لم يمض يومٌ مذ خُلِق الإنسان إلا وكان فيه شيءٌ جديد، معرفةٌ جديدة، اقترابٌ جديد. حتى جاء اختراع الآلة الطابعة باعتباره الفتح الأكبر وكُرة الثلج الحسنة التي جعلت التطورات المعرفية في شتى العلوم تتسارع وتتوالى، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من طفرة في التقدم والتطور البشري. هذه الطفرة الهائلة طالت جميع العلوم دون استثناء، عدا منطقة ظلَّت عصيّة على الحسم العلمي، وظل العلم يعالجها ويقاربها فيصيب تارة ويخطئ تارات كثيرة، وذلك لديناميكيتها المستمرة وحركتها الدائمة التي لا تتوقف؛ وهي المنطقة الشائكة لفهم النفس الإنسانية.
تغريني عدة فنونٍ لفهمها والتعمُّقِ فيها واكتساب مزيد من المعرفة عنها، وكلما تعمّقتُ؛ وجدتني أشد ظمأً للمزيد منها، وعلم النفس أحد هذه الفنون الخلّاقة دائمة التطور والنمو. يكتسب المرء، بعد فترة من تجربته القرائية الناقدة، مهارة جديدة، وهي المقاربات التي يشاهدها في واقعه والتمثّلات التي تبدأ بالظهور مرة بعد أخرى؛ فكأنما يرى التجسيد الآني للآية الكريمة: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، حيث ترتفع الحُجُب وتغدو الأشياء واضحة جليّة مهما أُلبِسَت من أقنعة ووجوه.
كنا في حوار عميق وصادق صديقي وأنا، عن علم النفس، الطبيعة البشرية، الجوانب المظلمة والخفية للنفس البشرية، وكيف يستعمل البعض الشر بوعي أو بغير وعي منهم عبر علم النفس. فانقدحت في ذهني شرارةٌ ما، وانكشف لي شيء خشيت أنني سُبِقت إليه، وانتهى الأمر بفرحة الاكتشاف ولذته. فقد ابتكرت مصطلحًا جديدًا لم أجد له أي استعمال أو نحت من قِبَلِ أي مختص أو أديب، وسميّته «بذور الشجرة السامة». فما هي الشجرة السامة؟ وما بذورها؟ وكيف يتبدى الشر في بعض المواقف والأحداث التي تبدو عفوية وطبيعية؟
يتفاعل الناس مع بعضهم وفق مسؤوليات وحاجات معينة، وتحدد تلك المسؤوليات والحاجات طريقة التعامل وسُبُلَها، والخبايا التي تندسُّ في شقوق النفس البشرية، فإما أن يدركها صاحبها، وإما أن تتمدد تلك الشقوق حتى يتصدع المرء وتتبدى للجميع هشاشة موقفه ومنطلقاته، حتى ليتمثّلَ المرء بشطرِ بيتِ زُهير بن أبي سُلمى: «وإن خالها تَخفى على الناسِ تُعلَمِ».
لا يستطيع الإنسان أن يقصر تعامله على من يعرفه ويروق له فحسب، فهو يعتمد على الناس كاعتماده على النباتات في غذائه، فبعض الأغذية لا بُدَّ من تناولها حتى وإن لم تعجبنا أو تَلذُّ لنا، وهكذا البشر. فبعض الناس في هذه الحياة أناس من المجموعة الأساسية التي لها حقوق ومكانة ومقام يمنحها الحق والقدرة في التأثير علينا ومناقشتنا ومحاكمتنا أخلاقيًّا أو قِيَميًّا؛ وهم الدائرة الأقرب من العائلة والأصدقاء. بينما تغدو المجموعات الثانوية، من زملاء وأناس نتعامل معهم لمرات محدودة، شيئًا خارج نطاق اختيارنا، وإنما تضعنا وتضعهم الحياة في ذات الطريق الذي يجب أن نخطوه سويًّا.
تنمو العلاقات الإنسانية بالتغذية المستمرة من لقاءات ومعرفة وتصاحُبٍ وحديث، وقد تصبح حديقةً غنَّاء وارفة الظلال، أو حقلًا مليئًا بالأشواك الظاهرة والخفية. فالظاهرة أمرها سهلٌ ويسير، ولكنَّ أُمّ المشكلات تكمن في تلك الخَفِيَّة المتوارية عن العيون. كيف تنمو العداوات؟ وكيف تذبل الروابي النَّضِرَة إذن؟ هناك خلل ما طرأ في العلاقة وجعلها تحذو هذا الحذو، فما الخلل؟
بينما يفسل المرء الفسيلة برغبة وعن قصد ونيّة، في موضعٍ ما وفسيلةً من نوعٍ ما، تتميز بعض الأشجار بأنك تستطيع أن تنثر بذورها في المزرعة دون زراعة أو غرس، ولا تشعر إلا وقد نمت تلك الأشجار وناولتك ثمارها، وهكذا العلاقات الإنسانية أيضًا، فالكلمات التي نقولها للآخرين أو عن الآخرين تمثّل بذورًا تَعِدُ بشجرةٍ قادمة، وبينما يغرس المرء بذرةً خيِّرة ككلمةٍ طيبةٍ في نفسِ طفلٍ ليكبُرَ وهو أقرب إلى الخير، أو لصديقٍ أو محتاجٍ لتلك الكلمة الطيبة ليغدو أفضل حالًا وأقل ألمًا أو مشكلةً أو مأزقًا؛ يعمد البعض إلى نثر البذور السامة في الآخرين، أو عن الآخرين إلى آخرين غيرهم!
تمثّل الغيبة والنميمة وحديث السوء عن شخصٍ ما، بذرةً واضحةَ المعالم لشجرة تعد بانقطاع علاقة، أو انفصامها في التوِّ واللحظة، أو في الغد القريب المنتظر، أما البذور الخفية فهي تلك التي تلبس ثيابًا أنيقة وتبدو حسنةً جميلةً بل وخَيِّرَةً أحيانًا! ثم ما يلبث أن تنمو في تلك الدهماء، فلا ندري كيف نمت واستطالت، أو متى ارتوت وطالت. إن الكلمات التي تتخلل ثنيّات الكلام، كلمات تترسّخ وتثبُت في موضع ما في نفوس سامعيها. ويستعمل البعض تلك الكلمات بوعي كامل، فنسميهم أُناسًا «سَامِّين»، لكن الخطر يكمن من الآخرين الذين تبدو عليهم مظاهر البراءة والوداعة في كلامهم، وهم يدسون بذور الشجرة السامة في أرض طيبة النشر.
ومثال البذور السامة، أن يجمع مجموعة من الأصدقاء أو المعارف جامع مشترك، وكلّهم على القدر نفسه من المكانة والتأثير في المجموعة. ففي مجموعة تضم -على سبيل المثال- جون، مايكل، وفريدريك؛ يقول جون، لمايكل، متحدثًا عن فريدريك: «صحيح أنه صديق جيد، لكنه لا يلتزم بوعوده للأسف، أتمنى لو أستطيع تغييره؛ لأننا نحبه حقًّا، هل علمتَ أنه خسر شريكه التجاري لأنه لم يفِ بالتزاماته المالية تجاه الشركة؟ والمشكلة أنه لا يصارحني بهذه الحقيقة لأساعده! يعزُّ عليَّ حاله، ليتني أستطيع مساعدته فحسب».
تبدو تلك العبارة لطيفة تمثل ألم صديق على حال صديقه، ولكنها في الحقيقة تخفي بذرة سامة تعد بشجرة مؤجلة للغد.
ينكشف جون أمام فريدريك، ويكتشف فريدريك أن جون لم يكن صديقه أساسًا؛ بل كانت تختبئ خلف تلك الأقنعة مصالح ونوايا أخرى، وهنا يكتشف فريدريك أن بذرةُ الأمس صارت شجرة. فحين يذهب فريدريك إلى الصديق المشترك «مايكل» ليشكو من جون ويطلب المساعدة في تحسين علاقتهما؛ يكتشف أن مايكل منحاز تمام الانحياز إلى جون وروايته للمسألة والحدث. فتلك العبارة الأولى رسّخت في مايكل -حتى وإن كان في عقله اللاواعي- عدة صفات سيئة عن فريدريك، رغم أنها لم تظهر إلى السطح إلا حين حدث الخصام بين الباذر والمبذور عنه. فالكذب وانعدام الثقة والمسؤولية، كلها بذور غرستها يدٌ ما في ظلام النفس، وها هي تخرج للوعي شجرة مكتملة النمو!
خشيت أن يكون استعمال الأسماء العربية، في المثال، ضربًا من ضروب البذور السامة غير المقصودة التي قد يتلقفها شخص ما لتشابه الأسماء أو تشابه المواقف. ولكن هذا المثال يعيدنا إلى الواقع الصعب في التعامل مع علم النفس وتمثلاته في أفعال المرء وأقواله، فضلًا عن تفكيره وما يعتمل في دماغه. ففي فهم الآخر، تغدو للكلمة معانٍ كثيرة ولا نهائية من الاحتمالات، وفي حين يبدو أن بعض تلك الكلمات واضحة جلية؛ تختبئ الكلمات السامة في شقوق الحديث، متوفرة ومتأهبة للخروج عند أدنى استعداء وأول صفارة إنذار.
ففي حين أن الكتب والبحوث هي مادة المعرفة في شتى المعارف والعلوم؛ يمثل التعامل مع البشر ومراقبة تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم ونتائج ذلك كله وتجسيداته، النتيجة المباشرة للمراقبة والمشاهدة والتجربة في هذا الحقل الشائك. أما عن علاج كل هذا، فالصدق والصراحة هما الحل الناجع والعلاج الحقيقي. فما يدعو المرء إلى أخذ الكلام على عواهنه ليس إلا الكسل المعرفي وبطالة الذهن والروح التي تدفعه لأن يتناول أقرب ما تصل إليه يده من «الرَّف» القريب، دون تفحّص أو تمحيص لما يتناوله أو يصل إليه.
ثم ما فائدة العلاقات الإنسانية كلها إن لم نملك الشجاعة على السؤال؟ فإذا كان السؤال يمس أعظم ما في الحياة، الإله، كما في: «الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»، فهل يخشى أحدنا أن يتثبت ويسأل من يكترث ويهتم لأمره من عائلة أو صديق أو حبيب؟ وهل سيتنبه إلى البذور السامة في حينها؛ أم أنه سيعمي عينيه عن الفيل الذي في الغرفة؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: علم النفس السامة فی بذور ا
إقرأ أيضاً:
قابس التونسية..غيوم سامة وإرث صناعي قاتل يدفع الولاية بأكملها إلى حافة الهاوية
في قابس، بات من المستحيل على السكان إغلاق نوافذهم بإحكام. فالرائحة الخانقة الناتجة عن غبار نفايات الفوسفات السامة تتسلل إلى كل زاوية، ممزوجة بالهواء الذي يتنفسه نحو 400 ألف شخص. وتقول إحدى الشهادات ليورونيوز بعد اجتياح الغازات السامة فناء منزلها: "هذا الهواء يقتلنا تدريجيًا.. نعيشه نهارًا وليلًا". اعلان
مجدداً، سجلت ولاية قابس جنوب تونس حالات اختناق إثر تسرب غازات سامة من المجمع الكيميائي المحلي، وفق خير الدين ديبة، المتحدث باسم حملة "أوقفوا التلوث". وأوضح ديبة أن نحو 20 طالبًا في مدرسة بمنطقة شطّ السلام تعرّضوا للاختناق. وتظهر مقاطع فيديو تداولها الأهالي على وسائل التواصل الاجتماعي طلاب يلهثون بحثًا عن الهواء، فيما تدخلت فرق الإسعاف لنقلهم إلى المستشفيات. وتكررت هذه الحوادث عدة مرات خلال الأسابيع الماضية، وكان آخرها في سبتمبر الماضي، حين أُصيب أكثر من 40 تلميذًا بحالات اختناق مماثلة.
ولم يتأخر رد فعل السكان، إذ خرج العشرات إلى الشوارع احتجاجًا على تكرار الحوادث، وأغلقوا الطرقات وأشعلوا الإطارات المطاطية، مطالبين بـ"وقف انبعاثات الغازات السامة" و"تفكيك الوحدات الصناعية الملوثة".
وفي تصعيد جديد، اقتحم المتظاهرون المجمع الكيميائي يوم أمس.
وتقول إحدى الشهادات ليورونيوز: "قابس لم تعد سوى مدينة موت.. نكافح يوميًا من أجل نفسٍ واحد، ونشهد ارتفاعًا مرعبًا في حالات السرطان وهشاشة العظام بفعل هذا التلوث الذي لا يرحم..لم يعد من المقبول أن تواصل هذه المنشآت قتلنا ببطء.. نطالب بإغلاقها فورًا". وأضافت : "لم يكتفِ هذا التلوث بتشويه جمال شواطئنا، بل أباد الكائنات البحرية واحدة تلو الأخرى، وحوّل بحرنا الذي نعشقه إلى مقبرة مائية".
من مصنع للتنمية إلى مصدر للتلوثمدينة قابس، التي كانت تشتهر سابقا بغناها البيئي الساحلي،تشهد تدهورا مستمرا في قطاع صيد الأسماك، الذي كان يشكل مصدر رزق أساسي للعديد من سكان المنطقة.
وأُنشئ المجمع الكيميائي في منطقة غنوش سنة 1972 لمعالجة الفوسفات وتحويله إلى منتجات صناعية لدعم الاقتصاد الوطني. لكن بعد عقود، تحوّل إلى أحد أبرز مصادر التلوث في تونس، نتيجة الانبعاثات الغازية السامة والنفايات الكيميائية التي تُلقى في البحر والهواء دون معالجة فعّالة.
وتُعد مادة الفوسفوجيبس من أخطر المخلفات الناتجة عن المصنع، إذ تنتج عن معالجة الفوسفات وتحتوي على معادن ثقيلة ومواد إشعاعية مثل اليورانيوم والثوريوم والراديوم، بالإضافة إلى سموم كيميائية متراكمة. ويُلقى بهذه المخلفات يوميًا بكميات هائلة في خليج قابس، مما يؤدي إلى تلوث واسع للبحر، وتدهور الثروة السمكية، وتلوث التربة والمياه الجوفية والهواء.
وتشير التقديرات إلى أن المجمع الكيميائي في قابس ينتج آلاف الأطنان من الفوسفوجيبس يوميًا، يُصرف جزء كبير منه مباشرة في البحر دون أي معالجة، خصوصًا في شاطئ شطّ السلام القريب من المنطقة الصناعية.
وبالإضافة إلى النفايات الصلبة، تطلق وحدات المعالجة كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكبريت وغازات ملوثة أخرى، ما أسهم في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية والجلدية والسرطانية بين السكان.
وقد أظهرت دراسة أجراها مختبر "جيوسيانس إنفيرونمان" في مدينة تولوز الفرنسية أن مصنع قابس يطلق مستويات مرتفعة من الملوثات السامة، والتي ترتبط بتشوهات خلقية وأمراض في القلب والرئتين والكبد والكلى والدم.
وتتطلع تونس إلى استخراج 14 مليون طن سنويا من مادة الفوسفات بحلول عام 2030 بحسب تقارير إعلامية، وهو معدل إنتاج غير مسبوق منذ افتتاح المصنع.
تعهدات عام 2017 تتهاوى..في عام 2017، تعهدت الحكومة التونسية بإنهاء سكب مادة الفوسفوجيبس في البحر، وذلك في إطار قرار حكومي. وقد نص القرار على إيقاف إلقاء هذه المادة السامة في خليج قابس، وتفكيك الوحدات الصناعية الملوثة، وتعويضها بوحدات حديثة تحترم المعايير البيئية.
وكان هذا القرار نتيجة لضغوطات كبيرة من المجتمع المدني، الذي حدد يوم 30 يونيو 2017 كموعد نهائي لتنفيذه. وقد شارك في هذه الضغوطات العديد من الجمعيات البيئية والخبراء الدوليين، الذين أكدوا على ضرورة إيجاد حل جذري لمشكلة الفوسفوجيبس، التي تهدد صحة السكان والبيئة في قابس.
وعلى الرغم من هذه التعهدات، إلا أن تنفيذها تأخر بشكل كبير، مما دفع الأهالي إلى تجديد مطالبهم في السنوات الماضية.
وفي مارس 2025، فوجئ سكان قابس بقرار حكومي جديد يقضي بحذف الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة، وهو ما اعتبروه تراجعًا عن التعهدات السابقة. وقد اعتبر الناشط البيئي خير الدين دبية أن هذا القرار يُهدّد صحة المواطنين ويزيد من التلوث في قابس، ويُعيد المنطقة إلى نقطة الصفر في معركتها ضد التلوث الصناعي.
وفي السياق نفسه، أعلن وزير البيئة حبيب عبيد خلال زيارة ميدانية إلى ولاية قابس في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن تونس تتجه نحو تثمين مادة الفوسفوجيبس وتسويقها، مع التوقف تدريجيًا عن تصريفها في البحر، دون أن يوضح تفاصيل العملية أو آليات تنفيذها.
جدير بالذكر أن الرئيس التونسي قيس سعيد قد قال خلال الأسبوع الماضي إن قابس تعرضت منذ سنوات طويلة "لاغتيال للبيئة والقضاء عليها" بسبب اختيارات قديمة وصفها بأنها "جريمة".
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة