د. سالم بن عبدالله العامري
في تاريخ الأمة الإسلامية لحظات فارقة، تنكسر فيها القلوب من هول المصاب، حتى يخال الناس أن النصر قد ابتعد، وأن الهزيمة باتت قدرًا لا يُرد. لكنّ عناية الله تأتي في اللحظة التي يظن فيها كثير من الناس أن زمن النصر قد ولّى.
ومن بين تلك اللحظات التاريخية، تبرز غزوة مؤتة، التي وقعت في العام الثامن للهجرة، حين بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشًا صغيرًا لمواجهة قوة عظيمة من جيوش الروم والعرب المتحالفة، وكان عدد المسلمين آنذاك لا يتجاوز الثلاثة آلاف، بينما تقدّر بعض الروايات أن جيش العدو بلغ مئة ألف أو أكثر.
بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، واجه قطاع غزة واحدة من أعنف وأشرس الحملات العسكرية في تاريخه الحديث: قصف متواصل، وحصار خانق، وآلاف الشهداء والجرحى، ودمار هائل، وانقطاع لكل سبل الحياة. بدا المشهد، في أعين كثيرين، كما لو أن غزة قد انكسرت. لكن، كما في مؤتة، ظل الناس في غزة ثابتين، واستمرت المقاومة صامدة، رغم كل محاولات الاجتياح والقصف والإبادة. ورغم فقدان القادة، والبيوت، والأبناء، استمرت الأرواح المؤمنة تتشبث باليقين بأن "النصر صبر ساعة"، كما قالها عبدالله بن رواحة -رضي الله عنه- وهو يركض نحو الشهادة في مؤتة.
ليس الهدف من هذا التشبيه مقارنة التاريخ بالمقارنة الصارمة؛ فلكل حدث سياقه وظروفه. إنما المغزى أن ثمة موازين أزلية للنصر قائمة على عدّة عوامل: الثبات، والقيادة، والإيمان. وأن سُنن الله في النصر والتمكين واحدة، تتكرر في وجوه مختلفة عبر الزمن: في مؤتة، ظن الناس الهلاك، فجاءت النجاة. وفي غزة، ظن الأعداء أن الأرض ستنتهي، فبقيت المقاومة إلى اليوم بعد مئات الأيام من الحرب. وكما استشهد خيرة القادة في مؤتة، واستمر الطريق، استشهد قادة كبار في غزة، لكن الراية لم تسقط؛ بل تعاقب عليها رجالٌ، يعرفون تمامًا ما معنى أن تعيش مرفوع الرأس أو تموت في سبيل الحق.
من مؤتة إلى غزة، يمتد النبض الجهادي المتوارث المُعبَّق بالدماء والشهادة والثبات، ليرسم للأجيال دربًا لا تقطعه الجراح ولا تطفئه المحن. كلا المَشهدين -رغم اختلاف العصور والظروف- يُجسِّدان حقيقة خالدة: أن الانتكاسات الظاهرة ليست إلا محطات في طريق النصر، وأن الانكسار لحظة مؤقتة تسبق استعادة الكرامة، إذا ما كان خلفها رجال ونساء يؤمنون بأن الحق لا يضيع ما دام خلفه أصحاب عزيمة.
غزوة مؤتة لم تكن نصرًا عسكريًا بالمعايير الظاهرة، لكنها كانت انتصارًا للثبات والبصيرة في زمن الفجائع. وغزة اليوم، بما تحمله من صمود أسطوري رغم تكالب الأمم، تُعيد إلى الذاكرة مشهد الرجال الذين تقدموا للموت وهم يرون فيه حياة للأمة.
إنَّ التشابه ليس في الشكل، بل في الجوهر: في إيمانٍ لا يتزعزع، وصبرٍ لا ينفد، ويقينٍ بأنّ نصر الله آتٍ مهما طال الانتظار. وإذا كانت مؤتة قد أنجبت "سيف الله المسلول"، فإن غزة تنجب كل يوم سيوفًا من نار وصبر، تخطّ على الجدران وبين الأنقاض آيات العز والبقاء.
وهكذا، تتجدد سنن الله في خلقه: تُمتحَن الأمة، فتثبت، ويُظَن بها الضعف، فتقوى، وتُكسر أطرافها، فتنتفض، ليُقال بعدها كما قيل في مؤتة: "أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله عليه". وما زال الفتح آتيًا، طالما في الأمة من يحمل الراية في قلب العاصفة، بثبات لا يعرف الانحناء.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس إني كنت من الظالمين.. تعرف عليه
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (ما معنى الظلم في دعاء سيدنا ذي النون يونس عليه السلام حينما قال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؟ وهل هذا الدعاء له فضل؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن معنى الظلم في دعاء سيدنا يونس عليه السلام، محمول على معان تليق بمقام النبوة العظيم.
وأوضحت أن من هذه المعاني: أنه حمَّل نفسه أكثر مما تطيق، أو أنه تصرف بغير إذن ربه، أو أنه تَرَكَ الأولى والأفضل، أو أنه من جملة تسبيح الله سبحانه وتعالى وذكره له، وهذا الذكر من جملة الدعاء المستجاب الذي له فضلٌ عظيمٌ؛ فمن دعا به طالبًا النجاة من شيءٍ نجاه الله تعالى.
وأشارت دار الإفتاء إلى أنه لا يصح أن يُفهم أنه من معاني الظلم المذمومة، فالأنبياء معصومون عن الذنوب كبائرها وصغائرها.
وقد ورد في السنة النبوية الحثُّ على هذا الدعاء والتضرع به إلى الله تعالى، وبيان فضله العظيم؛ فمن دعا الله تعالى به نال الإجابة كما نالها يونس عليه السلام.
فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ:لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» رواه الترمذي في "سننه"، وأحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه على الصحيحين".