في ليلةٍ وُصفت في الداخل الإسرائيلي بأنها “الأسوأ منذ قيام الكيان”، تعرّضت إسرائيل لهجوم غير مسبوق من إيران، شمل موجات متتالية من الصواريخ والمسيّرات، اخترقت منظومات الدفاع، وخلّفت أضراراً مادية ونفسية لم تُحصَ بالكامل بعد. وعلى ما يبدو، أن هذه الحرب أقفلت الباب على آخر ما تبقى من نظام دولي دام لعقود.

صحيح أنها لم تنته بعد، لكن يكفي أنها بدأت.

هذا الهجوم الذي جاء رداً على عدوان إسرائيلي طال منشآت نووية وعسكرية إيرانية واغتال عدداً من العلماء والمسؤولين، لم يكشف فقط عن ضعف بنيوي في كيان الاحتلال، بل كشف عن تحول صريح في بنية النظام الدولي، وهو إعلان عملي أن الشرق الأوسط دخل طوراً جديداً تتراجع فيه الهيمنة الأمريكية، ويُعاد فيه اختبار مفاهيم الردع والتفوق والسيطرة، بعد أن واجهت “دولة نووية، دولة على حافة نووية” وفق تعبير القانون الدولي، للمرة الأولى، عسكرياً بعد عقود من الصراع الأمني الخفي على أراضيهما أولاً، وعلى أرض عدد من دول المنطقة والعالم ثانياً.

هذا التحول يقوم على عدد من الحقائق تطال رأس الهرم في هذا النظام واشنطن- وقاعدته العسكرية المتقدمة في المنطقة -تل أبيب- التي أوكل إليها مهمة الحفاظ على الهيمنة والمساعدة في تفكيك أي قوة صاعدة، حتى أن الدول التي كانت تدور في فلك هذه المنظومة، باتت ترى في هذا “الذوبان” عبئاً لا تحقيقاً لمصلحتها، خاصة التي تمتلك طموحاً في أن تكون دولة ذات ثقل إقليمي وازن، كل ذلك، كان ملموساً طيلة السنوات الماضية وتتراكم مفاعيله وتداعياته وان لم تظهر إلى العلن بطريقة فجّة أو قوية، غير أن الحرب الحالية بين كيان الاحتلال وإيران برضا ومشاركة أمريكية، بعد جولات عدة من المفاوضات النووية، وقبل 24 ساعة تقريباً من الجولة الأخيرة، أرست واقعاً مختلفاً، لن تعود فيه أي من المقاربات السابقة صالحة.

لطالما قدّمت الولايات المتحدة نفسها ضامناً لأمن إسرائيل، وشرطياً للنظام الدولي، لكن السنوات الأخيرة كشفت مدى هشاشة هذا الدور، وعلى غير صعيد وفي ساحات مختلفة. وان كانت الإدارات الأمريكية السابقة اتبعت نهجاً مماثلاً تقريباً، إلا أن ولاية الرئيس دونالد ترامب كشفت عن هذه التناقضات بشكل أكثر صراحة، إذ أن ما شهدته المنطقة بعد 7 أكتوبر والتورط الأمريكي الغربي في مستنقع الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني وما تلاها من أحداث على غير جبهة، ثم الانكفاء الأمريكي في البحر الأحمر وغيرها، كان بمثابة انكشاف علني موثّق بالصوت والصورة والمفاعيل. وجاء ذلك على مراحل عدة:

بعد التورط في الإبادة وإمداد الكيان بمختلف أنواع الدعم، لم ينجح ترامب في إنهاء الحرب، بعد أشهر من التسويق لأحلامه الدموية بتهجير الشعب الفلسطيني، كما مارس الخداع في لبنان حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، بجديته بوقف الحرب عليه.

أما في أوكرانيا، فقد كشفت الحرب هناك ما هو أبعد: ظهرت خلافات حادة وموثقة بالصوت والصورة بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وصلت حدّ التشكيك الأمريكي بقدرة كييف على كسب الحرب، والتلويح علناً بقطع أو تقليص الدعم.

والأمر نفسه مع الحلفاء الذي تعامل معهم بفرض منطق “الجزية السياسية”، سواء عبر الضغط المالي على الدول الأوروبية في حلف الناتو لزيادة إنفاقها الدفاعي، أو في إرغام دول الخليج وأخرى آسيوية على شراء أسلحة بمئات المليارات تحت عنوان الحماية، هذه الممارسات جعلت من الولايات المتحدة حليفاً انتقائياً، يتصرف وفق مصالحه لا وفق التزاماته، ولا يمنح ضمانات دائمة لأحد.

حتى في الملف الإيراني، لعبت واشنطن دوراً ملتبساً ومتناقضاً: انسحاب من الاتفاق النووي، ثم محاولة العودة إليه بشروط غامضة، دون أي نتيجة ملموسة، ما أفقد حلفاءها الإقليميين الثقة، خاصة أنها نقضت تعهداتها باتباع المسار الدبلوماسي، عشية الجولة الأخيرة، واتخذت خياراً متطرفاً بدعم حرب عسكرية دون مبرر، لتمارس بذلك “الخداع” مرة أخرى، وأصبح النظر إليها كطرف لا يمكن الوثوق به. خاصة وأن ترامب كان قد أعلن بعد العدوان الإسرائيلي، بأنه “كان يعلم توقيته”.

من ناحية أخرى، فإن تأييد ترامب لرئيس وزراء الاحتلال بخوض هذه المغامرة العسكرية، لا يعني الموافقة الأمريكية على كافة الخطط الإسرائيلية المطروحة على الطاولة. بل لم يبد أيضاً أي نيّة جديّة بالدخول بالحرب، أو الذهاب مع نتنياهو بعيداً في المسار العسكري، بل ضوء أخضر للمضي، ومراقبة للانتقاد واصطياد الفرص، حتى لو كان وقفاً للحرب أو تسوية مع إيران، دون موافقة إسرائيلية، أي تخلٍّ عن الحليف مرة أخرى.

الجدير ذكره أن ترامب نفسه صرّح في مقابلة سابقة عام 2019م: “الحروب في الشرق الأوسط كلّفتنا تريليونات دون أي فائدة استراتيجية… الحذر من الدخول فيها مجدداً”.

لجهة إسرائيل، فإن سرديتها التي روجت لها منذ عقود، والقائمة على فرضية القوة الوحيدة في المنطقة، والردع الذي لا يمكن إسقاطه، فقد تعرضت لعدد من النكسات بأشهر قليلة، أولها 7 أكتوبر، وآخرها “الوعد الصادق 3″ الذي لم ينته بعد، وهي التي تمتلك أنظمة دفاع جوي من عدة طبقات ومؤازرة أمريكية عربية من دول الجوار.

والواقع أنه في هذه المرة، لا يواجه الكيان منظمة، بل دولة تمتلك قدرات عسكرية أثبتت فعاليتها، وإرادة للمواجهة، ما يضع إسرائيل أمام تحدٍ معقد من نوع جديد، يتمثل أولاً بتلطيخ سمعتها، وتهميشها، وثانياً، بالتغير التدريجي لتقييم دول المنطقة للأحداث والوقائع. فإن أي دولة في الإقليم باتت ترى في نفسها مرشحاً محتملاً لصياغة توازن جديد إذا امتلكت الإرادة والسلاح.

إن مجرد وجود مثال إيراني ناجح في تحدي إسرائيل علناً، يجعل بيئة الردع أكثر هشاشة، وإذا كان نتنياهو يقدم الحرب على أنها هجمات لمنع امتلاك طهران سلاح نووي، بل وتغيير النظام فيها أيضاً، فلا يمكن له أن ينكر أيضاً، أنها تمس هيبة المشروع الإسرائيلي نفسه.

ما يجري اليوم ليس حادثاً معزولاً. بل حلقة من سلسلة تصدعات كبرى في هيكل ما كان يُعرف بـ”النظام العالمي”: لم تعد الأمم المتحدة محل ثقة أو تعويل لأي من الأطراف ولو أنها ضرورة شكلية، كذلك التحالفات التقليدية التي وضعت مجدداً في دائرة التقييم، والدول الغربية التي تعاني من ارتباك استراتيجي وعلى أكثر من جبهة، من بحر الصين إلى أوكرانيا إلى الخليج.

الشرق الأوسط، في هذا السياق، تحوّل إلى مختبر فعلي للمرحلة الجديدة. إيران من جهتها تثبت أن لها خياراتها وأدواتها وأوراقها وهي قادرة على الدفاع عن نفسها والرد كدولة سيدة، لا عبر أي من الوسطاء أو الحلفاء، ولجهة الدول الأخرى، حتى تلك التي تدور في الفلك الإسرائيلي عبر اتفاقيات السلام أو الاتفاقيات الأمنية، تدرك الآن أن الاقتراب المفرط من محور واشنطن–تل أبيب لم يعد ضمانة. فالهجوم الإيراني وصمود الشعب والدولة في آن، يدل على مروحة من الرسائل: لا مكان للحياد في حرب الهيمنة، ولا بد من إعادة النظر في شكل الاصطفافات، وفي مآلات الانحياز العلني لمعادلة لم تثبت فعاليتها.

هل نحن أمام شرق أوسط جديد؟ نعم، لكن ليس كما بشّر به الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن أو باراك أوباما، الشرق الأوسط الجديد ليس ديمقراطيات ناعمة منقحة أمريكياً، بل بيئة صراع محتدمة، تتعدد فيها مراكز القوة، وتتشكل فيها موازين القوى بشكل دائري لا هرمي، إنها طاولة مستديرة تتسع لعدة لاعبين، لا مستطيلة يترأسها مقعد واحد مهيمن، كما كانت لعقود.

ما بعد هذه الحرب، لن يكون كما قبلها. إسرائيل، التي لطالما كانت الاستثناء في الأمن والسيطرة، أصبحت قوة إقليمية تحسب ردود فعلها، والولايات المتحدة لم تعد مرجعية أو ضامن، بل طرفاً يُشك في نواياه وقدرته على الوفاء بالتزاماته، والنظام الدولي، يشهد تحولاً جذرياً نحو لا قطبية، حيث لا أحد يضمن شيئاً، ولا أحد يهيمن بالكامل.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

خيارات ترامب الإسرائيلية تدحرج كرة الحرب الإقليمية

اعتمد مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أأمس الخميس، قرارا يدين إيران بـ"عدم الامتثال" لالتزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، كمقدمة لفرض مزيد من العقوبات وإحالة ملفها إلى الأمم المتحدة، واليوم الجمعة سارع الاحتلال لإطلاق هجوم مدمر طال منظومة القيادة والسيطرة لدى القيادة الإيرانية ومركز الثقل داخل النظام السياسي.

فالنص الذي أعدته لندن وباريس وبرلين وواشنطن أيّدته 19 دولة من أصل 35، ورفضته الصين وروسيا وبوركينافاسو وامتنعت عن التصويت 11 دولة، كان يعني أن القرار لن يرى النور في مجلس الأمن بفعل الفيتو الروسي الصيني، لكنه لن يمنع العقوبات الأوروبية من أن تجد طريقها إلى إيران كما لم يمنع توجيه الكيان الإسرائيلي ضربات للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

التصعيد الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي يكاد يتجاوز الهدف المعلن بالضغط على طهران لتقديم تنازلات جوهرية تتعلق بتخصيب اليورانيوم؛ إلى هدف أبعد يتهدد وجود النظام الإيراني وبقاءه وعلى نحو يرشح المنطقة للانزلاق إلى أتون حرب إقليمية طويلة؛ تتورط فيها إدارة دونالد ترامب حال تمكن إيران من الرد
النتيجة النهائية لقرار الوكالة الدولية أشارت إلى تعادل ميزان القوى بالنسبة لإيران في المحافل الدولية، غير أن ميزان القوى الفعلي على الأرض كان شديد الاختلال لصالح الكيان الإسرائيلي الذي وجد فرصة في قرار الوكالة الدولية للطاقة وفي الموقف الأوروبي والضوء الأخضر الأمريكي، لتنفيذ هجوم واسع على إيران وبرنامجها النووي.

الجولة لم تنته عند حدود الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد أن أعقبها تصريح للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبّر فيه عن تراجع ثقته بإمكانية التوصل لاتفاق مع الجانب الإيراني وتحذيره إيران من عواقب ذلك، بالتزامن مع تسريب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية خبرا عن وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود وإتمام الكيان الإسرائيلي استعداداته لتوجيه ضربة لإيران محدودة، بعد جولة المفاوضات الأحد المقبل في العاصمة العمانية مسقط.

محاولة إيران على لسان وزير دفاعها العميد عزيز زاده ردع الكيان الإسرائيلي وإحراج الولايات المتحدة بتهديدِها استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة حال فشل جولة المفاوضات النووية لم تؤت أُكلها اليوم الجمعة، فالضربة الإسرائيلية الصاعقة جاءت مباغتة لمركز الثقل في النظام الإيراني على نحو تسبب بشلل عسكري وسياسي لم تتضح بعد أبعاده.

التصعيد الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي يكاد يتجاوز الهدف المعلن بالضغط على طهران لتقديم تنازلات جوهرية تتعلق بتخصيب اليورانيوم؛ إلى هدف أبعد يتهدد وجود النظام الإيراني وبقاءه وعلى نحو يرشح المنطقة للانزلاق إلى أتون حرب إقليمية طويلة؛ تتورط فيها إدارة دونالد ترامب حال تمكن إيران من الرد والتقاط أنفاسها، الأمر الذي لا يتوقعه الجانب الأمريكي والإسرائيلي؛ كون الرهان الأمريكي على تكرار نموذج حزب الله في لبنان حاضرا وبقوة حتى لحظة كتابة هذه السطور.

استهداف النظام الإيراني وجوديا إغراء يكتسب بريقا بفعل الصدمة الإيرانية وغياب الرد والفعل الدفاعي المؤثر، إذ ألمحت التسريبات الأمريكية الإسرائيلية وضعف الرد الإيراني ومحدودية تأثيره حتى اللحظة إلى وجود نقاشات أمريكية إسرائيلية لاستهداف النظام الإيراني وجوديا، وهو ما شجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على التلميح عبر حسابه على شبكة "تروث سوشال" لإمكانية استهداف المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، بتحذيره من ضربة أقوى في حال رفضت إيران تقديم تنازلات جوهرية.

التصعيد الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي يكاد يتجاوز الهدف المعلن بالضغط على طهران لتقديم تنازلات جوهرية تتعلق بتخصيب اليورانيوم؛ إلى هدف أبعد يتهدد وجود النظام الإيراني وبقاءه وعلى نحو يرشح المنطقة للانزلاق إلى أتون حرب إقليمية طويلة؛ تتورط فيها إدارة دونالد ترامب حال تمكن إيران من الرد
نتنياهو دحرج كرة الحرب بحجة تحسين شروط التفاوض مع طهران، غير أن المواجهة عرضة لأن تتطور إلى أفعال وردود فعل متتابعة يصعب ضبطها والسيطرة عليها؛ على نحو يورط الإدارة الأمريكية في مواجهة مكلفة اقتصاديا وطويلة عسكريا ولن تتوانى الصين وروسيا عن الاستثمار فيها إن تمكنت إيران من استجماع قوتها والرد بفاعلية، فما قد يقلق ترامب وقادته العسكريين غياب القدرة على الحسم العسكري وغياب الحل السياسي، واستشعار إيران لتهديد وجودي لا تمكن مواجهته إلا بالمقاومة.

بيئة الصراع الدولية ترجح خيار التمسك بطاولة المفاوضات عند الجانب الأمريكي، غير أن محدودية الرد الإيراني تغري بالمضي قدما نحو إسقاط النظام الإيراني بدحرجة نتنياهو كرة الحرب نحو الإقليم بأكمله لتحقيق طموحاته وكيانه الإسرائيلي، وهي ديناميكية لا زال نتنياهو يتحكم بها بفعل نشوة المباغتة الصاعقة.

ختاما.. خيارات ترامب الإسرائيلية التفاوضية مع إيران لن تقود المنطقة إلى مكان، آمن ما يعني العجز عن الوصول إلى حلول سياسية في الأجل القريب، فهي تدحرج كرة الحرب في الإقليم على نحو جنوني يهدد بمزيد من الفوضى بفعل تنامي شهية الاحتلال الإسرائيلي لتحقيق المزيد من الإنجازات لتغيير وجه "الشرق الأوسط"، فما بعد إيران ستكون تركيا التي ألمح إليها نتنياهو خلال لقائة الرئيس الأرجنتيني في القدس يوم الثلاثاء بالقول: "لن نسمح بعودة الخلافة العثمانية".. جنون إسرائيلي مطبق يعكس أزمة وجودية ومعادلة صفرية باتت حاضرة على نحو عبثي ومدمر في المنطقة.

x.com/hma36

مقالات مشابهة

  • أردوغان يناقش مع ترامب وبيزشكيان الحرب الإسرائيلية-الإيرانية
  • الحرب الإسرائيلية - الإيرانية توقف تشغيل حقل غاز عراقي
  • ما حجم الخسائر التي لحقت بالمنشآت النووية الإيرانية جراء الضربات الإسرائيلية؟
  • سماء العراق تتحول إلى ممر لصواريخ الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية
  • أسعار النفط تقفز إلى 72.98 دولاراً بسبب الحرب الإيرانية الإسرائيلية
  • الإطار التنسيقي يعقد اجتماعا طارئا بعد الحرب الإيرانية - الإسرائيلية
  • خيارات ترامب الإسرائيلية تدحرج كرة الحرب الإقليمية
  • ترامب: ندعم إسرائيل بشكل لا مثيل له والضربات التي نُفذت على إيران هجوم ناجح للغاية
  • ملامح تطور عقيدة التصنيع العسكري الروسي خلال الحرب مع أوكرانيا