارطة طريق للفترة الانتقالية، وتضم هذه القوى السياسية الكتلة الديمقراطية، وتحالف الحراك الوطني، وتحالف سودان العدالة، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الأمين محمود.

حيث امتدحت هذه الفئة قرار التعيين ووصفته بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح، كونها تتيح الفرصة للجانب المدني للقيام بواجبه تجاه إعادة إحياء العمل التنفيذي، والاهتمام بمعاش المواطنين، وتطبيع الحياة، وتقديم الخدمات لهم، وأن من شأن تعيين رئيس وزراء بكامل الصلاحيات يقود إلى انتقال سلس يتم من خلاله تنفيذ اتفاقية سلام جوبا والتحضير لقيام الانتخابات العامة مع نهاية الفترة الانتقالية.

ومن ضمن هذه الفئة المؤيدة برزت أصوات من خارج "منظومة خارطة الطريق"، أبرزها صوت رئيس حزب المؤتمر الوطني (المفوض) الذي يمثل قسمًا كبيرًا من (الإسلاميين) برئاسة أحمد هارون، حيث أصدر الحزب بيانًا أشاد فيه بقرار التعيين واصفًا إياه بالخطوة المهمة على طريق "إعادة ترتيب البيت الوطني الداخلي بما يمكن المجلس السيادي وقيادة الجيش من الاضطلاع بمهامهما الجسيمة ويتيح الفرصة لتكوين حكومة تضطلع بمهامها بكفاءة". وامتدح هارون رئيس الوزراء المعين ووصفه بأنه "كفاءة وطنية مستقلة".

ويلاحظ على موقف ودفوعات الرافضين تعيين رئيس الوزراء، أنهم صوبوا نقدهم لـ (شخص) رئيس الوزراء المعين وليس على الخطوة نفسها، في حين أنه من المسلم به سياسيًا وقانونيًا وفقًا للوثيقة الدستورية أن تعيين رئيس وزراء بصلاحيات كاملة هو من فروض وضروريات الفترة الانتقالية، وركن أصيل في عملية الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي، لذلك فإن هذا التيار الرافض تعيين كامل إدريس، قد أضعف نفسه بتركيزه على رفض شخصِه فقط، وإثارة اتهامات حوله يصعب تأكيدها.

إعلان

وعلى الجانب الآخر، فإن المؤيدين للتعيين لم يستندوا في تأييدهم إلى السمات الشخصية، ولا على الموقف الحيادي لرئيس الوزراء المعين من الحرب، وإنما انطلقوا من كون الخطوة صحيحة وتقود إلى استكمال الدور الانتقالي للحكومة، وتتيح الفرصة لقيادة الجيش من أجل التفرغ لمهامها الدفاعية، واستكمال مسيرة النصر والقضاء على التمرد.

وجدير بالقول إن مهمة السيد كامل إدريس ليست سهلة، وتعترضها العديد من التحديات، يأتي في صدارتها التحدي الاقتصادي، وهو ملف شائك حيث ينتظر من حكومته المرتقبة أن تقوم بإنجاز إصلاحات اقتصادية في الأجل القصير، وإحداث تحسينات عاجلة في معاش الناس، خاصة في مجال الخدمات من مياه وكهرباء، وصحة، وتعليم، وإعادة تأهيل مرافق البنية التحتية، وإيجاد حلول ناجعة لمشكلات تصدير الذهب الذي يمثل العمود الفقري لإيرادات الدولة.

وكذلك إعادة تأهيل المشاريع الزراعية خاصة مشروع الجزيرة، وهو الأكبر على نطاق الدولة بعدما طالته يد التخريب والتدمير بواسطة مليشيا الدعم السريع.

وكذلك أمام رئيس الوزراء المعين تحديات سياسية جمة تتمثل بصورة مجملة في تحقيق انتقال سلس من الفترة الانتقالية التي ستمتد وفقًا لخارطة الطريق لأربع سنوات يتم خلالها تهيئة مناخ سياسي معافى ويمهد الطريق فيها إلى إحداث توافق سياسي على صيغة وشكل الحكم المدني الديمقراطي والتحضير للانتخابات والإشراف عليها وعلى نزاهتها، ومن ثم تسليم البلاد لحكومة منتخبة. وكل ذلك يتم تحت رقابة شعبية مباشرة، مما يضع حكومة السيد كامل المرتقبة تحت ضغط شعبي هائل ومباشر.

المهمة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة، إذا توفر السند الشعبي لرئيس الوزراء وحكومته، وإذا أحسن رئيس الوزراء اختيار طاقمه الوزاري على أساس الكفاءة والتخصص والجدارة بعيدًا عن المحاصصة والمجاملة، وتفعيل قوانين المحاسبة ومحاربة الفساد.

إعلان

فهل ستلبّي الحكومة القادمة مطالب وتوقعات وتطلعات مؤيديها، وتكون على قدر الثقة التي وضعوها فيها، ولا تخيب ظنهم، وتنال شرف نقل السودان من حالة الحرب وعدم الاستقرار إلى حالة الأمن والاستقرار والحكم الديمقراطي، أم أنها ستتنكّب الطريق، وتدور في نفس الدائرة المفرغة وتلحق بسابقاتها من الحكومات؟

الواقع أنه لا سبيل للإجابة عن هذا السؤال في الوقت الراهن فحبر قرار التعيين لم يجفّ بعد، وتطورات الأحداث في ظلّ حالة الحرب متقلّبة ويصعب التنبؤ بها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات ملیشیا الدعم السریع تعیین کامل إدریس هذه الفئة رئیس ا

إقرأ أيضاً:

مناورة الدعم السريع الجديدة للتحايل على الهزيمة

في مساء 23 فبراير/ شباط 2025، تحوّلت نيروبي إلى خشبة مسرح طُرح عليها سيناريو جديد: تمردٌ يحاول أن يُقنّن فوضاه، وأن يُقنع العالم بأنه نواة دولة لا مجرد شظايا بندقية.

سعى تحالف (تأسيس) السوداني، بقيادة مليشيا الدعم السريع ومشاركة فصائل متمرّدة وشخصيات سياسية منشقة، لتقديم نفسه كبديل سياسي مؤسسي قائم على العلمانية والعدالة واللامركزية، في مواجهة ما وصفه بـ"النظام القديم المتحالف مع العسكر والفساد".

هذه المحاولة ليست الأولى في تاريخ السودان التي يسعى فيها كيان مسلح لشرعنة وجوده السياسي، لكنها تأتي في سياق يختلف كليًا عن حركات التمرد السابقة التي غالبًا ما كانت ترتكز على مطالب إثنية أو جهوية واضحة.

كان السقف الأعلى لتحالف "تأسيس" يتمثل في إعلان حكومة موازية من مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، إيذانًا بإحكام السيطرة على الإقليم بأكمله.

غير أن صمود المدينة أمام عشرات المحاولات العنيفة لاقتحامها من قبل مليشيا الدعم السريع، اضطر التحالف إلى خفض سقف طموحاته، والتفكير في إعلان الحكومة من مدينة نيالا، جنوب دارفور.

 وقد علّق كاميرون هدسون، المسؤول السابق في البيت الأبيض والمتخصص في شؤون السودان والقرن الأفريقي، بأن إعلان (الدعم السريع) تشكيل حكومتها الموازية من نيالا يُعدّ "مخيّبًا للآمال للغاية"، موضحًا أن الهدف الأصلي من إعلانها في الفاشر كان إيصال رسالة مفادها: السيطرة الكاملة على دارفور. أما إعلانها الآن من نيالا- كما يضيف هدسون- فهو مؤشر على حجم الضغط الذي باتت تواجهه قوات الدعم السريع.

لقد جاء هذا التحول النوعي في مسار الحرب السودانية بالتزامن مع تراجع عسكري كبير لمليشيا الدعم السريع. فبعد أشهر من المكاسب في الخرطوم ودارفور، بدأت موازين القوى تميل تمامًا لصالح الجيش السوداني، مما دفع قائد المليشيا محمد حمدان دقلو "حميدتي" إلى التفكير في تغطية إخفاقاته العسكرية بغطاء سياسي.

إعلان

هكذا وُلدت ما عرف بـ"الحكومة الموازية"، لا كسلطة بديلة، بل كقناع سياسي لسلطة تبحث عن شرعية، وأداة مزدوجة لتثبيت أقدام مرتجفة على الأرض تهتز من تحتها، وكسب أوراق على الطاولة.

 يهدف ميثاق التحالف إلى تأسيس "مجلس رئاسي" برئاسة حميدتي، وتقسيم البلاد إلى 8 مناطق إدارية، في خطوة تستبطن مشروعًا فدراليًا لا يقف على سيقان، قد يفتح الباب أمام التشرذم.

التأسيس النظري لحكومة بديلة يعكس نية واضحة لخلق دولة موازية لا تعترف بشرعية السلطة في بورتسودان، بل تسعى لإزاحتها من المشهد.

هذا المشروع التآمري، وإن بدا مزخرفًا، فإنه في سياق حرب أهلية يدفع نحو مزيد من التفتيت الجغرافي والسياسي، ويخلق سوابق خطيرة قد تؤدي إلى انفصال فعلي لمناطق واسعة تحت مسمى الإدارة الذاتية، خاصة في الأطراف الملتهبة مثل دارفور، وجنوب كردفان.

شرعية مفقودة وسيادة مهددة

بالكاد جفّ حبر إعلان القيادة العليا حتى بدأت شقوق التحالف في الانكشاف، وكأن البنيان السياسي أُسس على رمال الانتهازية لا على صخر الشرعية.

هذه الأطماع السلطوية والانشقاقات تؤشر على هشاشة البنية السياسية للتحالف الذي وُلد من رحم أزمة لا من قاعدة جماهيرية صلبة. إن غياب الإجماع الحقيقي بين مكوّناته، واعتمادها على مصالح مؤقتة تتقاطع حول دعم مليشيا الدعم السريع، يجعلان بقاءه مرهونًا بمدى قدرة حميدتي على الحفاظ على نفوذه العسكري والمالي، لا على قوة طرحه السياسي أو جاذبيته الشعبية.

الجيش السوداني لم يُبدِ قلقًا مفرطًا، بل وصف الخطوة بأنها مجرد محاولة من مليشيا الدعم السريع للضغط التفاوضي بعد خسائرها الأخيرة، معتبرًا "تأسيس" تكتيكًا أكثر منه مشروعًا طويل الأمد.

هذا الموقف ينسجم مع تقييم أغلب الدوائر السياسية التي ترى في التحالف مشروعًا مؤقتًا، لا يحظى باعتراف دولي ولا دعم شعبي حقيقي خارج معسكرات التمرد. إن رد فعل الجيش ينمّ عن ثقة في عدم قدرة "تأسيس" على اختراق جدار الشرعية الدولية والمؤسسية القائمة.

إقليميًا، تباينت المواقف لكن الإجماع كان على عدم دعم التحالف الجديد. لم تُبدِ مصر أو إريتريا ترحيبًا، واعتبرتاه خطوة تُضعف محاولات التوسط بين الطرفين، وتدفع السودان نحو الانقسام، وهو ما يهدد استقرار حدودهما.

السعودية كانت أكثر وضوحًا، إذ أعلنت رفضها أيَّ حكومة خارج إطار المؤسسات الرسمية، وواصلت دعم مبادرة منبر جدة للحل السياسي، مؤكدة على أهمية وحدة السودان واستقراره للمنطقة.

أما الاتحاد الأوروبي، فرأى في تحالف "تأسيس" تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان، وألمح إلى توسيع العقوبات ضد الجهات الداعمة للانقسام، وذلك انسجامًا مع سياسته العامة في دعم الدول المستقرة ومؤسساتها.

الموقف الأميركي من "تأسيس" كان حادًا: وزارة الخارجية وصفته بأنه "إنذار بتقسيم فعلي للبلاد"، بينما ضغط الكونغرس لوقف أي دعم عسكري خارجي لمليشيا الدعم السريع. كما أدرجت واشنطن قيادات من المليشيا في قوائم العقوبات، في رسالة واضحة أن "الشرعية لا تُنتزع بالتمرد".

الاتحاد الأوروبي تبنّى موقفًا مشابهًا، داعيًا إلى وقف فوري لأي خطوات أحادية نحو تشكيل حكومات موازية. هذا الموقف الغربي يعكس قلقًا عميقًا من تحول السودان إلى دولة فاشلة أو مقسمة، مما قد يزعزع استقرار منطقة الساحل والبحر الأحمر.

إعلان

أما الصين فقد تبنّت نهجًا أقل حدة وأكثر حذرًا. أعربت عن "قلقها" من احتمالات تفكك السودان، لكنها استمرت في دعم مشاريع البنية التحتية. موقف بكين يُمليه أساسًا مصالحها الاقتصادية والاستثمارية الكبيرة في السودان، وتجنبها التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول.

أما روسيا فكان موقفها الأكثر براغماتية: دعم رسمي للحكومة السودانية، مقابل تقارير غربية عن تزويد مليشيا الدعم السريع بأسلحة عبر شبكات غير رسمية، في تكرار لنهج "توازن النفوذ" الذي تتبناه موسكو في سوريا وليبيا.

الاتفاق الأخير حول القاعدة البحرية في بورتسودان عزّز من علاقة روسيا بالجيش، لكنه لا يُلغي تعاملها غير المباشر مع فصائل أخرى لحماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، مما يجعل موقفها أقرب إلى اللعب على جميع الأطراف.

الشرعية الدستورية وصمت القوى المدنية

من منظور القانون الدستوري، يمثل تحالف "تأسيس" حالة عصيّة على التطبيع السياسي. فالإعلان عن "مجلس رئاسي" وبرلمان من خارج إطار الشرعية القائمة يُعد مخالفة صريحة لأي مرجعية دستورية سابقة أو لاحقة. لا توجد أي وثيقة قانونية سودانية- منذ الاستقلال- تمنح كيانًا مسلحًا حقّ تشكيل حكومة في غياب تفويض شعبي، أو اعتراف دستوري.

بل إن التمرد نفسه، في الأعراف الدولية، لا يمنح قائده الحق في التشريع أو التقسيم أو إعلان الكيانات. وبذلك، فإن "تأسيس" ليس فقط كيانًا خارج القانون، بل يتحدى جوهر الدولة ذاتها، ويحاول كتابة نصوصه بمداد البنادق لا بأقلام الشرعية.

إنه يفتح الباب لسوابق خطيرة: أن يُصبح كل من حمل السلاح مؤهلًا لحكم ما تحت قبضته، ولو عبر مسرحية دستورية مفبركة، مما يقوض أي أسس لبناء دولة حديثة قائمة على القانون والمؤسسات.

أما القوى المدنية السودانية، فقد وقفت أمام إعلان "تأسيس" في حالة من التردد والانقسام. بعض التيارات مع وقوفها مع التمرد- كتحالف الحرية والتغيير- لكنها لم تجد بدًا من رفض فكرة الحكومة الموازية، واعتبرت الخطوة تهديدًا لمسار الدولة المدنية، ومقدمة لتقسيم البلاد على أسس عسكرية.

الحزب الشيوعي كان أكثر حدة، فوصف التحالف بأنه "تحالف انتهازي بين القتلة والانفصاليين"، داعيًا لمواجهته سياسيًا وميدانيًا. بالمقابل، فضّلت بعض الشخصيات المستقلة الصمت، أو أبدت مواقف رمادية تلوّح بـ"ضرورة الحلول السياسية من أي جهة".

هذا التباين يكشف عمق الأزمة في الجسم المدني المعارض، حيث لم يعد واضحًا ما إذا كانت وحدة التراب السوداني أولوية، أم إن خصومة بعضهم مع الجيش جعلت من التمرد أهون الشرّين.

وهنا يبرز سؤال لا يقل خطورة: هل يُمكن لمعارضة مدنية أن تستعيد المبادرة وهي تراقب المشهد من خلف النوافذ؟ إن صمت أو انقسام القوى المدنية يضعف موقعها التفاوضي، ويقلل من قدرتها على تقديم بديل سياسي موحد ومقبول للشعب السوداني.

"تأسيس": قيمة مضافة أم واجهة؟

يبقى السؤال الجوهري: هل يشكّل "تأسيس" قيمة مضافة حقيقية لتمرد مليشيا الدعم السريع، أم مجرد واجهة سياسية محكومٍ عليها بالانهيار؟

من منظور الواقعية السياسية، لم يكن "تأسيس" سوى منصة إسعاف تفاوضي لقوة تخسر الميدان، وتبحث عن مكاسب على الورق حين تتآكل على الأرض. لكنه في الوقت ذاته كشف عن حدود التحالفات الهشة، وعن استحالة فرض نموذج "الحكم الموازي" في ظل الرفض الشعبي، وغياب الشرعية والاعتراف الدولي.

الرؤية العلمانية والفدرالية التي يطرحها الحلف قد تروق للغرب نظريًا، لكنها تفقد كل جدواها حين ترتبط بفصيل متهم بارتكاب فظائع ضد المدنيين، مما يضعف أي محاولة لكسب الدعم الأخلاقي أو السياسي المستدام.

تشير أغلب التحليلات إلى أن التحالف لن يصمد بوصفه "حكومة ظل"، بل سيُستثمر في مرحلة ما كأداة تفاوضية، قبل أن يُحل أو يُعاد تشكيله ضمن صفقة شاملة.

إعلان

هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا يرى أن التحالف هو ورقة ضغط في يد مليشيا الدعم السريع، تُرفع على طاولة المفاوضات للحصول على مكاسب أكبر، أو لضمان حصة في أي ترتيبات مستقبلية.

في أسوئِها، فقد يتحول إلى مقدمة لانفصال سياسي- إداري جديد، خصوصًا في دارفور، ليُعمق بذلك جراح الانقسام ويضيف فصلًا جديدًا من عدم الاستقرار والصراع.

إن تحالف "تأسيس" أشبه بمحاولة صبغ الجدران المتهالكة بألوان الدستور واللامركزية، بينما الأساسات قائمة على فوهات البنادق. ليس مشروع دولة بقدر ما هو مرآة لهشاشة التمرد حين يضيق عليه الخناق.

إنه محاولة لتدوير الأزمة لا لحلها، لتلميع الخراب لا لبناء بديل. إنه محاولة لتقنين السيطرة عبر واجهات سياسية ودستورية هشّة، تفتقر للقبول المحلي والدولي.

وبينما تُصرّ مليشيا الدعم السريع على المضي في بناء حكومتها البديلة، فإن المجتمع الدولي يتعامل معها كـ"جهة متمرّدة" لا كشريك شرعي. وعليه، فإن القيمة الحقيقية لهذا التحالف لا تُقاس بما أُعلن، بل بما قد يُنجزه سياسيًا على طاولة التفاوض.. أو ما قد يُفشل تحقيقه على الأرض.

في ضوء هذه التحديات الجسيمة والرفض الدولي، يمكن أن نسأل: ما هي البدائل المتاحة لمليشيا الدعم السريع لضمان أي شكل من أشكال التمثيل السياسي المستقبلي؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • دمج الوزارات .. هل تواجه حكومة كامل إدريس إشكاليات في تداخل الاختصاصات؟
  • كامل إدريس: ضوابط مشددة لحماية قطاع التعدين من الفساد
  • تعيين القاضي علي عطبوش مديرًا لمكتب رئيس الوزراء اليمني
  • كامل إدريس يوجه بتطوير الاتصالات وتجييرها لصالح التعليم والذكاء الاصطناعي
  • كامل إدريس: الإتصالات والتحول الرقمي أولى مقومات تنمية وبناء الدولة الحديثة
  • إنشاء لجان «الكرامة والخدمات» بعاصمة ولاية الجزيرة بإشراف إسلاميين
  • مناورة الدعم السريع الجديدة للتحايل على الهزيمة
  • الجاكومي .. يطالب بـ “ربع السلطة” في حكومة “الأمل” الجديدة برئاسة كامل إدريس
  • آية الله عبد الفتاح البرهان
  • ‏رئيس الوزراء اللبناني: الاستعراضات المسلحة التي شهدتها بيروت غير مقبولة بأي شكل من الأشكال وتحت أي مبرر كان