إن كل تقييم منصف وقراءة موضوعية سيصل إلى أن الحرب التي تجري حاليا في السودان في عامها الثالث هي نتيجة طبيعية لفشل القوى المنوط بها قيادة الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط النظام السابق في 2019.
ففضلا عن التصريحات المباشرة التي صدرت من عدد من قيادات تحالف الحرية والتغيير صراحة بمضمون: "إما التوقيع على الاتفاق الإطاري أو الحرب"، هناك عديد الشواهد الشاخصة التي تؤكد هذه الحقيقة.
لقد كانت الفترة الانتقالية التي تم التواثق عليها في الوثيقة الدستورية بين المنظومة العسكرية وقوى الحرية والتغيير فرصة كبيرة لقيادة البلد نحو استقرار يؤدي إلى المواصلة في مشروع بناء الدولة الوطنية الذي ظل متعثرا طوال فترات الحكم الوطني.
ولكن كان واضحا لكل ذي لب سليم أن الطريقة التي تتصرف بها قوى الحرية والتغيير- من ازدراء للقانون وإهدار للحقوق الدستورية، وسعي محموم لتفكيك الجيش الوطني، وتمكين مليشيا الدعم السريع، مع تشبث بالسلطة مهما كانت الأثمان- ستنتهي إلى هذه النتيجة.
وللإجابة عن سؤال هذا المقال، وهو: لماذا فشل الانتقال الديمقراطي في السودان؟ نحتاج أن نعترف ابتداء بأن الذي جرى ويجري في السودان ليس معزولا عن مجمل المشروع الدولي والإقليمي الذي جرى تنفيذه في ليبيا، واليمن، وسوريا.
وسنعود لهذا العامل الخارجي المهم، والذي ساهم في خروج عجلة التغيير عن مسارها الصحيح لتنزلق في متاهات العنف والحرب المدمرة.
ولكنّ واحدا من الأسباب الجوهرية التي أدت إلى فشل مشروع التحول الديمقراطي في السودان، وفي غيره من بلدان ما سُمي بالربيع العربي، هو عدم الوعي الكافي بطبيعة الحراك الذي أدى، ضمن عوامل أخرى، إلى سقوط الأنظمة القديمة.
فقد بالغت القوى التي قادت الاحتجاجات في تعظيم الذات، ورفع سقف منجزها؛ توهما بأن الذي جرى هو ثورة حقيقية تضاهي الثورة الفرنسية، إن لم تتفوق عليها.
إعلانفقد شاع في الأيام الأولى للتغيير في السودان أن "ثورة ديسمبر/ كانون الأول المجيدة هي العظمى في تاريخ البشرية". هذه القراءة الخاطئة، والتقييم الرغائبي، قادا إلى نتائج كارثية، أهمها توقف العقل عن التفكير في الذي يجب فعله بعد النجاح في إسقاط الحكومة السابقة، لأن مجرد قيام الثورة لا يعني بلوغ النجاح.
ذلك هو المأزق الذي حذر منه كانط إذ يقول: "عن طريق الثورة يمكن أن نسقط استبدادا فرديا أو أن نضع حدا لاضطهاد يقوم على التعطش للنفوذ والثروة، ولكنا لن نبلغ بها إصلاحا حقيقيا لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكام مسبقة جديدة على غرار الأحكام القديمة لتشد إلى حبالها السواد الأعظم المفتقر إلى الفكر".
والإصلاح كفعل متدرج هو ما افتقدته كل القوى التي ورثت الأنظمة القديمة، وبدلا من ذلك مضت قوى الحرية والتغيير تحت نشوة الانتصار الزائف تضخم من إنجازاتها الصغيرة، وتأكل من رصيد الثقة الذي وفره لها الشارع السوداني.
السبب الثاني الذي أدى بنا إلى هذه الحرب اللعينة هو القصور البنيوي فكريا وسياسيا عند جماعة الحرية والتغيير، فالشاهد أن هذه القوى لم تكن تمتلك أي مشروع وطني للفترة الانتقالية إلا مشروع حيازة السلطة والاحتفاظ بها، كما قال عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان: "نحنا عاوزين السلطة وسنقاتلكم حتى نبعدكم منها"، وذلك دون أدنى شعور بالحرج الأخلاقي لمن يفترض فيهم أنهم سلطة انتقالية مهمتها قيادة البلد نحو التحول الديمقراطي.
غير أن المأزق الأكبر من ذلك هو انشغال التحالف بمعارك انصرافية استنزفت طاقته المحدودة في التفكير، فخاض معركة مع القوات المسلحة التي يُفترض أنها شريكته الأقوى في اقتسام السلطة، ثم تصدع بنيان التحالف حين تفاقم الخلاف بينه وبين شركائه في حركات دارفور التي التحقت بالسلطة بعد التوقيع على اتفاق جوبا.
وصار حلفاء الأمس أعداء يتبادلون الاتهامات في الهواء الطلق، ويسعى بعضهم لإضعاف الآخر، فوقعوا في المحظور الذي حذر منه الترابي حين كان في تحالف قوى الإجماع الوطني الساعي حينها لإسقاط الإنقاذ:
"وهذه سنة بلاد التحولات والثورات كلها، تتحير شيئا ما عند التجاوز من التبشير إلى مرحلة التطبيق، يتمادى الثوار -خاصة بروح الصراع- فور ما يفاجئهم الانتقال، فيُصوبون المشارسة المنقولة من عهد الثورة إلى أنفسهم، إذ يهلك العدو المستهدف، فينقلب بعضهم يهدف بعضا".
السبب الثالث والرئيس في خروج مسار الانتقال عن مساره الصحيح هو عدم امتلاك الحكمة الكافية للتعامل مع الإرث القديم، وعدم تقدير حجم التأثير الذي يمكن أن تُحدثه القوى القديمة سلبا أو إيجابا.
لقد اندفعت قوى الحرية والتغيير، تقودها روح انتقامية، إلى التشفي من رموز النظام القديم، وأعلنت على لسان قادتها أن شعارها تجاه كل العناصر القديمة، هو: (سيصرخون)، وذلك ردا على مبادرة البروفيسور إبراهيم غندور، رئيس المؤتمر الوطني، بأن حزبه سيكون (معارضة مساندة) للفترة الانتقالية.
أما السبب الرابع، فهو التدخلات الخارجية التي أفسدت مسار الانتقال وعمقت الانقسامات بين المكونات الوطنية، وعملت على استقطاب بعض الأطراف لتنفيذ أجندة لا علاقة لها بالمصالح الوطنية ولا تدعم التحول الديمقراطي.
إعلانوقد نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، صاحبة التأثير الكبير في سياسة الولايات المتحدة، أكثر من مقال وتحقيق تُحمّل الولايات المتحدة ما أسمته: (إحباط الآمال الديمقراطية في السودان).
تعقيدات السودانإذا كانت تلك الأسباب تُعتبر عوامل مشتركة في البلدان العربية الشبيهة بالسودان من حيث وضع الانتقال من نظام حكم إلى آخر، فإن الوضع في السودان يفوقها جميعا من حيث التعقيد وحجم التحديات.
فقد كانت هشاشة الدولة تحتاج إلى عقلية وطنية تتعامل مع تلك التعقيدات بحكمة، تعمل على تغليب المصلحة الوطنية التي تبحث عن المشتركات، وفي نفس الوقت تتعامل مع كل ما تراه من انتهاك سابق بنصوص القوانين وروحها.
لكن، وللأسف، كانت تلك القوى الصغيرة المعزولة عن التأثير الجماهيري تبحث عما يشفي غليلها، وليس جراح الوطن، فلم تعمد إلى بناء الأجهزة العدلية الواردة في وثيقتها الدستورية كمجلس القضاء العالي ومجلس النيابة، وعملت على تغييب المحكمة الدستورية حتى لا تراجع إجراءاتها المتعسفة والمجانبة للقانون، من اعتقالات عشوائية، ومصادرات خارج القوانين، وفصل لآلاف الموظفين من عملهم دون وجه حق.
ولم تنتبه تلك القوى إلى الاستحقاقات الكبرى والتحديات العظام، ومنها كيفية التعامل مع الحركات المسلحة التي التحقت بالحكومة، ويُفترض أنها تتحالف معها في كيان واحد.
وكان التحدي الأبرز هو انتقال هذه الحركات بجنودها إلى العاصمة الخرطوم، مما أدى إلى عسكرة العمل المدني السياسي، وتعطل بسببه مشروع إدماج جنودها في القوات المسلحة، وهو التحدي الذي سيظل يواجه السودان بعد انتهاء هذه الحرب: أي كيف تتحول هذه القوى العسكرية إلى قوى مدنية وأحزاب سياسية تعتمد على الكفاح السياسي لتثبيت مكاسبها واستحقاقاتها السلطوية؟
يُضاف إلى ذلك الخطأ الإستراتيجي بتمكين قوات الدعم السريع وتركها تتضخم تحت نظر الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية.
لقد أثبتت التجربة أن الرهان على القوى الخارجية لن يكون مفيدا في تثبيت أي قوى في السلطة، فقد كان تحالف الحرية والتغيير، الذي لا يملك امتدادا جماهيريا، يراهن بالكامل على الدعم الخارجي لإضعاف حلفائه وخصومه معا، وهو الرهان الذي حمل الدكتور عبدالله حمدوك إلى استدعاء بعثة أممية بصلاحيات واسعة تُذكر بأيام الحاكم العام في السودان إبان فترة الاستعمار البريطاني.
وبدلا من المساعدة في قيام الانتخابات والتقريب بين فرقاء الساحة السياسية، ساهمت البعثة الأممية في تمكين قوى صغيرة واستبعاد أغلبية المكونات السودانية من المشهد السياسي.
غير أن الخطوة الأخطر التي قامت بها البعثة هي زرع الشقاق بين الجيش والدعم السريع، حين حملت الأخيرة، بتأثير من تحالف الحرية والتغيير، على تبني وثيقة الاتفاق الإطاري، التي كانت القشة التي قصمت ظهر الفترة الانتقالية وأشعلت بسببها الحرب الحالية.
واليوم، وبعد مضي أكثر من عامين على اندلاع الحرب، وبينما تجاهد الحكومة السودانية لإرجاع عجلة المسار الديمقراطي إلى مسارها، لا تزال تلك القوى تقوم بنفس الأدوار التي قادت إلى الحرب، وتتمادى في تضخيم عقلية إقصاء الآخرين، وتتبنى خطابات موغلة في الكراهية والاستفزاز.
والأنكى أنها لا تريد الاعتراف بكل هذه الحقائق، على الرغم من مخاطر التقسيم التي تُخيم على سماء السودان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات قوى الحریة والتغییر فی السودان التی ت
إقرأ أيضاً:
الكرة المصرية في مفترق طرق.. والجبلاية تحتاج ثورة تصحيح
لم يكن خروج المنتخب المصري من كأس العرب الأخيرة مجرد تعثر رياضي عابر، بل جاء ليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الإخفاقات التي تضرب كرة القدم المصرية منذ سنوات، بدءا من السقوط المدوي لمنتخب الشباب في كأس العالم، وصولا إلى الأداء المرتبك والنتائج المخزيه للمنتخبات الوطنية بمختلف فئاته، وآخرها فضيحة المنتخب الثاني بقيادة حلمي طولان فى كأس العرب.
الإقصاء من كأس العرب ليس مجرد نتيجة مخيبة، بل مؤشر إضافي على أزمة شاملة تطال المنظومة بأكملها من دون استثناء، بأداء باهت، غياب استقرار فني، تراجع مستوى الدوري المحلي، وضعف في إنتاج المواهب الشابة.
وازدادت حالة الإحباط بعد المشهد المقلق الذي فرضه خروج منتخب الشباب قبل أشهر، ما فجر موجة انتقادات واسعة تجاه أداء المنتخبات الوطنية وبرامج التطوير التي باتت شبه غائبة.
فالمنافسة لم تصبح فقط مع القارة الإفريقية، بل مع كرة عربية تتطور بسرعة فائقه، ومصر لم تعد تحتمل إخفاقا جديدا، فالمشهد العام يوحي بأن الكرة المصرية تقف اليوم في مفترق طرق وسط مخاوف جماهيرية متصاعدة من تكرار الصدمات في الاستحقاق القاري المقبل “كأس الأمم الإفريقية”، في ظل حالة عدم الثقة بقدرة المنتخب الحالي على استعادة أمجاد بطولات 2006 و2008 و2010 حين كان الفراعنة رقما صعبا في القارة السمراء.
ولا يخفى على القائمين على كرة القدم أو الجماهير أن المنتخب الأول تحت قيادة حسام حسن لم يصل بعد إلى مستوى الجاهزية الفنية أو الإدارية للمنافسة على اللقب القاري.
ورغم أن النقاش العام يتركز غالبا على اللاعبين والمدربين، إلا أن جوهر الأزمة يتجاوز ذلك بكثير، فالمنظومة الرياضية لم تعد قادرة على مواكبة التطور العالمي في كرة القدم، فيما تراجع الدوري المصري بفعل اضطراب جدول المباريات فى الدوري الممتاز ودروي الدرجة الثانية، والضعف البدني الواضح، وغياب التخطيط طويل المدى.
في الوقت الذي تعاني فيه الكرة المصرية من التراجع، تعيش الكرة المغربية طفرة مبهره، سواء في كأس العالم أو تتويجات قارية متتالية لأنديتها، بجانب صعود لافت للمستوى الفني في السعودية وقطر والإمارات.
النجاح المغربي لا يعود فقط إلى وفرة المحترفين في أوروبا، بل نتيجة مشروع بدأ قبل أكثر من عشر سنوات يعتمد على بنية تحتية حديثة، وأكاديميات لرعاية الموهوبين، واستقرار فني وإداري، بينما لا تزال الكرة المصرية عالقة في دائرة الأخطاء المتكررة.
النهضة المغربية أصبحت نموذجا يحتذى به بعد أن اقترنت بالتخطيط الطويل ومحاربة الفساد، وهو ما تفتقده الرياضة المصرية التي لا تزال بحاجة إلى إصلاحات جذرية تعيدها إلى موقع الريادة.
فالأزمة باتت هيكلية بسبب التغيرات المستمر في الأجهزة الفنية، وغياب رؤية طويلة المدى، المسئول عنها اتحاد الكرة الذى يدير المشهد بشكل غير احترافي بقرارات ارتجالية تربك المنتخبات في مختلف الأعمار، بجانب عدم الاهتمام ببرامج تطوير الناشئين وتراجع إنتاج المواهب القادرة على المنافسة الدولية.
وفي ظل هذا المناخ المضطرب يصبح من الصعب بناء مشروع كروي حقيقي، بينما يزداد الضغط على المنتخبات قبل الظهور في بطولات عالمية وقاريه، لينتهي بنا المطاف بالخروج صفر اليديدن من معظم البطولات طوال السنوات الماضية.
يؤكد خبراء الإعداد البدني أن الفارق بين اللاعب المصري ونظيره الإفريقي أو العربي لم يعد مهاريا بقدر ما هو بدني، فمع توقف الأندية عن الاستثمار في برامج اللياقة الحديثة تراجع الأداء البدني للاعبين بشكل واضح، وهو ما يظهر عند مواجهة منتخبات شمال إفريقيا الأكثر جاهزية وقوة.
بينما يرى خبراء التدريب أن الأزمة الأكبر تكمن في تراجع منظومة الناشئين، إذ تعتمد أغلب الأندية الكبرى على شراء اللاعبين بدل صناعة جيل جديد، وفي وقت تبني فيه الدول العربية وعلى رأسها المغرب مراكز تكوين تضاهي الأكاديميات الأوروبية، ما زالت قطاعات الناشئين المصرية تدار بأساليب تقليدية تفتقد للرؤية.
أكبر نجاحات الكرة المصرية في تاريخها جاءت حين كان هناك مشروع واضح واتحاد مستقر وأهداف طويلة المدى، أما اليوم فالمشهد مختلف تماما: لا رؤية، ولا تخطيط، ولا استمرارية، بل قرارات متلاحقة معظمها وفقا للأهواء والانتماء، وهو ما يعمق الفوضى داخل المنتخبات والأندية.
الأزمة الحالية أعمق من مجرد خروج من بطولة، فهي نتيجة غياب مشروع حقيقي يربط بين المنتخبات والأندية، وتبني معايير واضحة للتطوير الفني والبدني والإداري، وإذا أرادت الكرة المصرية أن تستعيد موقعها الطبيعي فعليها التخلي عن الحلول المؤقتة والبدء في بناء المنظومة من القاعدة إلى القمة.