النقابة التونسية تدفع ثمن خياراتها السياسية
تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT
أعلن الطرف الحكومي المفاوض في المسألة الاجتماعية في تونس (وزارة الشؤون الاجتماعية والهجرة) تجاوزه لتقليد تفاوضي قديم يتعلق بالزيادات الدورية في الأجور، واتخذ قرارات بزياردات في مدى منظور دون إشراك الجانب النقابي في ذلك، وهو قرار يشف عن استغناء الحكومة عن كل شريك ضمن خطة الرئيس بإلغاء الوسائط السياسية والنقابية في إدارة البلاد.
يشعر النقابيون بالإحباط النفسي وبدأوا يصدرون كلاما أقرب إلى البكائيات على حال الديمقراطية في تونس، مع نبرة تهديد بالتصعيد والتخويف من الانفجار الاجتماعي. واشتغلت آلة التعاطف السياسي مع النقابة (وهي آلة تشتغل في مثل هذه المناسبات وتتلقى تعليماتها ومواقفها من داخل النقابة) بأن تونس لا يمكن إدارتها من طرف واحد، وأن البلد مهدد في وجوده إذا تم تجاهل النقابة. وهو خطاب لا ينطلي على فريق الرئيس وعلى كثير ممن يتابع الشأن التونسي ولم تنطل عليه أهمية النقابة ولا آمن بدورها؛ بناء على ما اتخذته من مواقف سياسية غير نقابية وخاصة بعد ثورة 2011.
النقابة حزب سياسي غير ديمقراطي
تتراكم أمامنا وقائع كثيرة تسمح بموقف جازم. الاتحاد العام التونسي للشغل مسمى لمؤسسة ظاهرها نقابي وباطنها حزب سياسي يهيمن عليه اليسار المتطرف، ويوظف النقابة (الحزب) طبقا لأجندته السياسية، وليس لهذا اليسار من أجندة إلا الاستئصال الماحق للمكون السياسي الإسلامي في الساحة السياسية.
اشتغلت النقابة زمن بن علي كرديف لحزب التجمع وشاركت في مجزرة الإسلاميين بالتبرير لابن علي، بما في ذلك سياسات التفويت في مؤسسات القطاع العام بالبيع والخوصصة. لقد كان ابن علي ينفذ ما تحب النقابة اليسارية: محق الإسلاميين. وحتى مسرحيات التعاطف مع فلسطين، وهو ركن قار في البروباغندا النقابية، كانت تخرج فيه كتف بكتف مع حزب التجمع وترفع نفس شعاراته.
بعد الثورة أوهمت النقابة الناس أنها من قاد الثورة وأنها اليد الضاربة التي أسقطت ابن علي. وهذا إيهام باطل، فقد شاركت النقابة بقوة في قرصنة مسار الثورة بإسناد حكومة الباجي الانتقالية، بعد أن تجاهل وجودها محمد الغنوشي في حكومتين شكلهما ولم يقع تحت تأثير خطابها الثوري المكشوف له من زمن ابن علي. وكان إسنادها للباجي عملية قطع طريق على مشاركة الإسلاميين في إدارة المرحلة الانتقالية، بعد أن تبين أن مذبحة ابن علي لم تقض عليهم بل زادتهم قوة وتماسكا.
انتخابات 2011 التي قدمت الإسلاميين للحكم دفعت النقابة إلى الطرف الضديد، فاشتغلت كمعول هدم محترف لحكومة الجبالي والعريض (الإسلاميتين) مما أدى إلى سقوطهما في 2014 (وكان الثمن جائزة نوبل من فرنسا وليس من السويد). فتغولت النقابة أكثر على من جاء بعدهما حتى وصل قيس سعيد في 2021 بإنهاء المسار الديمقراطي برمته، فوقفت النقابة معه تسنده وتبرر له، وقد أيقنت أنه ذاهب إلى مجزرة جديدة في حق الإسلاميين، وقد حقق لها مرادها.
في الفترة الانتقالية وتحت تأثير قواعد نقابية متنمرة، مالت القيادة المركزية للنقابة إلى مهادنة التيار، فعدلت قانونها الأساسي (الفصل 10) الذي يحدد مدة بقاء النقابي في مركزه بدورتين انتخابيتين، وقالت "نحن أيضا ديمقراطيون". لكن مسار الأحداث كشف أن الديمقراطية داخل النقابة تسمح بوصول إسلاميين إلى مراكز قيادية داخلها، فهم كثير ولهم متعاطفون يصوتون لهم عقابا للنقابي اليساري المتواطئ ضدهم والذي يوظفهم سياسيا. عادت النقابة للانقلاب على قانونها الخاص في مؤتمر جديد لتنكص عن التعديل وتعيد الصيغة الأولى (عدم تحديد مدة النيابات بدروتين أي عشر سنوات، وإنما زمن مفتوح) مثل قوانين ابن علي ومن سبقه.
في هذه اللحظة يرى الرئيس وفريقه ويرى آخرون أن النقابة انقسمت بين جماعة الفصل 10 (الديمقراطي) وبين جماعة الفصل (20) العائد. والصراع على أشده يكبل النقابة وينذر بتفككها، فلا مصالحة بين الحزبين. بدأت النقابة تصدر جئيرا وتتباكي على الديمقراطية مع جمل موزونة (بالجرام) فيها تهديد بالتصعيد، علما أن الشقين متفقان على أن مسار 25 تموز/ يوليو هو "مسار تصحيح" سياسي ولا مجال إلى العودة للحديث عن زمن 24 تموز/ يوليو (أي ما قبل انقلاب قيس سعيد). وهو تناقض يرقى إلى الفضحية، بكاء على الديمقراطية وتمسك بالانقلاب الذي أطاح بها.
استجداء التعاطف الشعبي
باسم الحاجة الأبدية إلى النقابة تروج النقابة إلى أهميتها ودورها في المشهد الاجتماعي، وأن الكارثة قادمة (هل توجد كارثة أكبر من انقلاب؟). وبدأنا نسمع ذلك الخطاب الذي لا يخلو من غباء سياسي يصدر عن جهات كثيرة بما فيها إسلاميون من داخل النقابة؛ بأن إنقاذ النقابة واجب وطني. تريد النقابة متعاطفين معها ضد التهميش أو الإلغاء، وهو خطاب مزدوج يبنى على شعار نقابة حشاد المؤسس ويغطي في ذات الوقت العمل غير الديمقراطي داخل الهياكل القيادية، بمنطق "نحن ضحايا النظام ونحتاج لسان دفاع ولكن لا تسألونا عما يجري في الداخل النقابي". ويصير هذا الخطاب اتهاما بإسناد الانقلاب، فإما أن يتعاطف المرء مع الضحية النقابية المسكينة حارسة معبد الديمقراطية، وإلا فهو غير ديمقراطي.
هذه الديماغوجيا تنطلي على كثيرين لسنا منهم، فقد يقنّا بأن النقابة كانت ولا تزال جزءا من السلطة وذلك منذ تأسيس الدولة، وهي حزب رديف للحزب الحاكم. إنها الشق الفعال في إدارة البلاد لمصلحة الحزب الحاكم ومكوناته المالية والجهوية، غير أنها أفلحت دوما في التغطية على دورها بخطاب معارض، مع كثير من النوستالجية لخطاب التحرر الوطني الذي كانت فيه النقابة جزءا من معركة التحرير بقيادة فرحات حشاد (كم أن هذا الشعار مزيف وكاذب "نقابة حشاد"!).
إن هشاشة المد الثوري في 2011 وغياب قيادة منتبهة للدور المشبوه للنقابة سمح للنقابة بترويج خطاب ثوري. تحت هذا الخطاب حكمت النقابة فعلا المرحلة الانتقالية، ونتيجة حكمها عودة منظومة ابن علي بكل مكوناتها المالية والسياسية حتى وصل قيس سعيد، ولأن فريقه في العمق هو فريق ابن علي مموها (القوة الصلبة) فإنه مارس مع النقابة نفس ممارسات ابن علي، أي الاحتقار التام، غير أنه زاد عليه قليلا بكشف هوان النقابة وتعرية مكوناتها الأيديولوجية الفاقدة فعلا للوزن السياسي في الشارع (كان ابن علي ينفخ في صورتها ليفعل ما يشاء؛ فتقبل مكتفية بالصورة الظاهرة ومكاسب قليلة لنقابيي الصف الأول، مثل مقاسم أراض للبناء في أحياء راقية)، ومن هنا مصدر استجداء الشارع ليقف مع النقابة في هذه المرحلة باعتبارها ضمانة الديمقراطية.
لا يمكن التعاطف مع الفاشية النقابية
القيادة النقابية منذ عهد ابن علي قيادة فاشية استئصالية تكمل دور سلطة استئصالية وتزيد عليه أحيانا. وإذا كانت هناك حالة من عدم الرضا الآن عن حكم قيس سعيد، فإن طريقة معارضته أو التمرد عليه لا يكون في تقديرنا بالتعاون مع النقابة غير الديمقراطية، بل إن أي تعاطف مع النقابة في أزمتها الداخلية التي تريد تصديرها تحت يافطة الديمقراطية (بصفتها ضحية الدكتاتورية) هو عين الخطأ التكتيكي والاستراتيجي لمرحلة ما بعد قيس، وهي مرحلة ستكون ولو بعد دهر طويل.. إنها الاستعانة بمكون فاشي على إنهاء الحكم الفاشي، حيث لا ينطلي خطاب الديمقراطية إلا على الأغبياء.
توجد معارضة لقيس سعيد ونظامه غير منظمة وغير موحدة في مسار، ولكننا نراها تقف على حافة خطأ جسيم بل قاتل؛ هو الاستعانة بالنقابة على تجاوز مرحلة قيس. يافطة "لنسقط النظام ثم نتفاهم بعده" هذه يافطة خدعت الناس زمن الثورة، وهناك من يود استعادتها باسم أهمية دور النقابة في المشهد السياسي. والحقيقة أن الأمر يجري كهروب من معضلة أخرى؛ هي عجز المعارضات السياسية عن الاتفاق على أجندة استعادة الديمقراطية. والأمر بسيط وواضح، عدم الاتفاق متأت من الخلفية الاستئصالية لهذه المكونات التي انتبهت إلى أهمية الديمقراطية بعد فوات الأوان لكنها تحافظ على استئصاليتها (ضمن ديمقراطيتها)، وكما ود الكثير منها ركوب ظهور الإسلاميين لاستعادة مسار سياسي دونهم (اذهبوا فموتوا من أجلنا)؛ نراهم يتعاطفون مع النقابة لنفس الدور أن يركبوا ظهر الأزمة الاجتماعية بمسميات نضال نقابي ليكون لهم جزء من السلطة ومغانمها، لكن دون ديمقراطية تسمح بمشاركة إسلاميين.
لم يكن انقلاب النقابة على قانونها الداخلي إلا محاولة لقطع الطريق على ديمقراطية داخلية يتسرب منها إسلاميون إلى مراكز قيادية ولو على مدى طويل، والنتيجة أن ثمن سوء التدبير السياسي يدفع الآن. هل هذه شماتة ونكاية؟ الغبي سيقف عند هذا المعنى، لكن الديمقراطي الحقيقي سيصل معنا إلى أنه لا يمكن بناء الديمقراطية بمكونات سياسية فاشية.
كان يجب على الثورة أن تنهي دور النقابة السياسية منذ البداية كما أنهت دور الحزب الحاكم (التجمع)، لكنها كانت ثورة مسكينة سهل خداعها بخطاب ثورجي يساري تعرف مكونات السلطة الحالية (القوة الصلبة خاصة) زيفه، لذلك تتقدم مرتاحة لتفعل ما تشاء، متخلية حتى عن التمويه الذي كان يمارسه ابن علي: يفاوض طويلا ثم يقرر ما يشاء متقينا من تواطئ النقابة.
لنترك النار تحرق غابة الأشجار الميتة..
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه تونس النقابة قيس سعيد تونس اتحاد الشغل اسلاميين نقابة قيس سعيد مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة صحافة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مع النقابة قیس سعید ابن علی
إقرأ أيضاً:
الوراثة السياسية: سرطان السلطة من معاوية إلى اليوم
10 أغسطس، 2025
بغداد/المسلة:
محمد عبد الجبار الشبوط
الوراثة السياسية ليست مجرّد خلل في التداول السلمي للسلطة، بل هي جريمة كبرى بحق المجتمع، واعتداء سافر على جوهر الفكرة السياسية الحديثة التي تقوم على الإرادة الشعبية، والكفاءة، والمساءلة. في العراق، كما في معظم العالم العربي، تحولت الوراثة السياسية إلى مرض عضال ينهش جسد الدولة، ويتغذى على دماء الشعب وثرواته.
من معاوية إلى أحفاد السياسة
أول من دشّن هذا النهج المسموم في التاريخ الإسلامي هو الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، الذي حوّل الخلافة من نظامٍ يقوم على الشورى والاختيار – مهما كانت شوائب تطبيقه – إلى مُلكٍ عضوض قائم على التوريث العائلي. بهذا الفعل، فتح بابًا واسعًا أمام الاستبداد، وجعل السلطة ميراثًا شخصيًا يُورَّث كما تُورَّث العقارات والمزارع، لا أمانةً تُحمَّل على الكتف لأداء الحق وخدمة الناس.
منذ تلك اللحظة، سارت أجيال من الحكّام في ركاب الوراثة، حتى صارت قاعدةً غير مكتوبة: من يحكم اليوم يورّث غدًا، ولو على أنقاض وطنٍ كامل.
الوراثة السياسية في العراق المعاصر
في عراق ما بعد 2003، عادت الوراثة السياسية بوجهٍ فجّ، وإن اختلفت شعاراتها. ما بين أحزاب إسلامية تزعم أنها تدافع عن القيم، وأحزاب علمانية ترفع راية الحداثة، تتكرر الصورة ذاتها: أبناء وأصهار وإخوة وزوجات يعتلون المناصب، أو يسيطرون على مفاصل القرار، لمجرّد أنهم ينتمون إلى “العائلة الحاكمة” داخل الحزب أو الكيان السياسي.
بهذا، تحوّلت بعض الأحزاب إلى إقطاعيات سياسية، تحكمها روابط الدم بدل الكفاءة، وتُدار بقرارات العائلة بدل البرامج الوطنية.
لماذا الوراثة السياسية خطر حضاري؟
1. تدمير مبدأ المساواة: الوراثة تجعل السلطة امتيازًا وراثيًا بدل أن تكون حقًا عامًا لكل مواطن.
2. إلغاء المنافسة السياسية: حين تحكم العائلة، تُقصى الكفاءات وتُهمَّش الأصوات الجديدة.
3. إعادة إنتاج الفساد: الوراثة تخلق شبكات مغلقة تحمي المصالح العائلية على حساب المصلحة العامة.
4. قتل الأمل بالتغيير: حين يدرك المواطن أن الحاكم سيورّث السلطة لابنه، يزول الإيمان بالتداول السلمي.
الخروج من الحلقة الجهنمية
القضاء على الوراثة السياسية يتطلب:
• دستور واضح يمنع التوريث السياسي والحزبي.
• قوانين أحزاب ديمقراطية تفرض الانتخاب الداخلي الحرّ والشفاف.
• وعي شعبي يرفض التصويت لأي مرشح يركب حصان العائلة بدل حصان الكفاءة.
الوراثة السياسية ليست قدرًا محتومًا، لكنها ستبقى جاثمة ما لم تُكسر بالوعي، والقانون، والموقف الشعبي الحاسم. فلا معاوية جديد، ولا ملكًا عضوضًا آخر، ولو غلّف نفسه براية الدين أو قناع الحداثة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts