الصلاة في المدارس وتوصيات مؤسسة راند
تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT
قرأتُ تصريحًا لمحمد سعد برادة وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة في المملكة المغربية أعلن فيه أنّ المؤسسات التعليمية في بلاده تبذل جهودًا لترسيخ القيم الدينية في نفوس التلاميذ، وعلى رأسها الحرص على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها المحددة.
رغم أنّ التصريح يبدو عاديًّا، ومرَّ مرورًا عابرًا على وسائل الإعلام؛ إلا أنّ أهم ما فيه أنه ركز على الدور التربوي للمدرسة في غرس الالتزام الديني، خاصةً أنّ الوزير لفت إلى أنّ «المدرسة ليست مجرد مكان لنقل المعارف، بل فضاء لتنشئة متعلمين متمسكين بالقيم الإسلامية السمحة، وقادرين على التفاعل الإيجابي مع التنوع الثقافي والفكري»، وهو في الواقع قد أعطى قيمة للمدرسة؛ لأنها يجب أن تكون مكانًا للتربية قبل أن تكون مكانًا للتعليم.
تصريحُ الوزير المغربي يقودني إلى الحديث عن تقرير نشرته مؤسسة «راند» الأمريكية عام 2004 أثار حينها جدلًا واسعًا كان عنوانه «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والإستراتيجيات»؛ لارتباط موضوع تعويد التلاميذ على الصلاة بما جاء في ذلك التقرير الذي لا يؤيد توجهًا كهذا مع ضرورة الإشارة إلى أنّ مؤسسة «راند» هي مركز بحثي أمريكي تأسّس عام 1948 لتقديم الدراسات والاستشارات لصنّاع القرار في الولايات المتحدة، وتُعدّ من أبرز المؤسسات التي ترسم ملامح السياسات العامة، خاصةً في الشؤون الدفاعية والثقافية، وغالبًا ما تعكس تقارير هذه المؤسسة توجهات استراتيجية تهدف إلى التأثير في المجتمعات خارج أمريكا، ومنها العالم الإسلامي.
صدر التقرير عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وحمل رؤية تصنيفية تقسم التيارات الإسلامية إلى أصوليين وتقليديين وإصلاحيين وحداثيين، مع توصية بدعم التيارات التي تتوافق مع ما يراه التقرير «إسلامًا مدنيًّا ديمقراطيًّا». وسعى التقرير إلى تقديم خارطة طريق للتدخل الثقافي الناعم، عبر دعم المفكرين والمناهج والمؤسسات التي تخدم هذا التصور مقابل تهميش وتقييد التيارات الأخرى، التي يرى أنها تُغذّي التشدد أو تعيق «التحديث».
من أبرز ما تناوله التقرير مسألة التعليم الديني؛ حيث أفرد مساحة لبحث واقع مدارس تعليم القرآن في باكستان وأفغانستان. وأشار إلى أنّ هذه المدارس تلعب دورًا مركزيًّا في تشكيل الوعي الديني لدى النشء، وكانت حاضنة للفكر الجهادي، خصوصًا مع ارتباط بعضها تاريخيًّا بحركة طالبان. وبناءً على ذلك، دعا التقرير إلى إصلاح هذه المؤسسات من خلال إدخال العلوم الحديثة إلى مناهجها، ومراقبة محتواها الديني، ودعم المدارس «المعتدلة» (وفق تصنيفه)، مع التأكيد على تقليص العزلة الفكرية التي قد تنتج عن اقتصار التعليم على العلوم الشرعية فقط.
لا يخفى على أحد أنّ الدول العربية والإسلامية سارعت إلى تنفيذ توصيات مؤسسة «راند» حرفيًّا؛ خوفًا من أن تُتهم بالإرهاب دون أن تعلن ذلك رسميًّا، وبذلك أسهمت - بدون وعي منها - في تأكيد أنّ الدين الإسلامي دينٌ إرهابيٌّ، فخفضت حصص التربية الإسلامية، وغيّرت المناهج الإسلامية، فأصبحت تُسمّى ثقافة إسلامية وليست تربية، واختفت المحاضرات والدروس من المساجد، واقتصر دورُها على إقامة الصلوات الخمس مع إغلاق بعضها فور الانتهاء من الصلاة مباشرة، واختفت أو كادت تختفي المنتديات الصيفية التي تركِّز على تعليم النشء القرآن الكريم مع ظهور دعاة جدد يميِّعون الدين. بمعنى أنّ توصيات تقرير عام 2004 شجّعت على دعم أنماط من التدين مثل التصوف أو التدين الفردي، وسعت إلى تقليص مركزية المساجد والتعليم التقليدي في تشكيل الهوية. وقد أعقبه تقرير آخر صدر عام 2007 بعنوان «بناء شبكات الإسلام المعتدل»، الذي جاء ليُفصّل سُبل التنفيذ والربط بين المفكرين والمؤسسات في العالم الإسلامي. وطرح التقرير أفكارًا جديدة للتعامل مع المسلمين، وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل تحت دعاوى «الاعتدال» بالمفهوم الأمريكي، وحدّد بدقة صفات هؤلاء «المعتدلين» المطلوب التعاون معهم.
ووفقًا لما يذكره التقرير؛ فالتيار الإسلامي المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، ويؤمن بحرية المرأة في اختيار «الرفيق»، وليس الزوج، وبحقِّ الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة، ويوصي بدعم التيارات الليبرالية. والأهم من ذلك يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: «التيار الديني التقليدي» أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية، وليست له اهتمامات سياسية، و«التيار الديني الصوفي» الذي لا يضر مصالح أمريكا، ثم يقول بوضوح: «إنّ التيار المعتدل هم من يزورون الأضرحة، والمتصوفون، ومن لا يجتهدون».
كان جيمس وولسي رئيس جهاز المخابرات الأمريكية «سي أي آي» أكثر صراحة ووضوحًا من تقرير «راند» عندما أعلن عام 2006 في أحد المؤتمرات: «إذا استطعنا إقناع المسلمين في العالم أنهم قابعون تحت العبودية كما هو ظاهر، وأن نصنع لهم إسلامًا يناسبنا، ونجعلهم يقومون بثورة، ونقنعهم بأننا إلى جانبهم، فإننا ذاهبون إلى النصر».
من التوجهات الأمريكية يبدو أنّ الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة، فيجب على «المسلم المعتدل» حسب الإسلام الذي يريده وولسي - أن يؤمن بتطبيق الديمقراطية فقط، وهي حسب مفهومهم معارضة الشريعة الإسلامية، وأن يكون الفرد مسالمًا إلى أقصى درجة تجاه كلِّ ما هو غربي، ويوافق على حقوق الإنسان الغربية بما فيها حق الشذوذ الذي يلطفون تسميته إلى «المثلية». كما يجب أن يؤمن بالحريات الديمقراطية، مثل حرية الفرد في تغيير دينه، وحرية تحرر المرأة وفق المفهوم الغربي، ومن هنا يمكن أن نعرف معنى كلمة «النسوية» التي ملأت الساحة الإعلامية.
مع الأسف؛ هناك من المسلمين من تنطلي عليه العبارات الرنانة الخادعة عندما تركز على الحرية، والمدنيَّة، وقبول الآخر إلى غيرها من العبارات التي يستخدمها الغرب؛ للتأثير على عاطفة هذه الشعوب، خاصة أنها محرومة منها، وتبحث عن الخلاص حتى إن أدى الأمر إلى التمسك بالسراب. وأمام الأوضاع التي تعيشها هذه الشعوب تصدّق أنّ الخلاص هو بيد الإسلام الأمريكي، وهو الذي تسعى إليه أمريكا والغرب عمومًا، فهم يشنون حروبًا عسكرية بالطائرات والمُسيَّرات والقاذفات والبوارج، لكنهم في الوقت ذاته يخوضون حربًا أخرى بأسلحة أكثر فتكًا من تلك، وهي حرب التغيير الناعم والبطيء. ويمكن العودة إلى تصريح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق لصحيفة «واشنطن تايمز» عام 2003 - والحربُ على أشدِّها ضد الإسلام - عندما قال: «نخوض حرب أفكار مثلما نخوض حربًا عسكرية، ونؤمن إيمانًا قويًّا بأنّ أفكارنا لا مثيل لها. إنّ تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإنّ من المحتم الفوز فيها، وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها».
عندما يتمسك شباب الإسلام بدينهم وأخلاقهم، ويحافظون على صلواتهم، والأهم يأخذون بأسباب العلم والتطور؛ فذلك ضمان أكيد لنجاح الأمة وانتصارها، ولنا في إيمان أهل غزة الذي تربوا عليه أكبر دليل؛ إذ إنهم تربوا على الإيمان، وكما قال سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في جريدة عُمان يوم الجمعة 13 ديسمبر 2013: «نحن بحاجة إلى جيل القرآن لا إلى جيل الموسيقى. نحن بحاجة إلى جيل المسجد لا إلى جيل الملهى. نحن بحاجة إلى جيل يؤمن بالله يتشبع بهذه الروح القرآنية، ويغار على دين الله تعالى، وينطلق في أرجاء الأرض حاملًا إلى هذه الإنسانية الحائرة الضالة هذه الهداية الربانية التي تخرجها من هذا المأزق الذي هي واقعة فيه؛ فالأمة هي بحاجة إلى هذا الجيل... فالنهوض بالأمة إنما هو النهوض بهذا القرآن الكريم حتى تعود للقرآن مكانته في نفوس الناس جميعًا». وهو فعلًا قولٌ بليغ؛ إذ إنّ الغرب لا يخشى من شباب تربوا على المهرجانات الغنائية، وعاشوا بلا هدف، لكنه يخشى من شباب تربوا في المساجد على الصلاة والقرآن، وعلى أهمية العلم والعمل، وكما قال الشيخ الواعظ الجزائري الراحل الناصر بن محمد المرموري -رحمه الله-: «وما من خير إلا وسيأتينا من المساجد؛ فإن لم نقتبس النور منها فمن أين سنقتبسه؟ أمِن قاعات السينما أم من المقاهي؟». عمومًا؛ يجب التفريق بين التدين المغشوش الذي يؤمن بالتكفير، ويلغي الآخر، والتدين الحقيقي النظيف الخالص لله -سبحانه وتعالى-؛ فالتدينُ الأول يعتمد على المواريث القديمة، والانغلاق السلبي، كما أنه صناعة غربية لتفريق المسلمين كان الهدف منه محاربة الاتحاد السوفييتي، ودفَعَ الشبابُ المغرّر بهم ثمن ذلك، وهو ما تكرر فيما بعد في العراق وسوريا وغيرهما.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بحاجة إلى إلى جیل
إقرأ أيضاً:
وزير الشؤون الدينية الماليزي يستقبل إمام الحرم النبوي
استقبل معالي وزير الشؤون الدينية الماليزي الدكتور محمد نعيم مختار اليوم، بمقر رئاسة الشؤون الدينية في العاصمة الماليزية كوالالمبور، فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف الشيخ الدكتور صلاح بن محمد البدير، بحضور نائب سفير خادم الحرمين الشريفين لدى ماليزيا الدكتور صالح بديوي، وذلك ضمن برنامج زيارات أئمة الحرمين الشريفين الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.
وأشاد الوزير الماليزي، بدور المملكة الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين، وتنفيذها للعديد من البرامج الدعوية، التي تخدم الإسلام والمسلمين، ونشر قيم الإسلام وتعاليمه السمحة.
من جهته، قدم الشيخ الدكتور صلاح البدير شكره لمعالي الوزير على كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال، معربًا عن سعادته بالمشاركة في الندوة العالمية للقرآن الكريم، مثمنًا الجهود الماليزية في تعزيز قيم الوسطية والاعتدال.
وأشاد فضيلته بجهود وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في تنفيذ العديد من البرامج والمناشط التوعوية والدعوية، التي تخدم المسلمين في العديد من دول العالم.