من رماد الألم تُصاغ البدايات
تاريخ النشر: 25th, May 2025 GMT
صالح بن سعيد بن صالح الحمداني
في لحظات لا تشبه غيرها حين يُخيَّل إليك أنَّ العالم قد انكمش على صدرك وتثاقلت أنفاسك حتى خِلتها تودعك، لا لأنك ضعيف أو عاجز؛ بل لأنك كنت نقيًا في عالم يمجّد الزيف، وصادقًا في زمن يكافئ المراوغة وعفويًا في ساحة يتربص فيها المتصنّعون، تلك اللحظات التي تشعر فيها وكأنك غريب في وطنك سجين في ذاتك تائه في عالم لا يشبهك ولا يشبه ما آمنت به، هي ليست نهاية؛ بل بداية جديدة تتطلب أدوات مختلفة ورؤية أكثر عمقًا واتساعًا.
الخذلان ذلك الشعور المرّ الذي يعصف بك من أقرب الناس إليك ليس لعنة كما قد يُخيَّل لك؛ بل هو مطرقة نحت تنحت فيك نسخة أكثر صلابة وأشد وعيًا، إنه تجربة جارحة نعم لكنه أيضًا تمهيد لتحول داخلي، يعيدك إلى جوهرك بعد أن كدت تفقده في دوامة التوقعات والآمال المعلقة، هو ليس نهاية الثقة؛ بل بداية بناء الثقة في من يستحق وفي الذات أولًا.
أما الألم فهو المعلم الذي لا يُشفق لكنه لا يكذب، حين يُثقلك على صدرك ويجبرك على التوقف فهو لا يفعل ذلك عبثًا؛ بل ليُريك ما كنت تغفل عنه، ليجعلك تُصغي إلى صوت داخلي لطالما تجاهلته في صخب الحياة، الألم ليس عدوًا؛ بل دليل يُوجّهك حين تُضلّ الطريق، هو الصمت الذي يُعلّمك أكثر من آلاف الكلمات وهو الغياب الذي يكشف الحضور الحقيقي لما هو أصيل فيك.
في هذا العالم الذي يُمجد المظاهر ويغفل عن الأعماق لا تُرهق نفسك بمحاولة إثبات ذاتك لمن لا يريد أن يفهمك ولا تستهلك طاقتك في شرح ما لا يُرى إلا بالقلوب النقية، ثباتك هو ما سيُثبت صدقك وصبرك هو ما سيُثمر في النهاية، دعهم يظنون أنك انتهيت بينما تنشغل أنت في بناء شيء لا يستطيعون تخيله… بناء ذاتك.
ركِّز لا تُشتِّت انتباهك في معارك لا تليق بك ولا تُهدر دموعك في طرق لا تقود إلى نور، اجعل من كل خذلان دافعًا ومن كل دمعة وقودًا ومن كل لحظة صمت خطةً جديدة تُرسم في صمت وتُنفذ بقوة، لا تغرق في التحليل المفرط ولا تبحث عن إجابات لكل سؤال فبعض الأسئلة هي جسر للعبور لا محطة للتوقف.
تقدَّم ولو خطوة واحدة كل يوم لا تستهن ببداياتك الصغيرة فكل من كتبوا أسماءهم في صفحات المجد، بدأوا من زاوية موحشة من لحظة خيبة من نقطة ظنوا أنها النهاية، ولكنهم تقدموا ولو بخطوات مرتجفة حتى صاروا رواةً لأجمل حكايات الانتصار.
مشاعرك اليوم مهما كانت موجعة هي البوصلة التي ستقودك غدًا شرط أن تصغي لها لا أن تُخمدها، وقراراتك التي تتردد فيها الآن ستكون محطات إعجاب لاحقة سيتمنّى الآخرون لو اتخذوها كما فعلت.
لا تحاول إثبات شيء لأحد العالم لا يحتاج إلى نسخة أخرى من الزيف؛ بل إلى ذاتك الحقيقية اثبت على وعدك لنفسك القديمة تلك التي وعدتها ذات مساء أن لا تنكسر، أن تنهض مهما تعثرت وأن تُكمل الطريق ولو بصمت.
في نهاية المطاف لن يُكتب اسمك في سجلّ الحياة لأنك تألمت؛ بل لأنك نهضت، لن تُحفر بصمتك لأنك كنت ضحية؛ بل لأنك كنت مقاتلًا في معركة الصدق وسط زمنٍ يقدّس الأقنعة.
تمهل… فما يحدث الآن، ليس النهاية؛ بل البداية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
"الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
غزة - خاص صفا
"ناجية وحيدة"، لكن صدمة فقد عائلتها قبل نحو شهر، في وقت وضعت فيه حرب غزة أوزارها، جردتها من معاني الكلمة، وتعيش أوضاعًا صعبة، تتمنى فيها "اللحاق بهم.
الفتاة بتول أبو شاويش "20 عاما"، واحدة من آلاف الناجين الوحيدين لأسرة كاملة ارتقت بحرب غزة، لكنها تُسقى أضعافًا من كأس الفقد، لكونها استبعدته يومًا.
"أنا لستُ ناجية، أنا وحيدة وتمنيتُ لو أني ذهبتُ معهم"، تقول بتول لوكالة "صفا".
وتضيف "استشهدت أمي وأبي وإخوتي في قصف بجانب بيتنا في أبراج عين جالوت قبل شهر، وكنت معهم في نفس البيت".
ولكن دقيقة بين مغادرة "بتول" غرفة إخوتها نحو غرفتها، كانت فاصلًا بينها وبينهم، بين حياتها ومماتهم، رغم أن أنقاض البيت وقعت عليها هي أيضًا.
وتصف تلك اللحظات "كنت بجانب محمد وجميعنا بغرفة واحدة، ذهبت لأبدل ملابسي، وفي لحظة وجدت نفسي تحت الأنقاض".
ما بعد الصدمة
وانتشلت طواقم الدفاع المدني "بتول" من تحت جدارين، مصابة بذراعيها، وحينما استفاقت داخل المستشفى، وجدت عمها بجانبها.
سألت بتول عمها عن والديها وإخوتها، وعند كل اسم كان جوابه "إنا لله وإنا إليه راجعون".
لم تتمالك نفسها وهي تروي اللحظة "لم أستوعب ما كان يقوله عمي، لقد فقدتُ أهلي، راحت أمي رغم أنني كنت أدعوا دومًا أمامها أن يكون يومي قبل يومها".
"بتول" تعيش أوضاعًا نفسية صعبة منذ فقدت أسرتها، ويحاول عمها "رفعت"، أن يخفف عنها وطأة الفقد والصدمة.
"لحظات لم تكتمل"
يقول رفعت "40 عاما"، لوكالة "صفا"، إنها "ليست بخير، لا تعيش كأنها نجت، ولا تتوقف عن التساؤل لماذا لم تذهب معهم".
ويضيف "هي تؤمن بالأقدار، لكن أن يفقد الإنسان أهله وفي وقت هدنة، يعني مفروض أنه لا حرب، والقلوب اطمأنّت، فهذا صعب خاصة على فتاة بعمرها".
وسرق الاحتلال لحظات جميلة كثيرة من حياة "بتول"، لم تكتمل، كحفلة نجاح شقيقها "محمد" في الثانوية العامة.
يقول عمها "بتول بكر أهلها، وهي تدرس في جامعة الأزهر، رغم كل الظروف، وقبل استشهاد أخي وعائلته، احتفلوا بنجاح محمد، وكانوا ينوون تسجيله معها في الجامعة".
ومستدركًا بألم "لكن كل شيء راح، وبقيت بتول وحيدة تحاول أن تنهض من جديد، لكن ليس بعد".
ولم تقدر "بتول" على وداع أهلها من شدة صدمتها، وحينما وضعوها بين خمسة جثامين، تحدثت إليهم، سألتهم لما "رحلتم وتركتموني"، وما قبلت إلا جبين شقيقتها الصغيرة، أما أمها "فعجزت عن الاقتراب منها"، تردد بتول وهي تهتز من استحضار المشهد.
ويوجد في غزة 12,917 ناجيًا وحيدًا، تبقوا من أصل 6,020 أسرة أبيدت، خلال حرب الاحتلال على غزة على مدار عامين، فيما مسح الاحتلال 2700 أسرة من السجل المدني بكامل أفرادها، البالغ عددهم 8,574 شهيداً.