أحمد الأشعل يكتب: مشاهير التيك توك.. صناعة الوهم وتغيير الملامح الاجتماعية
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
منذ فجر التاريخ، كانت القيم العربية، والمصرية على وجه الخصوص، هي الدرع الذي حمى المجتمع من التفكك والانهيار أمام أي رياح غريبة. فقد عُرفت مصر بأصالتها، وكانت الأسرة المصرية نسيجًا متماسكًا يقوم على الاحترام المتبادل بين الكبير والصغير، وعلى تربية الأجيال على الأخلاق والعمل الجاد، لا على المظاهر الزائفة.
في تلك الأيام، كان الابن يرى أباه قدوة في الجد والاجتهاد، وأمه مثالًا في التضحية والعطاء، وكانت الأجيال الجديدة تتعلم بالمشاهدة، قبل الكلمة. العادات المصرية كانت واضحة الملامح: الاحترام للجار، المروءة في المواقف، الكلمة الصادقة، الحياء في القول والفعل، صلة الرحم، والمشاركة في الأفراح والأتراح بروح واحدة. كان البيت المصري مصدرًا للقيم، وحاضنة للهوية، وكان المجتمع يفتخر بالسمعة الطيبة أكثر مما يفتخر بالممتلكات أو المظاهر.
لكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تغيرت ملامح المشهد الاجتماعي بسرعة مذهلة. ومع ظهور منصات التواصل الاجتماعي، وبالأخص تطبيق “تيك توك”، دخلت إلى بيوتنا ثقافة مختلفة، تسللت عبر الشاشات الصغيرة، حتى أصبحت تنافس، بل أحيانًا تتفوق، على دور البيت والمدرسة في تشكيل وعي الأجيال. فئة جديدة تُعرف بـ”مشاهير التيك توك” صعدت إلى الواجهة، لا بما قدموه من علم أو فن راقٍ، بل بما أثاروه من جدل أو صدمة أو محتوى خفيف وسريع، يخاطب الغرائز قبل العقول.
هؤلاء المشاهير، في كثير من الأحيان، لا يسعون إلا لزيادة أعداد المتابعين والإعجابات، حتى ولو كان ذلك على حساب الأخلاق والعادات. نرى مقاطع الرقص، والتقليعات الغريبة، واللغة الخارجة، وهي تنتشر بين الشباب والمراهقين بسرعة البرق، لتصبح جزءًا من قاموسهم اليومي، وسلوكهم في الشارع والمدرسة والجامعة. لم يعد الأمر مجرد ترفيه عابر، بل تحول إلى تيار جارف يعيد تشكيل ملامح المجتمع، ويغير مفهوم القدوة.
الشهرة السريعة التي يمنحها تيك توك لأي شخص، مهما كان محتواه فارغًا، أغرت الكثير من الشباب بالبحث عن طريق مختصر نحو المال والشهرة، بدلًا من الكفاح في ميادين العلم والعمل. وهنا يكمن الخطر الأكبر؛ إذ يتراجع النموذج المثالي من العلماء والمفكرين والأطباء والمهندسين، ليحل محله المؤثر الذي يكسر القواعد ويثير الجدل من أجل “الترند”.
هذا التحول لا يهدد فقط الذوق العام، بل يضرب عمق القيم الاجتماعية. فالبيت المصري الذي كان يحافظ على تماسكه من خلال جلساته وأحاديثه، صار يعاني من الصمت أمام شاشات الهواتف، حيث يجلس كل فرد في عزلة افتراضية داخل نفس الجدران. الحكايات التي كانت تروى عن البطولة والشرف تحل محلها تحديات تافهة وتقليعات فارغة. وصلة الرحم التي كانت واجبًا، أصبحت مكالمات عابرة على الإنترنت، وقد تختفي تمامًا أمام انشغال الأجيال الجديدة بمحتوى لا يعكس شيئًا من تراثهم وهويتهم.
ومع هذا التغيير، بدأنا نشهد اتساع الفجوة بين الأجيال، حيث يشعر الآباء أن أبناءهم يعيشون في عالم آخر لا يفهمونه، بينما يرى الأبناء أن قيم آبائهم “قديمة” أو “غير عملية”، لأن المشاهير الذين يتابعونهم على المنصات لا يتحدثون عن الأخلاق أو الجهد أو الانتماء، بل عن الموضة والظهور واللايكات. هذه الفجوة إذا استمرت، فإنها ستؤدي إلى فقدان الرابط الذي يوحّد المجتمع، وتحوله إلى جزر معزولة من الأفراد، كل منهم يعيش في عالمه الخاص.
لقد واجهت الأمة العربية، والمصرية خاصة، عبر تاريخها الطويل، أنواعًا كثيرة من الغزو: غزو عسكري، وغزو سياسي، وغزو فكري. وفي كل مرة، كان السلاح الحقيقي هو التمسك بالهوية والقيم الأصيلة. اليوم نحن أمام غزو من نوع جديد، غزو ناعم لا تراه العين لأول وهلة، لكنه يتسلل إلى العقول والقلوب، ويعيد صياغة الذوق العام والسلوك الفردي والجماعي.
إن مواجهة هذه الموجة لا تكون بالمنع وحده، بل بصناعة البدائل. علينا أن ندعم المحتوى الهادف على هذه المنصات، وأن نشجع المؤثرين الذين يحملون رسائل إيجابية، وأن نعيد للأجيال الجديدة ثقتها بأن القيم العربية والمصرية ليست ماضٍ انتهى، بل هي أساس الحاضر وضمان المستقبل. كما يجب أن تتحمل الأسرة دورها من جديد، فتعود جلسات البيت للدفء القديم، وتعود الحكايات والقيم لتتصدر حديث المساء، بدلًا من أن نترك الأبناء أسرى لشاشات بلا رقابة.
إن مواجهة طوفان التيك توك ومشاهيره لم تعد خيارًا ترفيهيًا أو نقاشًا جانبيًا، بل صارت معركة وعي وحفاظ على هوية أمة. فإما أن نعيد بوصلتنا نحو القيم التي صانت مجتمعنا لعقود، أو نترك الأجيال القادمة فريسة لوهم الشهرة الزائف حتى تضيع ملامحنا ونصبح غرباء في أوطاننا. إنها لحظة حاسمة: إما أن نصنع جيلًا يبني، أو جيلًا يرقص على أطلاله.
وفي هذا السياق، لا يسعنا إلا أن نوجّه كل التقدير والشكر لرجال وزارة الداخلية الذين يقفون في الصفوف الأمامية، ليس فقط في مواجهة الجريمة والانحرافات التقليدية، بل أيضًا في التصدي للممارسات التي تمس قيم المجتمع أو تحاول هدم بنيانه الأخلاقي. إن جهودهم في ضبط التجاوزات على المنصات الرقمية، وحماية شبابنا من المحتوى الهابط، هي امتداد لدورهم التاريخي في حماية أمن الوطن وصون هويته. فكما حفظوا حدودنا من أي اعتداء، ها هم اليوم يحفظون عقول أجيالنا من الغزو الفكري والانحراف الأخلاقي.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الأسرة المصرية أغاني التراث الحكايات الشعبية الأجيال الجديدة تيك توك
إقرأ أيضاً:
إسحق أحمد فضل الله يكتب: (استيقظوا)
في زمان ما يفعله العالم الصليبي بأطفال غزة، قالوا: دخلت على صلاح الدين الأيوبي امرأة ترتدي خيوطاً مما كان قميصاً… وكانت المرأة شيئاً يشبه شجرة شوكية جافة، سيقانها مغطاة بالجروح والدمامل، والدمامل مغطاة بالتراب والعرق والجوع والشمس والمرض. وشعرها مثل أغصان شوكية جافة، وفمها متشقق وجفونها متورمة.
كانت المرأة ترتجف من الحمى والجوع والحزن والتعب، والموت يفوح منها. كانت تلهث، ولما أرادت أن تتحدث لم يخرج منها صوت… وظل فمها يتلوى لينطق، وما سمعه الحضور كان حشرجة… ومثل خيط الدخان تتلوى الحشرجة وتصبح كلمة، ثم كلمة تُفهم، ثم…
قالت: يا صلاح الدين… يا سلطان المسلمين… يا صلاح الدين… يا سلطان المسلمين…
كان يبدو أنها قالت هذا لنفسها آلاف المرات، وأن ما تريد أن تقوله يزدحم في نفسها ويخنق بعضه بعضاً من اللهفة والخوف والعقل المترنح.
قالت: يا صلاح الدين… يا سلطان المسلمين… أنا لا أفهم في كل هذا القتال… كل هذا الحديد والصراخ والدماء… كل هذا الـ… الـ… ولكن ما عندي هو أنني أم، وأن جنودك أخذوا طفلي مني.
يا صلاح الدين، يا سلطان المسلمين… لما صرخت، لما جننت، لما عضضت الصخر… لما عضضت عظامي… قال لي الناس: اذهبي إلى صلاح الدين سلطان المسلمين، وهو سوف يرد عليكِ طفلك… يا صلاح الدين.
وجئت أمشي… مشيت في البلاد، في الخلاء، في الشوك، في المطر، في الجوع… وأنا أسأل الأشجار وسراب الصحراء: أين ألقى صلاح الدين؟
يا صلاح الدين، جئت أمشي الأيام والليالي… قطعت أشجاراً، أشجاراً، أشجاراً… فأنا أم تبحث عن ولدها. قطعت رمالاً، تلالاً، تلالاً… فأنا أم تبحث عن ولدها. أكلت الأرض أقدامي… الأحجار، الشوك، الدروب أكلت أقدامي… وأنا أم تبحث عن ولدها. حتى وصلت إليك… يا صلاح الدين، يا سلطان المسلمين… رد عليَّ ولدي…
للحظات كان كل أحدٍ في المجلس يسمع تنفُّس الآخرين من حوله.
……وصلاح الدين يُطلق أوامره لجميع الجنود:
“كل جندي عنده طفل من الأسرى عليه أن يأتي به”.
ووقف صف طويل من الجنود، وأطفال أسرى أمامهم.
والمرأة التي تنتفض من الحمى لم تَمْشِ أمام الصف…
المرأة – وفي لمحة خاطفة وصرخة مثل ضربة البرق – تجمد، ثم تجري وتسقط وتنهض وتجري إلى مكانٍ في منتصف الصف… وطفل هناك يقفز إليها وهو يصرخ:
“أمِّي… ييييي!”
……
والدرديري – أمس الأول – يكتب عن كيف أن كتابات العالم اليوم تتفق على أنه لم يبقَ إلا القوة والأنياب.
والحكاية التي يستعيدها: أننا حين نصرخ ونغضب لما يفعله العالم بأطفال غزة، فإننا بهذا لا نصنع شيئاً أكثر من كشف جهلنا بالعالم اليوم.
كل مدينة في العالم الإسلامي هي “غزة” القادمة… ما لم نعرف أن العالم اليوم لا يبقى فيه إلا من يقتل، حتى لا يُقتل.
وحرب إعلامية قادمة…
والبندر يكشف كيف أن الشيوعي ظل غواصة الإمارات ومكتب مخابراتها في السودان.
وثورة 86… واليسار يسلّم ملفات مخابراتنا لإثيوبيا.
وأيام “قحت”… و”قحت” تسلّم ملفات مخابراتنا لبريطانيا.
وأيام الصادق…
بينما مخابراتنا تقاتل حتى بعد الموت.
ففي مكاتب مخابرات كسلا نجد صورة ضابط المخابرات الذي استشهد في معركة هناك.
والضابط هذا – حين حُوصر وعرف أنه سيُقتل – كان ما يهمه هو أنه كان يحمل بطاقة شفرة الاتصالات، وأنها إن سقطت في يد العدو اخترق الجيش.
والضابط، الذي يعرف طبع زملائه، يستخدم هذا الطبع لإيصال الشفرة إليهم بعد موته.
الشاب يُلصق البطاقة في جسده بحيث لا يجدها إلا من يقوم بغسله وتكفينه.
وهذا ما حدث.
نحن لا نسقط أبداً.
إسحق أحمد فضل الله
إنضم لقناة النيلين على واتساب