في عام 1917م، أصدر وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور «وعداً» مشؤوماً منح بموجبه الحق لليهود في إقامة «وطن قومي» لهم على أرض فلسطين، دون أي اعتبار لحقوق شعبها الأصلي. اليوم، وبعد أكثر من قرن من المعاناة الفلسطينية، يعلن رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر استعداد بلاده الاعتراف بدولة فلسطين. بين الوعدين، بين الإرث الاستعماري والوعد الجديد، تقف قضية فلسطين، كشاهد على التناقض التاريخي بين السياسات الاستعمارية القديمة والمسؤوليات الأخلاقية والقانونية الحديثة.

لقد شكل وعد بلفور انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، لم يكن لبريطانيا أي حق قانوني أو شرعي في التصرف بأرض فلسطين، التي كانت تحت الانتداب البريطاني وفقاً لعصبة الأمم، وهو انتدابٌ يفترض أن يكون مؤقتاً ويخدم مصالح السكان الأصليين. كما تجاهل الوعد مبدأ تقرير المصير، الذي بدأ يترسخ في القانون الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، وهو ما يشكل انتهاكاً صريحاً لاتفاقيات حقوق الشعوب. ومهّد الوعد لقيام دولة «إسرائيل» عام 1948م عبر عملية تطهير عرقي «النكبة»، حيث طُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم، وتم تدمير أكثر من 500 قرية وبلدة فلسطينية.

الاعتراف بفلسطين كدولة هو واجب قانوني بموجب قرارات الأمم المتحدة، خاصة القرار 181 (1947م) الذي يقسم فلسطين إلى دولتين، والقرار 242 (1967م) الذي يدعو لانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. وعليه فإن وعد ستارمر هو اختبار حقيقي للالتزام بالقانون الدولي، إذا صاحب الاعتراف إجراءات عملية (مثل دعم عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وفرض عقوبات على الاحتلال)، فسيكون خطوة لتصحيح الإفلات من العقاب الذي تمتعت به إسرائيل لعقود. الفارق الجوهري هو أن وعد بلفور المشؤوم كان قراراً استعمارياً أحادياً، بينما اعتراف ستارمر يجب أن يكون جزءاً من التزام دولي بإنهاء الاحتلال.

تقف بريطانيا حاليا أمام مفترق تاريخي، ومأزق سياسي لم تختبره من قبل، وهنا يبرز تساؤل استراتيجي محوري: هل يمكن لبريطانيا أن تتحول من دعم الاحتلال إلى مواجهته؟

لقد كان وعد بلفور أداة استعمارية لتقسيم المنطقة، حيث خدم الوعد المصالح الإمبراطورية البريطانية عبر إقامة كيان موالٍ لها في الشرق الأوسط. كما أنه تجاهل الحقوق الفلسطينية لصالح مشروع صهيوني توسعي، مما أشعل صراعاً دامياً مستمراً حتى اليوم. بينما يأتي وعد ستارمر كاختبار حقيقي لمصداقية بريطانيا ما بعد الاستعمار. يأتي في سياق ضغط شعبي ودولي متصاعد بعد مجازر غزة والإبادة الجماعية الممنهجة، حيث شهدت بريطانيا أكبر المظاهرات المؤيدة لفلسطين. وعليه، فإذا لم يترافق هذا الوعد مع خطوات عملية (وقف التوريد العسكري لإسرائيل، دعم العقوبات، الضغط لوقف الاستيطان)، فسيُعتبر مجرد مناورة سياسية بريطانية جديدة لامتصاص الغضب الشعبي.

بريطانيا كانت ولازالت سببا رئيسا في مأساة الشعب الفلسطيني، وعلى عاتقها، إضافة للمسؤولية السياسية والقانونية، تقع مسؤولية أخلاقية وتاريخية في مسار العدالة الطويل الذي يسعى إليه الفلسطينيون. فوعد بلفور شكل جريمة أخلاقية بامتياز، حيث مثل الوعد صفقة استعمارية غير أخلاقية، حين قدمت بريطانيا أرض لا تملكها لشعب لا يسكنها. وفي ذات الوقت، تسبب في مأساة إنسانية مستمرة للشعب الفلسطيني، من التهجير إلى الاحتلال إلى نظام الفصل العنصري الحالي. ولهذا قد يكون وعد ستارمر فرصة تاريخية لتصحيح المأزق الأخلاقي لبريطانيا. فالاعتراف بفلسطين هو جزء من المسؤولية الأخلاقية لبريطانيا لتعويض ضحايا وعد بلفور، ويجب أن يكون بداية لسياسة بريطانية جديدة تقف مع العدالة، لا مع الهيمنة.

وفي النهاية يجب التأكيد على أن الاعتراف وحده ليس كافياً، لأن الوصول إلى العدالة وتحقيقها يتطلب أفعالاً على الأرض. وعد بلفور كان جزءا من سياسة استعمارية تخدم القوى العظمى، في حين أن وعد ستارمر يُؤمل أن يكون جزءا من سياسة ما بعد استعمارية يُفتَرض أن تخدم العدل. لكن الاعتراف بدولة فلسطين لن يكون له معنى إذا لم يتبعه:

1. وقف الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل.

2. محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين.

3. دعم حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

4. الضغط لإنهاء الاحتلال فعلياً.

بريطانيا أمام اختبار تاريخي: إما أن تكون في جانب الضحايا، أو أن تكرر خطيئة بلفور بأسلوب جديد. الشعب الفلسطيني لم يعد يثق بالوعود… الفلسطينيون يريدون العدالة.

* رئيس المؤسسة العربية الأوروبية – بريطانيا

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

«حرروا فلسطين»... رسالة وجبات طعام تهز الاحتلال

في واقعة أثارت موجة واسعة من الجدل، تلقى عدد من الركاب الإسرائيليين على متن رحلة تابعة للخطوط الجوية الإسبانية "إيبيريا" بين بوينس آيرس ومدريد، وجبات "كوشر" ممهورة بعبارة "حرروا فلسطين" (Free Palestine)، ما فتح الباب أمام حملة دولية متجددة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعمًا متزايدًا للقضية الفلسطينية في الأوساط الشعبية حول العالم.

وبحسب منظمة داعمة للاحتلال في الأرجنتين، فإن الراكب سلفادور أودي تسلم وجبة تحمل العبارة كاملة، فيما وزعت على ركاب آخرين وجبات مشابهة تحمل اختصارًا للرسالة ذاتها. 

وقد أعربت المنظمة عن غضبها الشديد ووصفت الحادثة بأنها "مسيسة وغير مقبولة"، وطالبت سلطات الطيران الأرجنتينية والإسبانية بفتح تحقيق رسمي واتخاذ إجراءات فورية ضد الشركة.

مشاعر التضامن الشعبي مع فلسطين تتجاوز المطارات

هذه الحادثة لم تأتِ بمعزل عن تصاعد لافت في مشاعر التضامن الشعبي العالمي مع الفلسطينيين، حيث تشهد منصات التواصل الاجتماعي والشارع الدولي تفاعلًا واسعًا مع دعوات إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ووقف الانتهاكات في قطاع غزة والضفة الغربية.

وقد أثارت الحادثة تعليقات كثيرة من نشطاء ومواطنين حول العالم، حيث اعتبرها البعض "تعبيرًا رمزيًا عن غضب مكبوت لدى موظفين مدنيين يشعرون بالعجز أمام الظلم اليومي الواقع على الفلسطينيين"، بينما رأى آخرون أن ظهور عبارة سياسية على منتج غذائي هو مؤشر على مدى تغلغل القضية الفلسطينية في الوعي العالمي، حتى في أماكن غير متوقعة مثل الطائرات أو المطاعم أو الفعاليات الرياضية.

يرى مراقبون أن حادثة "وجبة الكوشر" هي تعبير عن ظاهرة عالمية متنامية من المقاومة المدنية والشعبية للاحتلال الإسرائيلي، تتخذ أشكالًا متعددة، من المقاطعة الاقتصادية إلى الرسائل الرمزية، بل وحتى الأفعال الفردية التي تحمل مضامين سياسية.

كما تعكس الحادثة مدى التحول الحاصل في الرأي العام العالمي، خصوصًا في أوساط الشباب والمجتمع المدني، حيث لم تعد الرواية الإسرائيلية تحظى بالدعم الأوتوماتيكي ذاته الذي كانت تناله في السابق، في ظل تسارع وتيرة الجرائم والانتهاكات التي توثقها مؤسسات دولية.

وتأتي هذه التطورات بينما تتزايد الدعوات الدولية إلى وقف الحرب في غزة، ورفع الحصار، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

طباعة شارك كوشر الاحتلال غزة إسرائيل الأرجنتين

مقالات مشابهة

  • بريطانيا تبدأ تنفيذ اتفاق لإعادة مهاجرين إلى فرنسا
  • بريطانيا تبدأ إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى فرنسا
  • «حرروا فلسطين»... رسالة وجبات طعام تهز الاحتلال
  • الرئيس السيسي: التاريخ سيتوقف كثيرا أمام مواقف الكثير من الدول تجاه حرب غزة
  • الفصل السابع.. ماذا نعرف عن السلاح الأممي الذي يريد رئيس إيرلندا إطلاقه على الاحتلال؟
  • وئام عثمان: المواطن يسطر رسالة جديدة في التاريخ بمشاركته الكثيفة بانتخابات الشيوخ
  • المتهم بقتل الطالب السعودي في بريطانيا يمثل أمام المحكمة
  • بريطانيا تفتح الباب أمام الشركات التركية
  • اتهام ناشط خامس من حركة فلسطين في بريطانيا بتهم متعلقة بالإرهاب