الفيدرالية والنظام الرئاسي: طريق السودان نحو دولة العدالة والاستقرار

محمد تورشين

 

يشكّل موضوع شكل الدولة ونظام الحكم أحد أهم ركائز بناء السودان الجديد، خاصةً في ظل تراكم الأزمات التاريخية الناتجة عن التهميش وعدم التوازن في توزيع السلطة والثروة. فقد أثبتت العقود الماضية، منذ الاستقلال وحتى اليوم، فشل النمط المركزي في إدارة الدولة السودانية، حيث استأثر المركز، وتحديدًا العاصمة، بكافة الصلاحيات والموارد، في مقابل تهميش واسع للأقاليم، مما فاقم مشاعر الظلم، وأدى إلى اندلاع حروب أهلية طويلة، كانت كلفتها باهظة على الدولة والمجتمع.

لذلك، فإن الانتقال إلى شكل فيدرالي للحكم ونظام رئاسي قوي ومنتخب يُعدّ ضرورة استراتيجية وليس مجرد خيار سياسي، بل هو مدخل لتجاوز الانقسامات، وتحقيق التوازن، وبناء دولة المواطنة.

الفيدرالية ليست غريبة على التجربة السودانية من حيث الفكرة، لكنها لم تجد طريقها للتطبيق الجاد. وفي بلد يتميّز بتنوع إثني وثقافي وديني كبير مثل السودان، تُعد الفيدرالية الوسيلة الأمثل لتسوية العلاقة بين المركز والأقاليم بطريقة تضمن الاعتراف بالتنوع، وتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بنفسها، بعيدًا عن هيمنة المركز. وهذا الشكل من الحكم لا يُضعف الدولة، كما يروّج البعض، بل يقوّيها من خلال توزيع الصلاحيات والموارد، بما يجعل المواطن في أي بقعة من البلاد شريكًا حقيقيًا في القرار والتنمية.

وفي هذا السياق، يمكن اقتراح تقسيم السودان إلى تسعة أقاليم فيدرالية، يراعى فيها الخصوصية الجغرافية والثقافية لكل منطقة، كما يهدف إلى إعادة التوازن بين المركز والهامش، من دون الإخلال بوحدة البلاد. ويبدأ هذا التقسيم بـ”إقليم العاصمة الخرطوم”، كوحدة خاصة تتمتع بوضع اتحادي رمزي وإداري، نظرًا لكونها مركز الدولة. ثم يأتي “الإقليم الشمالي” ويضم ولايتي الشمالية ونهر النيل، وهما منطقتان مترابطتان جغرافيًا وتاريخيًا. أما “الإقليم الشرقي” فيتكوّن من ولايات القضارف وكسلا وولاية البحر الأحمر، وهي منطقة استراتيجية تطل على البحر الأحمر، وتُمثل نقطة ربط بين السودان والقرن الإفريقي. ويضم “الإقليم الأوسط” ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض، وهما من أكثر المناطق الزراعية كثافة سكانية وإنتاجًا. أما “إقليم النيل الأزرق”، فيجمع بين ولاية النيل الأزرق وأجزاء من ولاية سنار، بما يعكس خصوصيته الثقافية. ويُقترح كذلك “إقليم كردفان” بمكوناته الحالية دون تقسيم داخلي، لتسهيل الإدارة وتجاوز التوترات المناطقية بين شمال وغرب كردفان. أما “إقليم جبال النوبة”، فيتمتع بخصوصية ثقافية وتاريخية واضحة ضمن نطاق جنوب كردفان السابق. وفي دارفور، يُقسّم الإقليم إلى “إقليم شمال دارفور”، ويشمل شمال وغرب دارفور وأجزاء من وسطها، و”إقليم جنوب دارفور”، ويضم جنوب دارفور وشرق دارفور، مراعاة للتوزيع السكاني ومسارات التنمية.

هذا التقسيم المقترح ليس مجرد إعادة ترسيم جغرافي، بل هو محاولة لإنصاف الأقاليم التي عانت طويلًا من التهميش، ويؤسس لنمط جديد في العلاقة بين المواطن والدولة. فحين يشعر سكان الأقاليم أن لديهم صلاحيات حقيقية لإدارة مواردهم وخدماتهم، يصبح ولاؤهم للدولة أكبر، وثقتهم في النظام السياسي أعمق، وتنخفض فرص التمرد والانفصال. كما أن الفيدرالية تمكّن من التخطيط التنموي المحلي، وتُقلل من التكدس الإداري في المركز، وتفتح الباب أمام الشراكة السياسية المتوازنة، بدل الصراع حول السلطة والثروة.

وفي السياق نفسه، فإن نظام الحكم الرئاسي يُعد الأنسب للسودان في المرحلة الراهنة، لعدة أسباب. أولها أن النظام البرلماني، كما ثبت عمليًا، يُكرّس الشكل المركزي للدولة، إذ تظل الحكومة قائمة على دعم الأغلبية البرلمانية التي غالبًا ما تُدار من المركز، ما يُضعف تمثيل الأطراف، ويُقلل من استقرار السلطة التنفيذية. وثانيًا، فإن التجربة السودانية مع النظام البرلماني، خصوصًا في فترات ما بعد الاستقلال، أثبتت عجزه عن تقديم حكومة قوية ومستقرة، بل أسهم في خلق أزمات سياسية متكررة، انتهت بانقلابات عسكرية متتالية. فقد ظلت الحكومات البرلمانية ضعيفة، سريعة التغير، غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة، مما عمّق أزمة الثقة بين الشعب والسلطة.

أما النظام الرئاسي، فبتصميمه القائم على انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، فإنه يُعطي للرئيس شرعية واضحة، ويجعل مسؤوليته أمام المواطنين لا أمام البرلمان فقط. وهذا من شأنه أن يُعزز من وضوح القرار السياسي، ويُقلل من تقلبات السلطة، ويُسهم في الاستقرار التنفيذي الضروري لدولة مثل السودان تمر بفترات انتقال حرجة. كما أن النظام الرئاسي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، مما يُمكن من بناء مؤسسات مستقلة وقادرة على الرقابة، إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك. والرئيس، في هذا النظام، لا يُعد حاكمًا مطلقًا، بل هو ملتزم بالدستور، وتخضع قراراته لرقابة القضاء والمجتمع المدني والإعلام، وهو ما يحول دون عودة الشمولية التي عانى منها السودان طويلًا.

الجمع بين النظام الفيدرالي والنظام الرئاسي يُمثل صيغة متوازنة لبناء دولة حديثة قائمة على الشفافية والمحاسبة والتوزيع العادل للسلطة. لكن نجاح هذه الصيغة مرهون بجملة من الشروط، أولها وجود دستور دائم تُشارك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية، ويُكرّس الحقوق والواجبات، ويُحدد صلاحيات المركز والأقاليم بشكل دقيق، بما يمنع التداخل والصراعات المؤسسية. كما أن هذه التحولات تستدعي إصلاحًا عميقًا في مؤسسات الدولة، وتغييرًا في الثقافة السياسية من عقلية السيطرة إلى عقلية الشراكة. لا يكفي الإعلان عن الفيدرالية أو النظام الرئاسي نظريًا، بل يجب أن يُترجما في قوانين وممارسات ومؤسسات تعبّر عن روح الدولة الجديدة.

إن السودان بحاجة إلى رؤية جديدة تُنهي عهود المركزية، وتُبني على دروس الفشل، وتفتح المجال أمام عهد من الشفافية، والمواطنة، والتنوع المتساوي. فالفيدرالية ليست تهديدًا للوحدة، بل هي صمام أمان لها، والنظام الرئاسي ليس حكمًا فرديًا إذا اقترن بالمؤسسات، بل هو استقرار وتنفيذ واضح للإرادة الشعبية. وبين هذين الخيارين، يمكن للسودان أن يُؤسس دولة حديثة تستجيب لطموحات شعبه، وتُغلق باب الحروب إلى غير رجعة.

محمد تورشين

باحث وكاتب في الشؤون الأفريقية

 

الوسومالاستقرار الفيدرالية النظام الرئاسي طريق السودان محمد تورشين نحو دولة العدالة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاستقرار الفيدرالية النظام الرئاسي طريق السودان

إقرأ أيضاً:

المؤبد لـ 24 شخص .. ضربة موجع لتنظيم الإخوان الإرهابي في الإمارات || تفاصيل

أصدرت الدائرة الجزائية بالمحكمة الاتحادية العليا في الإمارات حكما بإدانة أربعة وعشرين متهمًا، في القضية المعروفة إعلامياً بقضية تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي، وبمعاقبتهم بالسجن المؤبد عن جرائم التعاون مع تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي، وإمداد تنظيم دعوة الإصلاح الإرهابي بالمال، وبمصادرة الأموال والأشياء المضبوطة في الجريمتين.


وكان النائب العام المستشار الدكتور حمد سيف الشامسي قد طعن بالنقض –جزئيًا – على الحكم الصادر من المحكمة الاستئنافية في شقه القاضي «بانقضاء الدعوى الجزائية بالنسبة لهؤلاء المتهمين عن جرائم التعاون مع تنظيم» العدالة والكرامة الإرهابي«، وإمداد تنظيم»دعوة الإصلاح الإرهابي «بالمال، لسابق محاكمتهم في القضية رقم 79 لسنة 2012 جزاء أمن الدولة.


جدير بالذكر أن دائرة أمن الدولة بمحكمة أبوظبي الاتحادية الاستئنافية كانت قد أدانت في القضية رقم 87 لسنة 2023 المعروفة إعلامياً بـقضية «تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي»، ثلاثة وخمسين متهمًا من قيادات وأعضاء تنظيم الإخوان الإرهابي، إلى جانب ست شركات، وقضت عليهم بعقوبات تراوحت بين السجن المؤبد والمؤقت والغرامة التي بلغت عشرين مليون درهم، مع تبرئة متهم واحد.

وبحسب وسائل إعلام إماراتية ، فإنه وبناء على الحكم الصادر عن دائرة أمن الدولة بالمحكمة الاتحادية العليا، يرتفع عدد المدانين في هذه القضية إلى ثلاثة وثمانين متهمًا من أصل أربعة وثمانين أحيلوا إلى المحاكمة.

الإمارات تشكر أمير قطر على دوره في اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران ودولة الاحتلالإعادة فتح المجال الجوي في الكويت والبحرين والإماراتالإمارات: الاستهداف الإيراني لقطر انتهاك صارخ ومخالف للقانون الدولي طباعة شارك الإمارات المحكمة الاتحادية العليا تنظيم العدالة والكرامة الإرهابي تنظيم الإخوان الإرهابي محكمة أبوظبي الاتحادية الاستئنافية

مقالات مشابهة

  • الإمارات تدين بشدة الاعتداء على بعثة للأمم المتحدة في أفريقيا الوسطى
  • الإمارات تدين بشدة الاعتداء على بعثة للأمم المتحدة في إفريقيا الوسطى
  • الولايات المتحدة: ملتزمون بدعم السلام في السودان و ليبيا و منطقة الساحل
  • رئيس الدولة والرئيس العراقي يبحثان هاتفياً علاقات البلدين والتطورات الإقليمية
  • المؤبد لـ 24 شخص .. ضربة موجع لتنظيم الإخوان الإرهابي في الإمارات || تفاصيل
  • الأمم المتحدة تجدد التزامها بدعم ضحايا التعذيب بسوريا في ظل النظام البائد
  • تصريحات حميدتي .. مثال للسذاجة السياسية
  • أكد لأمير قطر الوقوف مع الدوحة لحماية أمنها.. ولي العهد للرئيس الإيراني: ندعم الحوار الدبلوماسي لحل الخلافات
  • وزير الخارجية المصري يبحث مع كبير مستشاري ترامب تطورات الأوضاع ب ليبيا و السودان و منطقة البحيرات العظمى