جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-12@22:56:12 GMT

الحج ودلالات العبور

تاريخ النشر: 10th, June 2025 GMT

الحج ودلالات العبور

 

زكريا الحسني

الحج ليس مجرد رحلة زمنية أو طقس شعائري، بل هو عبور عميق من ضيق النفس إلى سعة الروح، ومن فوضى الحياة إلى نظام الكون، ومن غفلة الأرض إلى يقظة السماء.
إنها رحلة الإنسان نحو الله، وموسم للقاء الخالق بعيدًا عن زخارف الهوية والانتماء والوظيفة. رحلة تتجلى فيها أعماق فلسفة التوحيد في أبهى صورها، وتظهر حقيقة الإنسان كما أرادها الله عبدًا تائبًا متجردًا عن الزخرفة، وعائدًا إلى أصله الأول.


يبدأ الحاج بخلع ثياب الدنيا ولبس ثوبي الإحرام في صورة تعلن عن التحرر من كل انتماء سوى لله، حيث لا فرق بين غني وفقير، ولا بين ملك وعامل، فالجميع في الإحرام سواء.
إنها لحظة تجرد يعلن فيها الإنسان أنه لا شيء سوى عبد لله، وهنا تظهر أولى تجليات فلسفة الحج: إسقاط الهوية السطحية ورجوع الجميع إلى جوهر النفس بلا إضافات.
يجمع الحج بين قدسية الزمان وعظمة المكان، فهو في أيام معدودات اختارها الله بعنايته، تظللها الليالي العشر، وفي مكان مشى فيه الأنبياء ودعوا عنده، وبكوا وسجدوا على ترابه.
الوقوف بعرفة ليس وقوف جسد؛ بل وقوف روح بين يدي الله. هو يوم تتنزل فيه الرحمات وتغفر فيه الذنوب، فالأرض تلتزم الصمت لتسمع الدعاء وتقول "آمين"، والسماء تلتقط.
السعي بين الصفا والمروة ليس ركضًا عشوائيًا؛ بل استحضار لقصة الأم العظيمة هاجر التي علمت البشرية معنى التوكل، وكيف يفتح الله الأبواب لمن طرقها بصدق.
من أعمق ما في الحج أنه يربي النفس على الطاعة قبل الفهم.
لماذا نرمي الحجارة لحجرٍ صلد؟
لماذا نطوف 7 أشواط حول أحجار لا تضر ولا تنفع؟
لماذا نقبّل الحجر الأسود؟
ليس المطلوب أن ندرك بعقولنا معنى كل فعل، بل نغوص في حالة التسليم للخالق العظيم العليم الحكيم، فهو وحده مَن يستطيع أن يعلمنا أن العبودية لا تقبل أسئلة متكررة؛ بل تتطلب التلبية، وهذا كل شيء.
في الحج تذوب الفروق وتُمحى المسافات وتختفي الأنا، فملايين الناس يلبّون بصوت واحد: "لبيك اللهم لبيك"، كأن الكون كله قد تحوّل إلى كائن واحد يقول لله: "ها أنا ذا".
الحج هو إعلان عالمي أن لا معبود بحق إلا الله، وأن ما سواه زائل. في هذه المناسك يتذوق القلب معنى الفناء في الله والرجوع إليه تعالى.
بعد أيام من التعب، من التضرع، من الدموع، من الطواف والسعي والوقوف والرمي، يخرج الحاج بروح جديدة نقية كأنه خُلِق من نور. لم يكن مسموحًا الرفث ولا الفسوق، هذا لأجل أن تتولد الروح ولادة جديدة، كاليوم الذي أنجبته أمه.
الحج ليس طقسًا فقط؛ بل فلسفة حُبٍ وتوحيد وارتقاء وتزكية. إنها ساعات لقيا الإنسان بذاته الحقيقية، ساعات إعادة ترتيب علاقته مع خالقه، وساعات لفهم طبيعته الحقيقية، وأنه آخر المطاف سيتجرد من كل شيء، باستثناء عنوان "العبودية" لله وحده.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

فاضت المشاعر في المشاعر

الحج هو عبادة عظيمة الحسنات ، كثيرة الثواب ؛ يمحو الله تعالى به الخطايا ويقيل العثرات ، ويطهر الإنسان من أدران ذنوبه السابقة فيرجع الحاج إلى أهله طاهر القلب نقي السريرة وكأنما ولد من جديد ، لأن الحج ميلاد جديد للإنسان ، فهنيئاً لمن كتب الله له الحج وهنيئًا لمن تُقبل منه.

الحج رحلة روحانية ، وعبادة نورانية ، دعوة من الله لزيارة بيته ، فلتلبوا ولتهللوا ، ولتذكروا الله بكل مكان وزمان.

الحج أجمل أيام العمر ، أيام مليئة بالروحانية والسعادة، ومليئة بالطمأنينة والسكينة والقرب من الله.

الحج تتلاقى فيه شعوب الأمم الإسلامية؛ لتتعارف وتتآلف وتتبادل المنافع.

جاء الحجاج من كل فج عميق بلباس واحد، وفي مكان واحد ، ويؤدون عبادة واحدة، ومشاعرهم حافلة بالذل والخشوع لرب العالمين ، جاءوا شعثاً غبراً يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ، حتى أن المولى جل وعلا يباهي بهم ملائكته.

فيا لها من مشاعر إيمانية تكسر القلوب القاسية ، وتذل الجبابرة، وتشعر المسلمين بضرورة وحدة الهدف، ووحدة الطريق المؤدية إليه، ليتحقق لها التمكين في الأرض والنصر على أعدائها في الشرق والغرب.

الحج المبرور هو الحج الموافق لهدي النبي ﷺ الذي لم يخالطه إثم من سمعة أو رفث أو فسوق، المحفوف بالصالحات والخيرات.

الحج لبيك اللهم لبيك، إليك عدنا ، وعلى بابك التقينا ، وذرفنا الدمع وبكينا ، إليك أنبنا ، وإليك أفضنا ، فتقبل اللهم منا فبرحمتك اهتدينا.

الحج لبيك يا رب الحرم ، لبيك يا رب الجود والكرم ، لبيك أنت المنعم ، لبيك يا رب الورى والكل باسمك محرم.

الحج شعور لا يعرفه إلا من حج بيت الله بقلب خالص ، ونفس موقنة ، الحاج يتذوق حلاوته ، ويستشعر قدسيته ، وتحفه روحانيته.

الحج فيه ترتفع الأصوات بالتلبية ، والاكف بالدعاء ، والقلوب بالرجاء ، عسى الله الواحد الخلاق أن يغفر.

والأنفس والقلوب والأرواح والأبدان تشتاق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

قال الشاعر:
ولكعبة البيت الحرام قلوبنا تصفو ** وتظهر شوقها المكتوما
طاف العباد بها وصلوا خشعا **
وترنموا بتلاوة ترنيما
وتجردوا في كل شيء عندما جاءوا **
وقد نالوا الثواب كريماً
لبوا نداء الحق بالقلب الذي **
سمع الأذان في السماء جميلا

في الحج تُقبل القلوب على الله ، طلباً للرحمة والمغفرة والعتق من النار في أجواءٍ مفعمة بالإيمان ، والطمأنينة والسكينة ، حجاج بيت الله الحرام حينما يؤدون طوافَ الوداع يسكبون الدموع والعبرات على فرق بيت الله الحرام ومسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والمشاعر المقدسة.

الحج يغذي الأرواح المتعبة، ويفتح الأبواب المغلقة، وينفي الفقر المدقع، ويمحو الذنوب المتراكمة، كما ينفي الكير خَبَثَ الذهب والحديد؛ تطبيقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة).

إن الجانب الروحي وجانب المشاعر في الحج عظيم وكبير جدًا ، فيعطينا مشاعرُ لا توصف، وأحاسيسُ لا تُكتب، وشعائرُ لا تُحكى، إنما يستطعمها الذي يؤدِّيها، ويستشعرها الذي يحضرها، ويُحسُّها الذي يلبِّي نداءها، فينظر إلى الكعبة، ويعانق الحَجَر، ويصلي عند المقام، يسعى كما سَعَتْ هاجر عليها السلام ، ويطيع كما أطاع إسماعيلُ عليه السلام ، ويضحِّي كما ضحى إبراهيمُ عليه السلام، ويطوف كما طاف محمدٌ عليه الصلاة والسلام، ويقبِّل الحجر كما قبَّل عمر رضي الله عنه؛ فقط عن حبٍّ ورغبة وإخلاص، لعل قدمًا تأتي مكان قدم، وطوافًا يأتي مكان طواف، وسعيًا يأتي مكان سعيٍ، فيزداد الإيمان، ويتنزل الغفران، وينتشر الأمن ويأتي الأمان.

ها هي شمس الحج قد غربت ، ولحظات الوداع صعبة وقاسية ، وفاضت المشاعر في المشاعر ، اللهم تقبل من حجاج بيتك حجهم ، اللهم اغفر لهم اللهم تقبل منهم، اللهم ردهم إلى أهلهم سالمين غانمين مقبولين ، وداعاً يا حجاج بيت الله الحرام والقلب يعتصره الألم على فراقكم فقد أحببناكم.

مقالات مشابهة

  • لماذا الغدير؟
  • مستقبل وطن: بيان الخارجية يعكس احترام مصر لحقوق الإنسان وسيادة الدولة
  • التغيير إلى الأفضل.. أزهري يكشف عن أهم علامات الحج المبرور
  • السعودية والأنسنة لضيوف الرحمن
  • فاضت المشاعر في المشاعر
  • كيف يعود الحاج كيوم ولدته أمه؟
  • نصائح للحجاج بعد العودة من الحج
  • أسعار الخضروات والفاكهة اليوم في سوق العبور.. البطاطس بـ 6 جنيهات
  • بعد عودة الحجاج.. ما هي أحب الأعمال إلى الله؟