ريادة الأعمال المجتمعية والفرص الممكنة في سلطنة عُمان
تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT
دعيت الأسبوع الفائت للحديث في جلسة نظمتها مديرية الثقافة والرياضة والشباب بشمال الباطنة حول (ريادة الأعمال الاجتماعية)، وذلك على هامش احتفائها بيوم الشباب الخليجي، حيث ركز الحوار على تأصيل المفهوم، وتتبع جذوره في التاريخ والممارسات، إضافة إلى النماذج البارزة عالميًا التي تمثله، وصولًا إلى سياقاته المحلية من مبادرات، ومأسسة وتنظيم، عوضًا عن التحديات التي تحول دون تبلوره وتطوره.
تاريخيًا تطور مفهوم ريادة الأعمال المجتمعية انطلاقًا من محرك مهم وهو «عدم المساواة في المجتمع الحديث». وأخذ يترسخ مؤسسيًا بفعل مرور المجتمعات عمومًا بتحولات في بنيتها الديموغرافية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، تلك التحولات بدورها أنتجت احتياجات ورغبات متفاوتة لا تستطيع الدولة بمؤسساتها وخدماتها بالضرورة تلبيتها، كما أنها قد لا تنتج من قبل السوق التقليدية (القطاع الخاص)، أو قد يتطلب الوصول إليها تكاليف كبيرة على المستفيد منها أو طالب الخدمة. واجتهدت الكثير من الأدبيات في محاولة وضع خصائص وسمات لرواد الأعمال المجتمعيين، ولمؤسسات ريادة الأعمال الاجتماعية، ومن بينها محاولة موشيه شارير وميري ليرنر لـ«قياس نجاح المشاريع الاجتماعية التي بدأها رواد الأعمال الاجتماعيون الأفراد»، حيث تم تحديد ثمانية عوامل نجاح رئيسية للمشاريع الاجتماعية وهي: «الشبكة الاجتماعية لرجال الأعمال (قوة العلاقات الاجتماعية وتوسعها) - التفاني الكامل لنجاح المشروع - قاعدة رأس المال المتاحة في مرحلة التأسيس - قبول فكرة المشروع في الخطاب العام (المجتمع) - تكوين فريق المغامرة، بما في ذلك نسبة المتطوعين إلى الموظفين ذوي الرواتب - تشكيل تعاونات طويلة الأمد في القطاعين العام وغير الربحي - قدرة المشروع على الصمود في وجه اختبار السوق - الخبرة الإدارية السابقة لرجال الأعمال (رائد العمل المجتمعي).
ما يعنينا هو ماهية الفرص المتاحة لتبلور مفهوم ريادة الأعمال المجتمعية (بشكل مؤسسي) في سلطنة عُمان، والأصل أن المفهوم كممارسات وقيم متجذر في المجتمع وله أبعاد عديدة، غير أن الانتقال إلى أن تكون ريادة الأعمال المجتمعية اقتصادًا قائمًا من ناحية، وتكون كياناتها المؤسسية أكثر وضوحًا واتساقًا مع المفهوم من ناحية أخرى، وتوجه بشكل فاعل لأغراض الاستدامة كونها عناصر تتطلب تحولًا في الممارسات الحالية. وما يُلح على هذا التحول هو ثلاثة محركات مهمة: أولًا توسع حاجيات ورغبات المجتمع نتيجة التحولات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية فيه، وثانيًا محدودية دور الدولة والسوق التقليدي في تلبية الرغبات المتزايدة، والحاجات النوعية الناشئة لدى بعض فئات المجتمع، عوضًا عن القضايا والظواهر المجتمعية الطارئة، وثالثًا هو تبلور الفكر الريادي واكتمال دعائم تلك المنظومة وخاصة لدى فئة الشباب. وبقدر ما تنشأ اليوم من احتياجات اجتماعية صاعدة، بقدر ما يفرز التغير الاجتماعي في المجتمع العُماني فرصًا لبروز أشكال ريادية جديدة في العمل المجتمعي، فملفات مثل الاستثمار في الشيخوخة النشطة، وتعزيز مبادئ الثقافة المالية لأفراد المجتمع، وتسويق أنشطة الأسر المنتجة، وتعميم ثقافة الحصانة السيبرانية والوعي بأمن المعلومات والخصوصية، وتمكين الشباب من المهارات المتقدمة للانخراط في سوق العمل، والاستثمار النوعي في الطفولة المبكرة والخدمات المتصلة بها، وتمكين العمل الحر والاستثمار في المواهب الشبابية، والإدماج الاقتصادي للأشخاص ذوي الإعاقة، وصناعة المحتوى الرقمي الموجه للأغراض الاجتماعية، ودمج المجتمعات في عمليات التنمية المحلية ومشروعاتها كلها نماذج لفرص يتيحها التحول الراهن في الدولة والمجتمع لصالح نشوء أفكار ريادية تخدم العمل المجتمعي، وتبقى أسلحة رائد العمل المجتمعي ثلاثة حسب تصورنا: العين الاجتماعية الحاذقة، والإيمان بالقضية التي ينشط فيها ويبادر لأجلها، واليقين بأهمية التغيير الاجتماعي وصناعة الأثر المنشود.
على الجانب الآخر تتطلب المرحلة المقبلة إعادة التفكير في اللوائح والنظم والتشريعات التي يمكن أن تتعامل مع هذا الشكل من أشكال الأنشطة، وذلك لتعزيز دورها ومساهمتها الاقتصادية أيضًا جنبًا إلى جنب مع إحداث الأثر الاجتماعي، فالدول التي التي ركزت اهتمامها في السنوات الأخيرة لتعزيز وترسيخ ودعم المؤسسات القائمة على هذا المفهوم استفادت بشكل مباشر من تطور مساهمته في الاقتصاد العالمي التي وصلت في 2024 إلى نحو 1.9% في الاقتصاد العالمي، وقدرته على تخليق الوظائف والتي تقدر بنحو 210 ملايين وظيفة حول العالم، ومساهمته في تأسيس كيانات مستدامة تحرك الدورة الاقتصادية. كما أن نشر الوعي بالمفهوم وممارساته وأفضل نظم الحوكمة التي توجهه وتوسيع نطاق التدريب للفئات الشابة على أساسياته كلها تعد عناصر مهمة للحصول على ثمار هذا النوع من الريادة المجتمعية.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ریادة الأعمال المجتمعیة العمل المجتمعی فی المجتمع
إقرأ أيضاً:
وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ياسر شرف الدين لـ”الثورة”:نجاح 70% من مشاريع التمكين و180 مبادرة إنتاجية بـ80 مليون ريال تعيد الأمل لليتامى والمتسولين
إحالة 8 متهمين لاستغلال النساء والأطفال إلى القضاء والزكاة تموّل 100% من مشاريع التشرد والتسول ثلاثة مراكز جديدة للمشردين والمرضى النفسيين في صنعاء وصندوق الرعاية بحاجة إلى تطهير شامل وحوسبة دقيقة
كشف وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لقطاع الرعاية ياسر شرف الدين عن رصد 2300 متسوّلٍ في شوارع صنعاء، بينما يتحول التسول والتشرد إلى أداة ابتزاز للبقاء، رغم ذلك، نجحت مشاريع التمكين الاقتصادي—من الثروة الحيوانية إلى الخياطة والعربات المتنقلة—بنسب تجاوزت 70%، ما دفع الوزارة للتخلي عن الإعالة لصالح سياسة القيمة المضافة، والابتعاد عن رهانات الدعم الخارجي إلى شراكات مع الزكاة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي.
وفي ثنايا هذا الحوار الحصري، يفصح شرف الدين عن توقف تحديث بيانات صندوق الرعاية منذ 2016م، وثغرات القوائم التي ضمّت أسماء وهمية، ويحذّر من شبكات منظمة تستغل الأطفال والنساء في التسول المنظم كواحدة من أخطر وجوه الاتجار بالبشر وغيرها من المواضيع والقضايا الهامة.
الثورة/ ماجد حميد الكحلاني
بعد إعادة هيكلة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ودمج ستة قطاعات تحت مظلتها.. ما الدور الحقيقي الآن لقطاع الرعاية الاجتماعية والخدمات التي يقدمها؟
قطاع الرعاية اليوم هو الدرع الأول للفئات الأضعف في مجتمعنا—نساء بلا معيل، أطفال “متمشّون” في الشوارع، ذوو الإعاقة، الأيتام، والمتسولون، لم تعد مهمته تنحصر في تقديم مساعدات عابرة، بل صارت مسؤولية وطنية لإطلاق عجلة الحماية المستمرة: من تشكيل فرق تدخلٍ عاجل للتعامل مع ظاهرتَي التشرد والتسول إلى بناء برامج تمكين تُعيد للمتضررين كرامتهم.
صحيح أن بعض الإدارات المتخصصة لا تزال في طور التأسيس، لكننا بالفعل فتحنا ملفات الأولوية الملحّة وفق توجيهات الحكومة، مع اعتماد شراكات محلية لملء الفراغ الذي خلّفه تراجع الدعم الخارجي. القطاع لم يعد مجرد إدارة مساعدات؛ إنه اليوم خط الدفاع الأول لبناء نموذج وطني متكامل للرعاية الاجتماعية.
ما أبرز الإنجازات التي حققتموها في ملفي التسول والتشرد بعد الهيكلة الجديدة للوزارة؟
بالتأكيد، في ملف التسول، أطلقنا قبل عامين “البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول” الذي يحشد فرق رصد ميدانية لتقييم المتسولين وتصنيفهم حسب درجات الاحتياج، ثم يدمجهم في مسارات حماية أو تأهيل مدروسة.
وفي ملف التشرد، دشّنا برنامجاً وطنياً لمساندة المشردين غير المصحوبين—خاصة أصحاب الاضطرابات النفسية الذين كانوا يبيتّون في الشوارع بلا مأوى. رغم أن البرنامج ما زال في مراحله الأولى، إلا أنه يشكل علامة فارقة تؤكد أن الدولة استجابت لواجبها الاجتماعي وألقت ثقلها خلف هذه الفئة المنسية.
ما هي أهم المكتسبات التي تحققت في معركتي التسول والتشرد حتى الآن؟
– بلا شك، أطلقنا قبل عامين “البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول” الذي جاب الشوارع بفرق رصد متخصصة، صنّفت المتسولين إلى فئات حسب الحاجة، وأحالتهم إلى برامج حماية وتأهيل مدروسة. وللمرة الأولى، يتحول ملف التسول من معضلة هامشية إلى أولوية حكومية واضحة.
وفي مواجهة التشرد، قررنا عدم الاكتفاء بالإنشاءات الورقية، فدشّنا برنامجاً وطنياً لدعم المشردين غير المصحوبين—لا سيما أصحاب الاضطرابات النفسية—مذيلة بفرق طبية واجتماعية تخرجهم من الظل إلى ملاذٍ مؤقت يؤمّن لهم الرعاية. صحيح أنّ الخطوات لا تزال في بدايتها، لكنّها تحمل رسالة صارمة: الدولة اعتزلت دور المتفرّج، وبدأت تنهض لتسد الفَجوة عن فئة لطالما انتُهك حقها في الأمان والكرامة.
في ظل هذا الواقع المأزوم.. كيف نفرّق بين الفقر الحقيقي والتسول الممنهج؟ وهل ما نراه اليوم حاجة أم “حرفة”؟
الحقيقة أن هناك آثاراُ كارثية دفعت أبناء اليمن إلى حافة الجوع بفعل انقطاع الرواتب والحصار والنزوح والهجرة القسرية، ما خلق فضاءً للمعاناة—لا يمنح هذا المشهد شهادة حق لمن اختار التسول مهنة. الفقر هنا واقع قاهر، والتسول عند البعض تحوّل إلى حرفة ممنهجة، تُدار أحياناً عبر شبكات منظمة. لذلك، لا يمكن فصل مكافحة التسول عن استعادة عجلة الإنتاج وتنشيط سلاسل القيمة وخلق فرص عمل حقيقية.. وبدون ذلك، يبقى فصل “المحتاج” عن “المحترف” مجرد حبر على ورق.
ماذا حقق البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول خلال عامين؟
في غضون عامين، انتقلنا من رصد الظاهرة إلى معالجتها بأسلوب ممنهج على أساس فئات منها:
o العاجزون عن العمل (كبار السن، الأرامل، ذوو الإعاقة) وأحلنا بياناتهم للزكاة لضمان رعاية شهرية مستدامة، مع آلية صرف سرية تمنع عودتهم إلى الشارع.
o القادرون على العمل خضعوا لتأهيل نفسي ومهني تمهيدًا لاندماجهم في سوق العمل.
وقد تم تنفيذ 180 مشروعاً إنتاجياً بتمويل 80 مليون ريال (تربية أغنام، عربات طعام،
أكشاك، خياطة…) حققت نماذج منها نجاحاً تجاوز 70%. ، وهناك فئة تندرج ضمن (مكافحة الانحراف) وتعنى بمن باع مشروعه وعاد للتسول وهذا تتم احالته للنيابة، إذ ما نقدمه هو مال عام لا يستباح.. ومن الأنشطة أيضا في هذا الجانب الاتي:
• إعادة الكرامة :كشفنا أن بعض المتسولين يجنون 5,000–10,000 ريال يومياً، فابتعدنا عن القروض المجردة وركزنا على “المشاريع النقدية السريعة” التي تدر دخلاً فورياً وتعيد للإنسان إحساسه بالكرامة.
• ضرب شبكات التسول الإجرامية: أحّلنا عصابات استغلال النساء والأطفال
والمصدّرين للخارج للنيابة بتهم الاتجار بالبشر، المعرّضة لعقوبات تصل 10 سنوات سجن ومليون ريال غرامة.
إننا نؤمن أن العمل الحقيقي لا يقتصر على “إعطاء التفاحة”، بل على تعليم “زراعة الأشجار”– شعارنا في إعادة بناء الإنسان من جذوره.
في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة.. هل لا زال المجتمع شريكاً فاعلاً في مواجهة التسول، أم أنه اكتفى بدور المتفرج والمتلقّي؟
على العكس تماماً، تكشّف مرة أخرى روح اليمني الكريم؛ فكلما رفعنا نداء “إحسان” أو “تكافل”، تفاعلت الأحياء والمبادرات الشعبية فوراً—من مطابخ خيرية إلى أفران توزع الخبز مجاناً، وهذا الإحسان الذكي لا يكتفي بالعطاء الفوري، بل يخلق مسارات تعليم وتدريب وتمكين تمنح أملاً دائماً، وفي الوقت نفسه، لا نتغاضى عن شبكات استغلال الفقر وقد أحلنا مجرمي الاستغلال—خاصة من يستخدم النساء والأطفال—إلى المباحث والنيابة؛ لأن كرامة الإنسان تُحفظ من الجوع ومن الاستباحة الأمنية على حدّ سواء.
حين يتحوّل الفقر إلى غطاء.. كيف تتعاملون مع المتسولين الذين يقودون أو ينتمون إلى شبكات اتجار بالبشر؟ وهل وصلت بعض القضايا إلى القضاء؟
نتعامل مع هذا الملف بكل حذر ومسؤولية، إذ أن الاتجار بالبشر تهمة لا تُطلق إلا بعد تحقق جدي. أحلنا نحو ثمان قضايا للمباحث والنيابة، بعد أن وثّقنا استغلال أطفال ونساء تحت ستار “التسول”. ومع ذلك، نحرص على التمييز: نحو 80% من المتسولين فقراء فعلاً، ومن يفوق دخله راتب الموظف الرسمي يصرّح بالفقر حفاظاً على مصدر رزقه. لهذا، قبل كل إحالة، نفّحص الأدلة بدقة لنعزل الشبكات الإجرامية عن المحتاجين الحقيقيين.
مقاطعاً، هل بلغ التسول حد الاتجار بالبشر؟ وكيف تم التعامل مع الشبكات المتورطة؟
– الاتجار بالبشر جريمة لا تساهَل فيها-عقوبتها قد تصل إلى 10 سنوات سجن ومليون ريال غرام، لقد أحلنا نحو ثمان قضايا إلى المباحث والنيابة بعد ثبوت استغلال أطفال ونساء تحت ستار “التسول.”، وفي إحدى القضايا الكبرى كشفنا “عصابة” في الجامعة الجديدة: أطفال وفتيات يتخفون تحت غطاء التسول لسرقة الجوالات والحقائب من الطلاب، وكما فصلنا بين جريمتي: عصابة النشل واستغلال البشر، ووجّهنا بالتحقيق مع المهتمبن بارتكابها، ثم أرسلناهم إلى القضاء.
ولم نغفل أيضاً عمن استَباح المال العام وتخلّف عن مشروعه وهُم:
• من باع مواشيه التي موّلناها بما يصل إلى مليون ريال وعاد للشارع، أُحيل للنيابة.
• من أهمل عربات الطعام أو الأكشاك التي مكّنّاه منها، وضُبط يمارس التسول مجدداً، هذا عُرض أيضاً على المساءلة القانونية.
باختصار، نهجنا مزدوج: علاج عادل للمستحقين الحقيقيين، وصَفْعٌ حامل للعقوبات على مَن تحوّل إلى محترف في التسول واستغلال الفقر.
فرز المستحق من غير المستحق في برامج التمكين ليس بالأمر السهل..
ماهي معاييركم للفصل بينهما؟ وهل تُطبّق فعليًا على أرض الواقع؟
منذ لحظة انطلاق “البرنامج الوطني للتمكين الاقتصادي” وضعنا أمام أعيننا مبدأ أساسيًا: «كرّمنا بني آدم»، بمعنى أن كل متسول أو متشرد يجد الاهتمام والرعاية أولًا، ثم نبدأ بفحص معايير الأهلية على أرض الواقع لا على الورق.. أولاً نخضع المستفيدين لتقييم ميداني شامل، يضم فريق “فرسان الحماية”، الذي يتجول في أزقّة العاصمة ليرصد أوضاعهم ويجمع بياناتهم شخصيًا:
سنّهم، حالتهم الاجتماعية، عدد المعيلين في الأسرة، وإمكانية عملهم. وبعد ذلك، نقسم الفئات إلى:
1. عاجزين عن العمل: كبار السن، الأرامل، وذوو الإعاقة، تُرفع أسماؤهم
إلى هيئة الزكاة لرعاية شهرية تكفل عيشًا كريماً دون أن يعودوا للشارع.
2. قادرين على العمل: يخضعون لورش تأهيل نفسي ومهني، ثم نوفر لهم مشاريع إنتاجية—من تربية الأغنام إلى عربات الطعام—مصحوبة بمتابعة “فرسان الحماية” ورعاية لاحقة نقدية أو إرشادية.
على الأرض، نراقب سير كل مشروع منذ يومه الأول: هل يحضر المستفيد إلى التدريب؟ هل يطبق ما تعلمه؟ هل يواجه صعوبات تتطلب تدخلاً فورياً؟ هنا تتجلى قوة المعايير؛ فإذا خان أحدهم ثقة الدولة—باع مشروعه أو عاد للتسول—نحيله للنيابة، لأن المال العام أمانة لا يجوز التفريط بها.
وهذه الإجراءات قد تبدو طارئة، لكنها ضرورة ملحّة في غياب بيئة إنتاجية متكاملة. ومع ذلك، فإن المعالجة الشاملة التي نطمح إليها تعتمد على تعزيز “سلسلة القيمة” محلياً، بدءاً من تطوير قطاعات مثل أفلح اليمن في حجة وخميس بني سعد في المحويت، حيث نقابل بؤر التسول بمحاور تنموية طويلة الأمد قبل أي حلول مؤقتة.
في المحصلة، صار تطبيق المعايير واقعاً ملموساً.. من فرز أوليّ دقيق، إلى متابعة ميدانية يومية، وصولًا إلى آليات إنصاف وتكريم لكل إنسان، وضمان ألا تُختزل كرامة المستحق في مجرد رقمه في قاعدة بيانات.
هناك من يقول إن بعض المناطق باتت مصدرًا للتسول المنظم وتهريب الأطفال.. ما حقيقة ذلك؟ وكيف ترصدون وتواجهون هذه الظواهر؟
في مديرية أفلح الشام اكتشفنا شبكة متكاملة تتولى جمع الأطفال والشباب وإرسالهم إلى الأردن بلاغيًا تحت ستار التسول، وبالتعاون مع الأمن والمخابرات تمكنّا من ضبط عدد من المتورطين وإحالتهم مباشرة إلى النيابة بتهم الاتجار بالبشر.
نحن الآن نُفصّل استراتيجية وطنية لمعالجة الأمر عبر أوراق عمل مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني—تحدد لكل جهة دورها بوضوح، من الرصد الميداني إلى الدعم اللوجستي والقانوني. لأن معالجة التسول ليست “مسألة وزارة” وحدها، بل معادلة تتطلب تضافر الدولة والمجتمع والجمعيات.
إذا كنا نملك الأرض والإنسان والقدرة على الإنتاج. لماذا ما زلنا ننتظر الإحسان؟ وهل يكسر التمكين الاقتصادي فعلاً حلقة الفقر والتسول؟
لأننا نصرّ على رؤية الفقر عرضاً لا أصلًا. صحيح أن اليمن شهد انهيار الدخل وتفاقم الفقر بسبب الحصار، لكنّه أعادنا إلى جوهر قوتنا: أرضنا وصبرنا ومبادرتنا. نؤمن اليوم بأن التسول نتيجة للفقر، وأن معالجته تبدأ بحل جذوره لا بقشوره. لذا أطلقنا استراتيجية وطنية للتمكين الاقتصادي تشرك الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي: نحصر المستضعفين، ندربهم، نؤهلهم، ثم نوفر لهم فرص إنتاجية في بيئاتهم.
مع تركيز الحكومة على التسول والتشرد خلال العامين الماضيين.. ماذا عن بقية الفئات المستضعفة مثل الأيتام وذوي الإعاقة؟ وهل ثمة مؤسسات ترعاهم فعلاً؟
بعيداً عن وهج أزمة التشرد والتسول، لم يهمل القطاع فئات الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة. فمثلاً، “مؤسسة اليتيم” تدير برامج متكاملة لأكثر من 5,000 يتيم داخل أسرهم—تعليمٌ وصحيٌّ وتمكينٌ اقتصادي وتدريب تأهيلي عبر معهدٍ متخصص وأربعة معامل تدريبية، إلى جانب مؤسسات شقيقة كـ«جود» و«الرحمة».
أما ذوو الإعاقة، فيحظون بصندوق رعايةٍ وتأهيلٍ قائم منذ عقود، يشرف عليه القطاع ويخدم 3–5 ملايين شخص براً وبحراً (10–15% من السكان)، عبر منح نقدية، وخدمات صحية، ومراكز متخصصة للإعاقات الذهنية والسمعية والبصرية والحركية.
وبينما اعتُبرت مظلتا التشرد والتسول ملفات طارئة—فتبنّاها حديثاً بتمويلٍ من الهيئة العامة للزكاة وافتتحنا ثلاثة مراكز لعلاج المشردين النفسيين—تلك الفئات الراسخة (الأيتام والمعاقون) تمتلك مؤسساتها ومواردها الذاتية تحت إشرافنا منذ أكثر من 20 عاماً.. لذا، بينما نسابق لإطفاء الحرائق الاجتماعية الجديدة، تستمر هذه الشبكة الوطنية في أداء دورها بتوازنٍ وفاعلية.
في ظل تقلص دعم المنظمات الدولية.. ما مصير ملايين النازحين؟ وهل يكفي الاعتماد على الداخل لتعويض غياب الخارج؟
أكثر من أربعة ملايين نازح اليوم محكوم عليهم بالصبر وسط تراجع التمويل الخارجي، خاصة بعد خفض “إنقاذ الحياة” وتحويل المساعدات إلى ورقة ضغط سياسية. لكن بدلاً من انتظار بندقية المانحين، قررنا أن نجعل من الأزمة فرصة لإطلاق قوة الداخل: هناك اليوم إدارة عامة للنزوح باتت تنسّق مع مفوضية اللاجئين لتأمين الإيواء والتحويلات النقدية، وشبكة وطنية تضم رجال أعمال وقطاعاً خاصاً وهيئة الزكاة، تُموّل برامج إيواء وتمكين تدريجي.
حملتنا الآن هي: لا مشاريع منتهية الصلاحية بل شراكات طويلة الأمد. ندعو المجتمع المحلي والمبادرات الشعبية إلى ملء الفراغ، ونسعى لبناء نموذج إنساني يستند إلى الكرامة والسيادة والشراكة، بحيث إن رحل الدعم الخارجي غداً، يظل النازح قادراً على الوقوف على قدميه.
لطالما حذّرتم من الاستنزاف باسم “العمل الإنساني”… هل باتت المنظمات الدولية عبئاً أكثر من كونها دعماً حقيقياً؟
للأسف، كثير من المال يُستنزَف في النفقات التشغيلية لمكاتب ومنصّات المنظمات، بينما يبقى الفقراء محرومين من الدعم الفعلي. برامجهم غالبًا تقتصر على ورش نظرية وتدريبات تجميلية لا تلمس واقع الناس.
لذلك، أعدنا صياغة سياستنا إلى تمكينٍ اقتصادي قائم على “سلسلة القيمة”:
• لا ورش بلا نتائج قابلة للتنفيذ. • لا تدريب إلا إذا أنتج فرص عمل حقيقية.
• دعم المنتجات المحلية وخفض فاتورة الاستيراد. • تشجيع العودة الطوعية إلى القرى وتنمية الريف. ننسّق اليوم مع وزارة الخارجية والهيئات المحلية (الزكاة وتنمية المشاريع الصغيرة) لتحويل التمويل من «التسيير» إلى «الإنتاج»، واضعين نصب أعيننا: مستقبلنا لا يُبنى بموائد المانحين، بل بجهودنا الذاتية وشراكتنا المجتمعية.
بعد توقف تمويل الدولة لصندوق الرعاية الاجتماعية… ما الذي تبقّى للفقراء؟ وهل ما زالت هناك عدالة في الوصول إلى الإعانات؟
قبل 2016م، كان الصندوق ينعم بدعم حكومي يربو على 100 مليار ريال سنويًا لتغطية مرتبات وإعانات مستحقي الدعم. لكن القوائم لم تكن دقيقة: كان بإمكان شخص واحد إدخال عشرات الأسماء الوهمية واستلام مبالغ دون رقابة حقيقية. عندما جفت موارد البابين الثالث والرابع بعد نقل البنك المركزي، توقّف تمويل الصندوق عن العمل، فجمّد تحديث قاعدة البيانات وتعطّلت خدماته، مات مستحقون، وانتقل آخرون، وتحسّنت أوضاع بعضهم، بينما بقيت الأسماء نفسها على الجدول دون حراك.
ما هو التوجه العام لعمل البرنامج الوطني لمعالجة ظاهرة التسول والمشردين؟
– نشتغل اليوم على مسارين متكاملين من خلال بناء مراكز متكاملة وحديثة، حيث أطلقنا “مركز إحسان” بدعم الزكاة، يقدم للمشردين خدمات تأهيل نفسي وطبي واجتماعي في موقع واحد، وقريبا سندشّن مركزاً مماثلاً في تعز، ليتوسع النطاق ويصل المستحقون أسرع، أيضا المسار الثاني من خلال تطوير المراكز القائمة في أمانة العاصمة والحديدة، حيث يمران بحملة تحديث في البنية والتجهيزات وبرامج التأهيل.
ورغم إغلاق مركز عدن جرّاء الاعتداءات، فإننا نُعيد تأهيله عندما تستقر الأوضاع.
لا نلغي التاريخ، بل نربط القديم بالجديد؛ ومع أننا حققنا أقل من 5% من رؤيتنا، فقد بدأنا بالفعل، ولن نتوقف كي لا يتسع شبح التسول والتشرد ويقضي على آخر منابر الرعاية الاجتماعية.
من هم المتلقّون الرئيسيون لرسائلكم عبر هذا اللقاء؟
– رسائلنا موجهة إلى ثلاث فئات حيوية أولاها الى الجهات الحكومية والمؤسسات الرسمية نقول لهم ان مكافحة التسول والتشرد ليست مسؤولية “برنامج” واحد، بل معركة مشتركة. نحتاج إلى تكامل فعلي بين وزارات التربية والتعليم—لتعميم التعليم المجاني وخفض معدل الأمية، والصندوقين الاجتماعيين—لضمان رعاية المعاقين والنازحين، ووزارة الشؤون الاجتماعية للتنسيق الشامل، وكلما تضافرت الأدوار، قلّت فرص انخراط الأميين والنازحين في دوامة التسول.
ثانيا الى المحسنين والقطاع الخيري، ندعو إلى “الإحسان الذكي”: بدلًا من المنح النقدية العابرة، استثمروا في منح المهارات—دوراتنا النفسية والسلوكية والمهنية متاحة مجانًا لكل مَن يوشك على التسول. تعليمٌ يمهّد لاستقلالٍ حقيقي يدخل الأفراد سوق العمل بكرامة.
ثالثاً إلى القطاع الخاص، نقول لا نملك القدرة على توفير مشروع خاص لكل مستحق، لكن بإمكانكم فتح بوابتكم الوظيفية لهم. بالتنسيق مع الغرفة التجارية، بدأنا إدماج خريجي برامج التمكين في المصانع والمحلات التجارية، ليجدوا فرص عمل منتظمة بدل عادوا إلى الشارع. بهذا التوزيع، نسعى لخلق منظومة تكاملية—دولة ومجتمع ومدرّب وشريك اقتصادي—تقطع دابر الفقر وتعيد للمواطنين كرامتهم واستقرارهم.
كيف يمكن للمواطنين التبرع أو دعم البرنامج؟
يفتح “البرنامج الوطني لمعالجة التسول والإيواء” أبوابه لكل مواطن وجهة مانحة عبر الحساب المصرفي الموحد في كافة البنوك اليمنية على رقم الحساب: 53000 رقم صندوق البريد لتلقي التحويلات والمراسلات العينية صندوق بريد 5050 ونقدّر أي مساهمة—نقدية كانت أم عينية—فمعًا نبني جسر التكافل الذي يحقق الكرامة ويكسر دائرة الفقر.