مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

بادئ ذي بدء، لا يُمكن فَهم الحرب الإسرائيلية على إيران وتحليل دوافعها بشكل موضوعي ومنهجي، ولا التنبؤ بمآلاتها، بمعزلٍ عن سياقاتها التاريخية والسياسية الممتدة؛ فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دخل العالم مرحلة الحرب الباردة، وانقسم إلى معسكرين: اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، ورأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي هذا الإطار، برزت حركات التحرُّر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية كرد فعل طبيعي على واقع الاستعمار، مدعومةً إلى حد كبير من المعسكر الاشتراكي، الذي وفَّر لها دعمًا سياسيًا واقتصاديًا. وأدى هذا الواقع إلى قدر من التوازن النسبي في النظام العالمي، مكَّن العديد من دول العالم الثالث، التي كانت ترزح تحت أشكال متعددة من السيطرة الاستعمارية، من نيل استقلالها السياسي. غير أن هذه المرحلة لم تبلغ مداها؛ إذ شهدت مسارات متأرجحة بين التقدم والتراجع، بفعل عوامل موضوعية مُتراكمة، انتهت بانهيار المنظومة الاشتراكية، وعلى ضوئه تبدَّلت خريطة الصراعات والتحالفات السياسية. وفي خضم هذه التحولات، شكَّلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 نقطة مفصلية في تاريخ المنطقة؛ فقد أطاحت بنظام الشاه، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، والذي كان يُعرف بـ"شرطي الخليج"؛ نظرًا لدوره في حماية المصالح الغربية، وفي مقدمتها المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

كانت إيران في عهد الشاه تُقيم علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، وكان العلم الإسرائيلي يرفرف في سماء طهران، في مشهدٍ يُعبِّر بوضوح عن ارتهان النظام السابق للمحور الغربي. غير أن قيام الجمهورية الإسلامية غيَّر موازين القوى في المنطقة؛ إذ تبنَّت موقفًا مُعاديًا للهيمنة الإمبريالية والصهيونية، وهو ما منحها تأييدًا شعبيًا واسعًا في العالم العربي. هذا التحوُّل جعل إيران هدفًا مباشرًا لتحالف إمبريالي-صهيوني- رجعي، رأى في سقوط نظام الشاه تهديدًا مباشرًا لأحد أهم أركان المشروع الغربي في منطقة النفوذ التقليدي للغرب. وقد عُدَّ ذلك انتصارًا استراتيجيًا لكل القوى المُناهِضة للوجود الاستعماري. لكنَّ التطورات العالمية، وعلى رأسها انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط المنظومة الاشتراكية، منحت الولايات المتحدة فرصة التفرد بقيادة النظام العالمي وفرض هيمنتها على مناطق نفوذ المعسكر المُنهار، لا سيما في الشرق الأوسط. وسعت واشنطن إلى تفكيك ما تبقى من قوى المقاومة؛ سواء عبر الحروب المباشرة أو من خلال دعم قوى سياسية موالية لها.

وباستثناء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نجحت الولايات المتحدة إلى حدٍ كبيرٍ في تدمير معظم قوى المُمانَعة العربية الرسمية. وانطلاقًا من هذا الواقع، يُمكن فَهم الحرب الإسرائيلية الأخيرة؛ باعتبارها حلقة ضمن مشروع استراتيجي طويل الأمد، يسعى إلى فرض السيطرة الكاملة على شعوب المنطقة، وتصفية ما تبقى من قوى مُقاوِمة للمشروع الصهيوني- الأمريكي، باتت إيران تمثل الهدف الأبرز للمخططات الإمبريالية- الصهيونية. وهنا تتجلى أبعاد الحرب باعتبارها فصلًا جديدًا في صراع شامل، تتداخل فيه العوامل الجيوسياسية مع الرهانات العقائدية والاقتصادية.

وبناءً على هذا التحليل العام، يتضح أن المنطقة لا تتحرك في فراغ؛ بل تخضع لتوازنات وتحولات كبرى، ما تزال تؤثر في طبيعة الصراع، وإن تغيَّرت أشكال المواجهة وعناوينها السياسية. ويبقى السؤال الجوهري قائمًا: هل النصر حتمي للمشروع الإمبريالي- الصهيوني؟ الجواب، بموضوعية: لا؛ فهناك عوامل رئيسية تُضعِف هذا الاحتمال؛ أهمها: إرادة الصمود والمواجهة طويلة النفس، التي أثبتت حضورها في أكثر من ساحة، ومنها الفلسطينية رغم الكلفة الباهظة، والتي تُشكِّل نقيضًا واضحًا لمنطق الهيمنة الصهيونية- الأمريكية. وكذلك البُعد القِيَمِي والوجداني للصراع، القائم على مفاهيم الكرامة والهوية والقضية العادلة، وهي مُرتكزات لا يُمكن تقويضها أو استيرادها من مصانع الإمبريالية.

وعليه.. لا يُمكن فصل العدوان الإسرائيلي على إيران عن المسار التاريخي للصراع بين قوى الاستعمار والهيمنة من جهة، وقوى التحرُّر والاستقلال من جهة أخرى. وفي ظل المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة، يُمكن توقُّع عدد من السيناريوهات المُقبلة. لكن قبل ذلك لا بُد من التوقُّف عند الضربة الأمريكية التي باتت حتمية في الأيام القليلة الماضية؛ وذلك استنادًا إلى 4 اعتبارات رئيسية؛ الاعتبار الأول: مؤشرات جِدَّية تفيد بأنَّ الكيان الصهيوني يمُر بأزمة وجودية عميقة. الاعتبار الثاني: تأكيد أمريكي على الالتزام بحماية الكيان الصهيوني. الاعتبار الثالث: توجيه الرأي العام نحو السردية التي فقدت مصداقيتها حول سعي إيران لامتلاك السلاح النووي. الاعتبار الرابع: تقدير أمريكي خاص بأن الضربة العسكرية قد تُشكِّل مدخلًا يفتح أفقًا للحوار السياسي. وهذه الاعتبارات وغيرها ستتضح من خلال الرد الإيراني.

أما السيناريوهات المقبلة، فتندرج ضمن مسارين بارزين؛ الأول: توسيع دائرة الصراع ودخول قوى جديدة على خط المواجهة. الثاني: استمرار حرب الاستنزاف الحالية أطول مدة مُمكنة، وإذا ما أُخضِع هذان السيناريوهان لقانون التناقض وصراع الأضداد، يمكن استخلاص سيناريو ثالث، وهو وقف مؤقت للحرب وقبول الطرفين بصيغة توازن مرحلي.

وبغض النظر عن تفوق القوة العسكرية والنتائج الآنية وكل التطورات اللاحقة، فإن معركة الإرادات ما تزال مفتوحة، ومشروعية الدفاع عن الكرامة الوطنية تبقى قائمة، وستُواصِل قوى التحرُّر والتقدُّم، التشكُّل بصور متعددة، ولن تتمكَّن قوى الظلم والعدوان من القضاء على إرادة الشعوب وحقها في الحرية والسيادة الوطنية.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سلطنة عمان: الضربة الأمريكية على إيران تهدد بتوسيع رقعة الحرب

أعربت سلطنة عمان عن بالغ القلق والاستنكار والإدانة إزاء التصعيد الناجم عن القصف الجوّي المباشر الذي شنّته الولايات المتحدة على مواقع في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ودعت سلطنة عمان إلى خفض التصعيد الفوري والشامل، وفقا لما ذكرته وكالة الأنباء العمانية.

وأكدت السلطنة أن ما أقدمت عليه الولايات المتحدة يهدّد بتوسيع رقعة الحرب ويشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر استخدام القوة وانتهاك السيادة الوطنية للدول وحقّها المشروع في تطوير برامجها النووية للاستخدامات السلمية.

الضربة الأمريكية على إيرانقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • “التعاون الإسلامي” تُدين بشدّة العدوان الصهيوني والأمريكي على إيران
  • كاتس يُصادق على أهداف المرحلة المقبلة من الحرب على إيران
  • الحروب في المنطقة قبل إيران وبعدها
  • سلطنة عمان: الضربة الأمريكية على إيران تهدد بتوسيع رقعة الحرب
  • أستاذ علوم سياسية يكشف السيناريوهات المتوقعة لحرب إيران وإسرائيل «فيديو»
  • الخارجية العراقية تؤكد إجراء اتصالات مكثفة لوقف العدوان الصهيوني على إيران
  • تصاعد توترات الشرق الأوسط يثير قلق المستثمرين مع تقييم لأسوأ السيناريوهات المحتملة
  • هل ستخوض الولايات المتحدة حربًا ضد إيران؟ اسألوا سارية العلم!
  • المعضلة الأمريكية في إيران