وفي ظل الفوضى الجمالية المعاصرة، التي أنتجها الاستهلاك البصري السريع والانفصال عن الطبيعة والقيم، تأتي الحاجة الملحة إلى تربية الذوق الجمالي، وتنمية التقدير الواعي للجمال الكوني والفني معًا، من خلال التربية، الإعلام، والفنون الهادفة، ويُعد الجمال قيمة إنسانية عالمية، تثير الإعجاب، والتأمل، والتساؤل. ويتجلّى هذا الجمال في صورتين أساسيتين: الجمال الكوني الذي أبدعه الله، والجمال الوضعي الذي صاغه الإنسان.

وبينما ينطوي الجمال الكوني على رهبة وعظمة خارقة لا يد للإنسان في صنعها، فإن الجمال الوضعي يعكس محاولات البشر لفهم الجمال والتعبير عنه. ويتجلّى الجمال الكوني في مظاهر متعددة من الطبيعة والخلق، لا تقتصر على الجانب البصري فحسب، بل تمتد إلى السمع، والإحساس، والتناسق العام في النظام الكوني. وهذا الجمال ليس ناتجًا عن تدخل بشري، بل هو تعبير مباشر عن إرادة الخالق، وتجلٍّ لقدراته المطلقة في الإبداع والإتقان.

وللجمال الكوني أثر روحي ونفسي فالجمال الكوني لا يخاطب الحواس فقط، بل يتسلل إلى عمق النفس، ويوقظ فيها معاني السكون والتأمل. وقد جعل الله الجمال في الكون وسيلة لتذكير الإنسان بعظمته وقدرته، ودعوة للتفكر والتسبيح. كما أن هذا الجمال يبعث الطمأنينة، ويقوّي الصلة بالخالق، ويعزّز الإيمان في القلوب.وتتعدد اشكال الجمال الكوني في نماذج عديدة منها:
جمال الطبيعة: الطبيعة بكل مكوناتها – من جبال، وأنهار، وبحار، وسماوات، ونجوم حيث تعكس نظامًا بالغ الدقة والجمال. فاللون، والشكل، والحركة في الطبيعة تتكامل في تناغم يجعل الإنسان يشعر بالطمأنينة والانبهار في آنٍ واحد. يقول تعالى: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" النمل: الآية 88، وهو تعبير قرآني عن الكمال في خلق الله. وأيضاً جمال التوازن والنظام: الكون يسير وفق قوانين دقيقة، من دوران الكواكب إلى توازن عناصر الحياة على الأرض. هذا الاتساق يُعد أحد أعظم صور الجمال الكوني، حيث لا فوضى ولا عبث. قال تعالى: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ" سورة الرحمن: الآيات 7–8 وهو ميزان دقيق يحكم كل شيء، بما فيه الجمال. جمال التنوع: في الكون تنوع مذهل في الألوان، والأصوات، والأشكال، والكائنات، وكل ذلك لا يُنتج تشويشًا، بل تآلفًا يعبّر عن جمال التنوع دون تضاد، قال تعالى:
"وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِين" َسورة الروم: الآية 22، جمال الصوت الطبيعي: كصوت خرير الماء، زقزقة العصافير، هدير البحر، وحفيف الأشجار، وهي أصوات تحمل نغمًا فطريًّا يريح النفس ويجذب الحواس دون تكلف.

أما الجمال الوضعي هو الجمال الذي يصنعه الإنسان، وهو نتاج خبرته، خياله، ذوقه، ووعيه الجمالي. يتمثل هذا النوع من الجمال في الفنون التشكيلية، العمارة، الأدب، التصميم، الموسيقى، وغير ذلك من الإبداعات التي تعبّر عن حاجته الفطرية إلى التنظيم، الإبداع، والتعبير عن الذات.
وقد تطوّر مفهوم الجمال الوضعي عبر العصور، من محاكاة الطبيعة في العصور القديمة، إلى الابتكار والتجريد في الفنون الحديثة، ثم إلى التجريب والرقمية في العصر الراهن، ومن أشكاله العمارة والفنون  مثل الفن التشكيلي والموسيقى والأدب والشعر و الزخرفة والخط العرب والفنون الرقمية والتصميم الحديث وفي عصرنا، أصبح الجمال الوضعي يعتمد على التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي، مما أتاح أشكالًا جديدة من التعبير، مثل التصميم الجرافيكي، الواقع الافتراضي، والفنون التفاعلية، ويعتمد الجمال الوضعي على الابتكار ويتأثر الجمال الوضعي بالسياق الثقافي والاجتماعي، فيختلف ذوقه من حضارة إلى أخرى ويتغير مع الزمن ويخضع لتأثيرات الإعلام والموضة والتعليم.

ويساعد الجمال الوضعي في بناء هوية ثقافية، ويُعزز من التواصل الإنساني، ويعمل كوسيلة للتعبير عن الذات.

رغم اختلاف مصدر كلٍّ من الجمال الكوني والوضعـي، إلا أن هناك قواسم مشتركة بينهما من حيث الأثر والتجربة الجمالية، ويمكن القول إن الجمال الكوني والوضعـي ليسا متعارضين، بل متكاملين في بناء الوعي الجمالي الإنساني. فبينما يربطنا الجمال الكوني بعظمة الخالق ويدعونا للتأمل والتسبيح، يمنحنا الجمال الوضعي فرصة للتعبير والخلق والمشاركة في بناء عالم أجمل. ومن هنا تبرز أهمية الموازنة بين التأمل في جمال الخلق، وتوجيه طاقاتنا الإبداعية لما يخدم الذوق والقيم في آنٍ معًا، ورغم التباين، فإن الجمال الوضعي كثيرًا ما يستلهم عناصره من الجمال الكوني، في محاولة لمحاكاته أو تقليده أو ترجمة أثره إلى عمل فني. فالفنان، مهما بلغ إبداعه، يبقى متأثرًا بما يراه في الطبيعة والكون. وفي ذلك تكاملٌ بين الأصل والتجربة الإنسانية.

طباعة شارك الفوضى الجمالية المعاصرة الذوق الجمالي الإعلام التربية

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإعلام التربية

إقرأ أيضاً:

غزال الطائف.. رشاقة الطبيعة ونشاط السياحة

يُعدّ وادي ذي غزال في مركز الشفا بالطائف مزيجًا متكاملاً من الطبيعة الساحرة والخدمات السياحية المميزة، مما يجعله خيارًا مثاليًا لقضاء عطلة هادئة مليئة بالمغامرة والاستجمام بين أجواء ثقافة الطبيعة المحلية، وقُربه النسبي من مرافق ترفيهية وأماكن ألعاب للأطفال.

ويمتاز الوادي بتضاريسه الجبلية المتنوعة التي تحيط بالممرات المائية من الصخور الكبيرة، والنباتات الجبلية، والمساحات الخضراء التي تكسو جناباته، ومزارع الورد الشهيرة ومزارع عسل النحل، مما يجعله محطة بارزة لعشاق الطبيعة والثقافة المحلية.

وأوضح لوكالة الأنباء السعودية "واس" المرشد السياحي في مركز الشفا حميد السفياني، أن وادي غزال يقع على بُعد نحو 5 كيلومترات قبل مركز الشفا الرئيس، ويمكن الوصول إليه بسهولة عبر طريق جبلي مزيّن بأكشاك بائعات ورد الطائف والفاكهة، إذ يوفر موقعه الإستراتيجي تجربة التنزه وسط الطبيعة، والمشي على الصخور والتخييم على ضفاف المياه وكذلك الإطلالات الجبلية المتنوعة والمسطحات الخضراء والشلالات المؤقتة التي تظهر بعد الأمطار، مؤكدًا أن الوادي بمثابة لوحة طبيعية خلابة تجمع الصخور الصمّاء والمياه المتدفقة والنباتات الموسمية الخضراء.
من جانبه تحدث المهتم في الموروث الثقافي الجبلي خالد الوقداني، أن وادي غزال يمتاز ببيئة ثقافية تمزج بين الطبيعة الجبلية والهوية التراثية للمنطقة، مما يمنح الزائر تجربة ثقافية أصيلة تعكس عمق الطائف بصفتها مركزًا حضاريًا وسياحيًا في المملكة، مشيرًا إلى أن فاكهة الوادي ومزارعه هي مهرجان زراعي بحد ذاته، حيث تنتشر في محيط الوادي مزارع الورد الطائفي، التي تُعد من رموز الطائف الثقافية والاقتصادية، ويُقام لها مهرجان سنوي يُجذب آلاف الزوار، كما يضفي وجود مزارع العنب والتين والرمان نمطًا جذابًا لأنماط الزراعة التقليدية في المرتفعات، بالإضافة إلى ثقافة العسل والنحل، حيث يحتوي محيط الوادي على خلايا نحل تقليدية لإنتاج عسل الشفا الشهير، ويُسوّق في الأسواق المحلية والمهرجانات الموسمية؛ فهو جزء من الهوية الغذائية للمنطقة، ويُقدَّم للضيوف في المناسبات الاجتماعية.

الطائفالسياحةالطبيعةوادي ذي غزالقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • «دبي للثقافة» تختتم مؤتمر المدرسة الصيفية العالمية
  • د. منال إمام تكتب: الدبلوماسية الثقافية.. أداة إستراتيجية لحماية الأمن القومي المصري
  • هند عصام تكتب.. الملك أمنمحات الثالث
  • تحذير .. مشاهدة البنات في سن المراهقة لإعلانات منتجات التجميل تعرضهم لهذه المشاكل
  • الكوني يلتقي الدبيبة لبحث توحيد الجهود نحو إنجاح الاستحقاقات الوطنية
  • بعد زلزال كامتشاتكا.. ماذا نعرف عن أرض الجمال والنار
  • وزير التخطيط:(17.5%) نسبة الفقر في العراق
  • من كلكتا إلى نوبل.. طاغور شاعر الطبيعة والحزن وفيلسوف الحياة
  • رسم وجوه المجرمين عبر الحمض النووي.. هل اقترب الحلم من التحقق؟
  • غزال الطائف.. رشاقة الطبيعة ونشاط السياحة