لجريدة عمان:
2025-12-04@00:55:36 GMT

بذور الشجرة السامة

تاريخ النشر: 25th, June 2025 GMT

لم يمض يومٌ مذ خُلِق الإنسان إلا وكان فيه شيءٌ جديد، معرفةٌ جديدة، اقترابٌ جديد. حتى جاء اختراع الآلة الطابعة باعتباره الفتح الأكبر وكُرة الثلج الحسنة التي جعلت التطورات المعرفية في شتى العلوم تتسارع وتتوالى، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من طفرة في التقدم والتطور البشري. هذه الطفرة الهائلة طالت جميع العلوم دون استثناء، عدا منطقة ظلَّت عصيّة على الحسم العلمي، وظل العلم يعالجها ويقاربها فيصيب تارة ويخطئ تارات كثيرة، وذلك لديناميكيتها المستمرة وحركتها الدائمة التي لا تتوقف؛ وهي المنطقة الشائكة لفهم النفس الإنسانية.

فقد ظل حقل علم النفس بأشواكه الحادة وحقله الصعب الذي يشبه حقل الألغام، عصيًّا على الاختزال والحصار، وظل التأسيس فيه مستمرًّا وقائمًا، فهو بناء لم يكتمل رغم السنوات التي مرت والأبحاث التي نُشرت، والعلماء الذين أفنوا حياتهم فيه.

تغريني عدة فنونٍ لفهمها والتعمُّقِ فيها واكتساب مزيد من المعرفة عنها، وكلما تعمّقتُ؛ وجدتني أشد ظمأً للمزيد منها، وعلم النفس أحد هذه الفنون الخلّاقة دائمة التطور والنمو. يكتسب المرء، بعد فترة من تجربته القرائية الناقدة، مهارة جديدة، وهي المقاربات التي يشاهدها في واقعه والتمثّلات التي تبدأ بالظهور مرة بعد أخرى؛ فكأنما يرى التجسيد الآني للآية الكريمة: «فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، حيث ترتفع الحُجُب وتغدو الأشياء واضحة جليّة مهما أُلبِسَت من أقنعة ووجوه.

كنا في حوار عميق وصادق صديقي وأنا، عن علم النفس، الطبيعة البشرية، الجوانب المظلمة والخفية للنفس البشرية، وكيف يستعمل البعض الشر بوعي أو بغير وعي منهم عبر علم النفس. فانقدحت في ذهني شرارةٌ ما، وانكشف لي شيء خشيت أنني سُبِقت إليه، وانتهى الأمر بفرحة الاكتشاف ولذته. فقد ابتكرت مصطلحًا جديدًا لم أجد له أي استعمال أو نحت من قِبَلِ أي مختص أو أديب، وسميّته «بذور الشجرة السامة». فما هي الشجرة السامة؟ وما بذورها؟ وكيف يتبدى الشر في بعض المواقف والأحداث التي تبدو عفوية وطبيعية؟

يتفاعل الناس مع بعضهم وفق مسؤوليات وحاجات معينة، وتحدد تلك المسؤوليات والحاجات طريقة التعامل وسُبُلَها، والخبايا التي تندسُّ في شقوق النفس البشرية، فإما أن يدركها صاحبها، وإما أن تتمدد تلك الشقوق حتى يتصدع المرء وتتبدى للجميع هشاشة موقفه ومنطلقاته، حتى ليتمثّلَ المرء بشطرِ بيتِ زُهير بن أبي سُلمى: «وإن خالها تَخفى على الناسِ تُعلَمِ».

لا يستطيع الإنسان أن يقصر تعامله على من يعرفه ويروق له فحسب، فهو يعتمد على الناس كاعتماده على النباتات في غذائه، فبعض الأغذية لا بُدَّ من تناولها حتى وإن لم تعجبنا أو تَلذُّ لنا، وهكذا البشر. فبعض الناس في هذه الحياة أناس من المجموعة الأساسية التي لها حقوق ومكانة ومقام يمنحها الحق والقدرة في التأثير علينا ومناقشتنا ومحاكمتنا أخلاقيًّا أو قِيَميًّا؛ وهم الدائرة الأقرب من العائلة والأصدقاء. بينما تغدو المجموعات الثانوية، من زملاء وأناس نتعامل معهم لمرات محدودة، شيئًا خارج نطاق اختيارنا، وإنما تضعنا وتضعهم الحياة في ذات الطريق الذي يجب أن نخطوه سويًّا.

تنمو العلاقات الإنسانية بالتغذية المستمرة من لقاءات ومعرفة وتصاحُبٍ وحديث، وقد تصبح حديقةً غنَّاء وارفة الظلال، أو حقلًا مليئًا بالأشواك الظاهرة والخفية. فالظاهرة أمرها سهلٌ ويسير، ولكنَّ أُمّ المشكلات تكمن في تلك الخَفِيَّة المتوارية عن العيون. كيف تنمو العداوات؟ وكيف تذبل الروابي النَّضِرَة إذن؟ هناك خلل ما طرأ في العلاقة وجعلها تحذو هذا الحذو، فما الخلل؟

بينما يفسل المرء الفسيلة برغبة وعن قصد ونيّة، في موضعٍ ما وفسيلةً من نوعٍ ما، تتميز بعض الأشجار بأنك تستطيع أن تنثر بذورها في المزرعة دون زراعة أو غرس، ولا تشعر إلا وقد نمت تلك الأشجار وناولتك ثمارها، وهكذا العلاقات الإنسانية أيضًا، فالكلمات التي نقولها للآخرين أو عن الآخرين تمثّل بذورًا تَعِدُ بشجرةٍ قادمة، وبينما يغرس المرء بذرةً خيِّرة ككلمةٍ طيبةٍ في نفسِ طفلٍ ليكبُرَ وهو أقرب إلى الخير، أو لصديقٍ أو محتاجٍ لتلك الكلمة الطيبة ليغدو أفضل حالًا وأقل ألمًا أو مشكلةً أو مأزقًا؛ يعمد البعض إلى نثر البذور السامة في الآخرين، أو عن الآخرين إلى آخرين غيرهم!

تمثّل الغيبة والنميمة وحديث السوء عن شخصٍ ما، بذرةً واضحةَ المعالم لشجرة تعد بانقطاع علاقة، أو انفصامها في التوِّ واللحظة، أو في الغد القريب المنتظر، أما البذور الخفية فهي تلك التي تلبس ثيابًا أنيقة وتبدو حسنةً جميلةً بل وخَيِّرَةً أحيانًا! ثم ما يلبث أن تنمو في تلك الدهماء، فلا ندري كيف نمت واستطالت، أو متى ارتوت وطالت. إن الكلمات التي تتخلل ثنيّات الكلام، كلمات تترسّخ وتثبُت في موضع ما في نفوس سامعيها. ويستعمل البعض تلك الكلمات بوعي كامل، فنسميهم أُناسًا «سَامِّين»، لكن الخطر يكمن من الآخرين الذين تبدو عليهم مظاهر البراءة والوداعة في كلامهم، وهم يدسون بذور الشجرة السامة في أرض طيبة النشر.

ومثال البذور السامة، أن يجمع مجموعة من الأصدقاء أو المعارف جامع مشترك، وكلّهم على القدر نفسه من المكانة والتأثير في المجموعة. ففي مجموعة تضم -على سبيل المثال- جون، مايكل، وفريدريك؛ يقول جون، لمايكل، متحدثًا عن فريدريك: «صحيح أنه صديق جيد، لكنه لا يلتزم بوعوده للأسف، أتمنى لو أستطيع تغييره؛ لأننا نحبه حقًّا، هل علمتَ أنه خسر شريكه التجاري لأنه لم يفِ بالتزاماته المالية تجاه الشركة؟ والمشكلة أنه لا يصارحني بهذه الحقيقة لأساعده! يعزُّ عليَّ حاله، ليتني أستطيع مساعدته فحسب».

تبدو تلك العبارة لطيفة تمثل ألم صديق على حال صديقه، ولكنها في الحقيقة تخفي بذرة سامة تعد بشجرة مؤجلة للغد.

ينكشف جون أمام فريدريك، ويكتشف فريدريك أن جون لم يكن صديقه أساسًا؛ بل كانت تختبئ خلف تلك الأقنعة مصالح ونوايا أخرى، وهنا يكتشف فريدريك أن بذرةُ الأمس صارت شجرة. فحين يذهب فريدريك إلى الصديق المشترك «مايكل» ليشكو من جون ويطلب المساعدة في تحسين علاقتهما؛ يكتشف أن مايكل منحاز تمام الانحياز إلى جون وروايته للمسألة والحدث. فتلك العبارة الأولى رسّخت في مايكل -حتى وإن كان في عقله اللاواعي- عدة صفات سيئة عن فريدريك، رغم أنها لم تظهر إلى السطح إلا حين حدث الخصام بين الباذر والمبذور عنه. فالكذب وانعدام الثقة والمسؤولية، كلها بذور غرستها يدٌ ما في ظلام النفس، وها هي تخرج للوعي شجرة مكتملة النمو!

خشيت أن يكون استعمال الأسماء العربية، في المثال، ضربًا من ضروب البذور السامة غير المقصودة التي قد يتلقفها شخص ما لتشابه الأسماء أو تشابه المواقف. ولكن هذا المثال يعيدنا إلى الواقع الصعب في التعامل مع علم النفس وتمثلاته في أفعال المرء وأقواله، فضلًا عن تفكيره وما يعتمل في دماغه. ففي فهم الآخر، تغدو للكلمة معانٍ كثيرة ولا نهائية من الاحتمالات، وفي حين يبدو أن بعض تلك الكلمات واضحة جلية؛ تختبئ الكلمات السامة في شقوق الحديث، متوفرة ومتأهبة للخروج عند أدنى استعداء وأول صفارة إنذار.

ففي حين أن الكتب والبحوث هي مادة المعرفة في شتى المعارف والعلوم؛ يمثل التعامل مع البشر ومراقبة تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم ونتائج ذلك كله وتجسيداته، النتيجة المباشرة للمراقبة والمشاهدة والتجربة في هذا الحقل الشائك. أما عن علاج كل هذا، فالصدق والصراحة هما الحل الناجع والعلاج الحقيقي. فما يدعو المرء إلى أخذ الكلام على عواهنه ليس إلا الكسل المعرفي وبطالة الذهن والروح التي تدفعه لأن يتناول أقرب ما تصل إليه يده من «الرَّف» القريب، دون تفحّص أو تمحيص لما يتناوله أو يصل إليه.

ثم ما فائدة العلاقات الإنسانية كلها إن لم نملك الشجاعة على السؤال؟ فإذا كان السؤال يمس أعظم ما في الحياة، الإله، كما في: «الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ»، فهل يخشى أحدنا أن يتثبت ويسأل من يكترث ويهتم لأمره من عائلة أو صديق أو حبيب؟ وهل سيتنبه إلى البذور السامة في حينها؛ أم أنه سيعمي عينيه عن الفيل الذي في الغرفة؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علم النفس السامة فی بذور ا

إقرأ أيضاً:

دارسو علم النفس بجامعة قنا يتعرفون على تجربة شاب تعافي من الإدمان

 قام وفد جامعي من طلاب قسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة قنا، بزيارة علمية وتوعوية إلى مركز العزيمة لعلاج الإدمان بقنا، وذلك في إطار تفعيل البروتوكول المبرم بين الجامعة والمركز وتعزيز دور الجامعة في دعم جهود الدولة لمكافحة الإدمان واستقبال الحالات المصابة والتوعية بين ذويهم، واستمع الوفد إلى تجربة ملهمة لأحد المتعافين البالغ من العمر 25 عامًا .

برعاية الدكتور أحمد عكاوي رئيس جامعة قنا، والدكتور محمد سعيد عبدالله نائب رئيس الجامعة لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة. 

وضمّ الوفد كل من: الدكتورة سعاد سعيد رئيس قسم علم النفس، والدكتور حسام حسين بالقسم، والأستاذ محمد الكامل مدير إدارة المشروعات البيئية بالجامعة، ومتطوعي بيت التطوع، إلى جانب الدكتور محمود ياسين مدير البرامج الوقائية بصندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي بقنا.

وكان في استقبال الوفد اللواء هاني لطفي مدير المركز، والأستاذ عبد الرازق حرك نائب المدير، وفريق الأخصائيين النفسيين والجهاز الإداري.

وشملت الزيارة ندوة تعريفية بقاعة المؤتمرات تناولت تاريخ إنشاء المركز وأهدافه والخدمات المجانية التي يقدّمها للنزلاء بسرية تامة، إلى جانب استعراض الطاقة الاستيعابية للمركز التي تبلغ 75 سريراً، إضافة إلى غرف إقامة بمعايير فندقية، وملاعب رياضية، ومساحات للأنشطة الترفيهية والفنون وغيرها من الخدمات

كما استمع الوفد إلى تجربة ملهمة لأحد المتعافين البالغ من العمر 25 عامًا، الذي استعرض رحلته من الإدمان إلى التعافي، موجهاً الشكر لإدارة المركز على جودة الرعاية والخدمات التي تلقاها حتى أصبح فردًا منتجًا وفعالاً في المجتمع.

وتضمنت الزيارة جولة ميدانية داخل المركز شملت غرف الإقامة، والمناطق الرياضية والترفيهية، أماكن الإعاشة، والعيادات المتخصصة.

وفي ختام الزيارة، قدّم الوفد الجامعي الشكر لإدارة المركز مؤكدين عزمهم نشر التوعية بين طلاب الجامعة بضرورة زيارة هذا الصرح العلاجي التابع لجامعة قنا الرائدة في مجال خدمة المجتمع، إلى جانب التعريف بالخط الساخن للمركز ودوره في استقبال الحالات وتقديم الدعم اللازم لذويهم.

التوعية بمخاطر الإدمان: 

في سياق ذي صلة، تواصلت ندوات التوعية بمكافحة الإدمان والتعاطي التي ينظمها قطاع خدمة المجتمع وتنمية البيئة بجامعة قنا بالتعاون مع صندوق مكافحة الإدمان والتعاطي. 

وأقيمت ندوة توعوية بكلية الآداب عن أضرار تعاطى المواد المخدرة ، وتناولت الندوة التأثيرات الخطيرة للإدمان الذي يمثل تهديدًا مباشرًا للصحة النفسية والجسدية للشباب، إلى جانب ما يخلّفه من تبعات اجتماعية واقتصادية تثقل كاهل الأسرة والمجتمع.

وقال الدكتور محمود ياسين أخصائي التوعية بصندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي، إن  الإدمان لم يعد مقتصرًا على المواد التقليدية، بل ظهرت أنماط حديثة من المواد المؤثرة على الوعي، وهو ما يفرض ضرورة تنمية وعي الشباب بخطرها المتزايد

كما تطرق "ياسين" إلى الدور المحوري الذي يقوم به مركز العزيمة في توفير برامج علاجية وتأهيلية متكاملة للمتعاطين، إلى جانب أنشطة التوعية المستمرة التي ينفذها المركز

وأوصت الندوة بأهمية انخراط طلاب الجامعة في فعاليات بيت التطوع لدعم حملات التوعية المجتمعية وتعزيز المعرفة بأضرار الإدمان. وشدد على أن حماية الشباب تبدأ من تضافر الجهود بين الأسرة والمؤسسات التعليمية والمجتمع. 

مقالات مشابهة

  • هل التصوف علاج روحي يعيد للانسان كرامته الداخلية
  • دارسو علم النفس بجامعة قنا يتعرفون على تجربة شاب تعافي من الإدمان
  • يحمل رسالة أم يعبر عن مشاعر؟.. كيف تفرق بين الحلم وأضغاث الأحلام؟
  • مناوي يحذر من الرباعية و”الثعابين في الظلال الباردة” والسلام بعد الإبادة الجماعية في الفاشر
  • علماء النفس يحذرون من استخدام شات جي بي تي 5.. لماذا؟
  • سلاح من زمن الحرب… كيف كشفت الأدلة استخدام جورجيا مادة كاميت السامة ضد المتظاهرين؟
  • حكم الدعاء على النفس بالموت.. أمين الإفتاء: تمني الوفاة منهيّ عنه شرعا
  • هل يجوز الدعاء على النفس بالموت؟.. أمين الفتوى يوضح
  • احذر شموع عيد الميلاد.. تدابير مهمة للوقاية من حرائق المنزل
  • لماذا نشعر بالرضا عند فعل الخير؟ ولماذا يزداد العطاء في الأعياد؟