ألقى الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته واجتناب نواهيه ومساخطه.
وقال: إن وقفة التوديع مثيرة للأشجان، ومهيجة للأحزان؛ إذ هي مصاحبة للرحيل، ومؤذنة بالانقضاء. لقد مضى عام كامل، تقلبت فيه الأحوال، وفنيت الأعمار، وحلت بالأمة فيه نوازل.

وإذا كان ذهاب الليالي والأيام عند الغافلين اللاهين لا يعدو كونه مُضي يوم ومجيء آخر، فإنه عند أولي الأبصار باعث حي من بواعث الاعتبار، ومصدر متجدد من مصادر العظة والادكار، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، فيما رواه الحسن البصري رحمه الله عنه: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك”. ويصوره أيضًا قول بعض السلف: “كيف يفرح بمرور الأعوام من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وحياته إلى موته؟”، وقول بعضهم: “من كانت الليالي مطاياه سارت به وإن لم يسر”.
وأشار الدكتور أسامة إلى أن أولي الألباب يتوقفون عند وداع العام وقفة مراجعة للذات ومحاسبة للنفس، مثل التاجر الحاذق الذي يتفقد تجارته، فينظر إلى أرباحه وخسائره، باحثًا عن الأسباب، متأملًا في الخطأ والصواب. وإن سلوك المسلم الواعي هذا المسلك الرشيد ليفوق ذلك في شرف مقاصده، ونبل غاياته، وسمو أهدافه؛ لأنه يسعى إلى الحفاظ على المكاسب الحقة التي لا تبور تجارتها، ولا يكسد سوقها، ولا تفنى أرباحها، من كنوز الأعمال، وأرصدة الباقيات الصالحات التي جعل الله لها مكانًا عليًا، ومقامًا كريمًا، وفضلها على ما سواها، فقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}؛ لذا كانت العناية بهذه المراجعة، والحرص على هذه المحاسبة، ديدن الأيقاظ، ونهج الراشدين، لا يشغلهم عنها لهو الحياة ولغوها، وزخرفها وزهرتها وزينتها، فيقطعون أشواط الحياة بحظ وافر من التوفيق في إدراك المنى، وبلوغ الآمال، والظفر بالمقاصد، والسلامة من العثرات. وعلى النقيض منهم، أولئك الغافلون السادرون في غيهم وغفلتهم، فإنهم لا يفيقون من سكرتهم، للنظر في مغانمهم ومغارمهم، ولا لاستصلاح ما فرط منهم، والاعتبار بالمصائب، والاتعاظ بالنوازل، فهم ممن نسي الله فأنساهم العمل لما فيه صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وعقباهم.
وأوضح الشيخ أسامة أن ارتباط المراجعة والمحاسبة بالتغيير نحو الأفضل والأكمل هو ارتباط وثيق وقوي، فالمراجعة والمحاسبة تكشف للإنسان مواطن النقص والخلل والعيوب، فإذا عزم المصحح، وأخلص النية، واتضح له الطريق، وأحسن العمل، جاءه عون الله بمدد لا ينقطع، فيُحسن عاقبته ويجزيه خير الجزاء. إن الحاجة إلى سلوك نهج المراجعة والمحاسبة ليست مقتصرة على أفراد أو فئة معينة، بل الأمة الإسلامية بأسرها في حاجة ماسة إليها، ولا يمكنها الاستغناء عنها، وهي تودع عامًا مضى وتستقبل عامًا جديدًا، ولكن هذه المراجعة والمحاسبة تتسع أبعادها، ويعم نفعها، وتعظم فائدتها بالنسبة للأمة.
وأضاف إمام وخطيب المسجد الحرام بأن محاسبة النفس هي أوضح دليل على كمال عقل المرء، وحرصه التام على أسباب سعادته ونجاحه في كل ما يفعل ويترك، وهي وقفة لا بد لكل عاقل أن يقفها مع نفسه بعد كل عمل، وعند نهاية كل مرحلة، وفي ختام كل مهمة، إذا أراد أن يستقيم أمره، ويصلح حاله، ويسلم مصيره، لينال الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، مؤكدًا أهمية المداومة على هذه المراقبة الصادقة المحكمة، خاصة عند استقبال مرحلة جديدة من العمل، واستئناف مسيرة الحياة، مع الاعتماد على ما مضى، وعزم على التصحيح والتخطيط لما بقي.
* وفي المسجد النبوي الشريف ألقى خطبة الجمعة فضيلة الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله جل وعلا، فتقواه سبب الفوز بكل مرغوب، والنجاة من كل مرهوب، مستشهدًا بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وأوضح فضيلته أن من صفات أهل الإيمان تفكرهم الدائم في تعاقب الأيام وتواليها، واستشعارهم لما تحمله من عبر وعظات، مما يقودهم لعبادة ربهم، والتقرب إليه بمختلف الطاعات، والابتعاد عن المعاصي والسيئات، مستشهدًا بقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأولي الْأَلْبَابِ}.
وقال: حق علينا الاعتبار بتوالي السنين وسرعة مرورها، وأن نحاسب الأنفس محاسبة جادة صادقة، تكون منها التوبة النصوح، والإنابة الجادة لما يحقق العبودية الكاملة لله جل وعلا، ففي اختلاف الليل والنهار، ومرور الأيام والشهور، أعظم واعظ لمن تذكر وتدبر، واعتبر تدبرًا يؤول به لتعظيم الخالق، وتحقيق العبودية له جل وعلا.
وأشار الدكتور آل الشيخ إلى أن الواجب على العبد المسلم في هذه الحياة المسارعة إلى مرضاة ربه عز وجل، والبعد التام عن الآثام والسيئات، فشأن المسلم أن يزداد بمرور الأوقات تقربًا لربه، محذرًا من الانشغال في الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية، مستشهدًا بقوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَة هِي دَارُ الْقَرَارِ}.
وتابع فضيلته مبينًا أن المسلم هو من يجعل مرور الأعوام فرصة للتزود من الخيرات ومضاعفة الصالحات، مستدلًا بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: “خيركم من طال عمره وحسن عمله”. مشيرًا إلى أن الميزان في الربح والخسران، والفوز والحرمان، إنما هو بكمال الإيمان، وطاعة الرحمن، ومتابعة سيد ولد عدنان عليه أفضل الصلاة والسلام.
وذكر فضيلته أن من علامات الشقاء أن تمرّ الأعوام والإنسان غافل عن محاسبة نفسه ومراجعة حاله، فالتسويف في التوبة قسوة عظمى وبلية كبرى، مبينًا أن الواجب على المسلم أن يلين قلبه لآيات ربه الكونية والشرعية، وأن يصلح علاقته بدينه وشريعة ربه، مستدلًا بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}.
وختم إمام وخطيب المسجد النبوي الخطبة موصيًا المسلمين بالمبادرة -رحمهم الله- إلى المسارعة في الخيرات، والتسابق في الطاعات، والحذر من الوقوع في المعاصي والسيئات، والتمسك بشرع رب الأرض والسماوات. وحثّ على الإكثار من الصلاة والسلام على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، لما في ذلك من رفعة في الدرجات، ونيلٍ للثواب والحسنات.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية المراجعة والمحاسبة ا بقوله تعالى هذه ال

إقرأ أيضاً:

سلاح حزب الله: توقيت الطرح أخطر من الطرح نفسه


بقلم: أحمد بن محمد العامري

من الطبيعي أن يَحتل ملف سلاح حزب الله حيّزًا كبيرًا في النقاش السياسي اللبناني، فهو مسألة تتعلق بالسيادة وبمفهوم الدولة وبشكل النظام الأمني الذي يجب أن يحكم العلاقة بين الدولة والمكونات السياسية فيها، ولكن ما ليس طبيعيًا هو أن يُطرح هذا الملف في توقيت هشّ دون أرضية سياسية موحّدة، ولا ظروف إقليمية مستقرة، ولا حتى موقف دولي يضمن للبنان الحد الأدنى من الحماية والغطاء.

برأيي، الحديث عن تسليم سلاح حزب الله في هذه المرحلة بالذات هو خطأ استراتيجي فادح، فلبنان لا يزال محاصرًا بجملة من الأزمات التي تهدد وجوده ككيان: أزمة اقتصادية غير مسبوقة، مؤسسات ضعيفة أو معطلة، وبيئة إقليمية متوترة على حدوده الجنوبية وفي هذا السياق يصبح التلويح بنزع السلاح طرحًا غير واقعي، بل وخطيرًا.

من وجهة نظر واقعية، سلاح حزب الله أدّى وظيفة ردعية واضحة في مواجهة إسرائيل منذ عام 2006، يمكن أن نختلف على مشروعيته أو شرعيته ولكن، لا يمكن إنكار دوره في خلق توازن ردع حال دون حرب شاملة.
 السؤال الآن ليس: هل يجب أن يحتكر طرف السلاح؟ بل: من يملأ هذا الفراغ إذا أُزيل هذا السلاح، ومتى؟ وهل الدولة مستعدة فعليًا لتحمّل هذا العبء؟ وهل الجيش اللبناني يملك القدرات والإمكانات السياسية والعسكرية للقيام بهذه المهمة وسط الانقسام الداخلي؟

الطرح الواقعي من وجهة نظري ليس في مناقشة نزع السلاح اليوم، بل في تعليق هذا النقاش مرحليًا، والذهاب بدلًا من ذلك إلى بناء مشروع وطني جامع يعيد ثقة اللبنانيين بدولتهم ويقوي مؤسساتها، ويمنح الجيش حصانة وقدرة، حينها يمكن فتح هذا الملف من موقع قوة وسيادة حقيقية وليس تحت ضغط سياسي خارجي أو داخلي، أو على وقع التحريض والتخوين.

لا أحد يريد بقاء السلاح في يد فصيل إلى الأبد ولا أحد يدافع عن الازدواجية في القرار الأمني، ولكن يجب الاعتراف أن نزع سلاح حزب الله الآن دون رؤية شاملة يعني ببساطة فتح الباب أمام فوضى داخلية، وربما فتنة لا يمكن احتواؤها، وفي الوقت الذي لا تزال فيه إسرائيل تحتل أراضٍ لبنانية وتخترق السيادة جوًا وبرًا بشكل شبه يومي، فإن تسليم ورقة القوة الوحيدة المتاحة من دون مقابل، أمرٌ أقرب إلى الانتحار السياسي.

الملف معقّد ولا يجوز أن يُستخدم هذا الملف كورقة ضغط أو مادة للابتزاز السياسي في الداخل أو في المفاوضات الخارجية، يجب أن يكون جزءًا من رؤية استراتيجية لبناء الدولة لا عنوانًا للصراع على شكل الدولة.

إنّ تحميل حزب الله وحده مسؤولية الواقع اللبناني هو قفز فوق الحقائق، فالدولة اللبنانية منذ عقود فشلت في بناء جيش موحد قوي قادر على حماية حدودها، ولم تستطع أن تفرض سلطتها الكاملة على أراضيها، ومَن يطالب اليوم بنزع سلاح الحزب عليه أولًا أن يقدّم بديلًا وطنيًا قادرًا على حماية لبنان في وجه التهديدات المتعددة.

لذلك، فإنني أرى أن الواقعية السياسية والأمنية تقتضي تأجيل النقاش حول نزع سلاح حزب الله، إلى حين زوال التهديدات الإسرائيلية، وتعافي مؤسسات الدولة، وتوافر توافق داخلي عريض حول استراتيجية دفاعية شاملة، إلى أن يحدث ذلك، لا يجوز الزج بالبلاد في مغامرات غير محسوبة، فلبنان لا يحتمل المزيد من التصدع، فربما يمكن الحديث حول تعليق سلاح حزب الله وليس نزعه هو الصواب.
[email protected]

مقالات مشابهة

  • سنة النبي في صلاة الفجر.. ما السور التي كان يقرأها الرسول بعد الفاتحة؟
  • في وداع مهيب.. تشييع الشهيد محمد القاسم في الحرم المكي و"الشؤون الدينية" تنعيه
  • سلاح حزب الله: توقيت الطرح أخطر من الطرح نفسه
  • خطيب الأزهر: مواجهة الشائعات بسلاح الصدق والتثبت من الأخبار.. فيديو
  • إمام المسجد النبوي: الجوع في غزة سلّ سيفه على رقاب وهنت من الألم وجفت حلوقها من الظمأ
  • خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
  • أذكار الصباح حصن المسلم.. ابدأ بها يومك وشاهد بركتها فيه
  • علامات السحر والحسد في البيت.. تظهر 5 على الحوائط و3 بأهله
  • استعاذ النبي منه .. هل موت الفجأة من علامات غضب الله؟
  • في وداع مسرحي فلسطين الكبير