يشهد العالم تحولاتٍ رقْميةً واسعة بفعل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما ألقى بظلاله على حقل الفتوى الشرعية، وأثار أسئلة عميقة حول حدود استخدام هذه التقنيات في مجال الإفتاء، وقد خُصصت الجلسة العلمية الخامسة من فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر الدولي العاشر للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم المنعقد تحت عنوان: "صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي"، لمناقشة هذه القضايا من خلال مجموعة من الأبحاث العلمية التي عالجت أبعادَ الظاهرة من زوايا متعددة.

وفي إطار ذلك، قدمت الدكتورة مؤمنة حمزة عبد الرحمن عون، وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية، بحثًا بعنوان "تفكيك النص الديني من القراءة الأدبية إلى خوارزميات الفتوى"، تناولت فيه أثر المناهج الحداثية على المرجعية الدينية مركِّزة على تطبيق منهج التفكيك الذي نشأ في النقد الأدبي الغربي على النصوص الشرعية، واعتبرت أن هذا المنهج أدى إلى إضعاف مرجعية النص وفتح الباب أمام تأويلات نسبية تهدد وحدة الأحكام.

أمين البحوث الإسلامية: مؤتمر الإفتاء العالمي يجمع أصالة المنهج الشرعي وحداثة التكنولوجياما حكم شراء شقة بالتقسيط عن طريق البنك؟.. الإفتاء تجيبمؤتمر الإفتاء العاشر.. دعوات لتوظيف التكنولوجيا في خدمة الحقل الإفتائيمفتي جنوب أفريقيا: أعتز بانتمائي للأزهر الشريف وتدريبي في دار الإفتاء المصرية

وكيل كلية الدراسات الإسلامية للبنات بالإسكندرية تحذر من تحوُّل الفتوى إلى منتج رقْمي

وناقشت الباحثة محاولات استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في توليد الفتاوى دون تأصيل شرعي، مؤكدة أن هذا النهج يُنتج فتاوى آلية غير نابعة من اجتهاد بشري واعٍ، ولا تراعي المقاصد ولا فقه الواقع، محذرة من تحوُّل الفتوى إلى منتج رقْمي؛ الأمر الذي يُفقدها صفتها الاجتهادية ويُهمِّش دور المفتي لصالح نماذج خوارزمية لا تملك الحس الفقهي.

وعرضت الدراسة تحليلًا نقديًّا للفروق الجوهرية بين التأويل التفكيكي والتأويل الفقهي، مؤكدة أن النص القرآني والتشريعي لا يقبل التأويل الأدبي المفتوح، بل يقتضي أدوات تأويل منضبطة بأصول الفقه ومقاصد الشريعة، كما أشارت إلى خطورة إسقاط مفاهيم مثل موت المؤلف على النصوص الشرعية لما في ذلك من تقويض للمرجعية الدينية.

وفي ختام عرضها أوصت الباحث بوضع ضوابط شرعية دقيقة للتعامل مع الخوارزميات الإفتائية، مع ضرورة تعزيز الدراسات النقدية التي ترصد تأثير المناهج الحداثية على المرجعية الدينية، مؤكدة أن صيانة الفتوى مسؤولية جماعية ينبغي أن تضطلع بها المؤسسات العلمية والإفتائية.

ومن زاوية بحثية أخرى، تناول الدكتور وليد السيد محمد مرعي، مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بتفهنا الأشراف دقهلية، في بحثه المعنون بـ"أثر استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الإفتاء الافتراضي"، أبعاد ما يُعرف بالمفتي الذكي ومدى قدرته على أداء الوظيفة الإفتائية في ظل التحديات المعاصرة وضغوط العمل على مراكز الفتوى الرسمية.

طرح "مرعي"، إشكالية مشروعية الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الرد على تساؤلات المستفتين، موضحًا أن هذه التقنية تقوم على تحليل الأسئلة والرجوع إلى قواعد بيانات ضخمة لإنتاج ردود فورية، لكنه أكد أن هذا النوع من الفتوى يظل محدودًا ولا يمكنه الاستقلال في المسائل الاجتهادية التي تتطلب اجتهادًا بشريًّا مركبًا ونظرًا مقاصديًّا دقيقًا.

كما بيَّن أن الذكاء الاصطناعي قد يكون أداةً فعالة في المسائل الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل أحكام المواريث والزكاة، لكنه غير مؤهل للتعامل مع الأسئلة المتجددة التي تتطلب فقه الواقع والمعرفة بظروف السائل والسياق الاجتماعي المحيط.

كذلك تناول قضية المسؤولية الشرعية عن الفتوى الرقمية، مؤكدًا أن الجهة المطورة والمشغلة هي من تتحمل التبعات الشرعية والأخلاقية إذا ترتب على هذه الفتوى ضرر بالنفس أو المال أو الحقوق، وأوصى بتشكيل لجان علمية مشتركة تضم متخصصين في الشريعة والتقنية لوضع ضوابط دقيقة لأنظمة الإفتاء الافتراضي، كما دعا إلى تنظيم ورش عمل تجمع العلماء والمبرمجين لتطوير نماذج دقيقة، وتحديد المسؤوليات القانونية والأخلاقية في حال حدوث تجاوزات ناتجة عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى.

وفي سياق ذي شأن قدم الدكتور محمد محمود عبودة -المدرس بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة وعضو مرصد الأزهر لمكافحة التطرف-، بحثًا بعنوان الفتوى المؤسسية في مواجهة التحديات الرقمية نحو تجديد منهجي واستجابة رشيدة تناول فيه التحديات التي تواجه المؤسسات الإفتائية في العصر الرقمي.

أبرز الدكتور محمد عبودة مشكلة الفتاوى الرقمية غير المنضبطة التي تنتشر عبر المنصات الإلكترونية، مشيرًا إلى غياب الضبط المؤسسي في كثير من هذه الفتاوى ما يؤدي إلى تشويش الخطاب الديني ويقوِّض الثقة بالمرجعية الشرعية، كما عرض البحث الجهود التي تبذلها المؤسسات الدينية الكبرى لتقنين الأداء الإفتائي في البيئة الرقمية، وبيَّن أهمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي من خلال تحليل البيانات وتنظيم أرشيف الفتاوى دون المساس بجوهر العملية الاجتهادية.

كما تطرَّق الدكتور محمد عبودة إلى التحديات المرتبطة بعولمة الفتوى وسرعة النشر الإلكتروني، واقترح وضع ميثاق رقمي عالمي تحت مظلة الأمانة العامة يضمن الالتزام بالمنهجية المؤسسية ويحمي الجمهور من الفتاوى المضللة

وفي ختام بحثه أوصى بضرورة دمج التحول الرقمي في مناهج إعداد المفتين وتكوين فرق علمية مشتركة بين علماء الشريعة، وخبراء التقنية لتطوير منصات إفتائية ذكية تلتزم بالضوابط الشرعية وتستجيب لحاجات المتلقين في العصر الرقمي.

 وفي سياق متصل، قدَّم الدكتور خالد عبد العزيز عمران -أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- بحثًا بعنوان "معالم التجربة الإفتائية المصرية في شأن زراعة الأعضاء البشرية ونقلها، استعرض فيه تجربة المؤسسات الإفتائية المصرية في التعامل مع هذه القضية الحساسة والمعقدة، مشيرًا إلى أن نقل الأعضاء تظل من القضايا الفقهية المعاصرة التي تحتاج إلى مواكبة مستمرة للتطورات العلمية، ومع دخول الذكاء الاصطناعي بقوة في هذا المجال، يصبح لزامًا على المؤسسات الإفتاء أن تعمق البحث في تطبيقاته المختلفة، وأن تصدر الفتاوى التي توازن بين مصلحة البشر في العلاج وحفظ النفس، وبين الضوابط الشرعية والأخلاقية التي تضمن كرامة الإنسان وعدم استغلاله وتحقِّق مراد الحق من الخلق.

كما سلَّط الضوء على المصادر التي شكَّلت هذه التجربة، وفي مقدمتها دور الأزهر الشريف بمؤسساته المختلفة مثل هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية، واللجان الفقهية المختصة إلى جانب دار الإفتاء المصرية، والمركز العالمي للفتوى الإلكترونية، مؤكدًا أن هذه الجهات أدت دورًا محوريًّا في صياغة فتاوى دقيقة ومتوازنة تجمع بين المقاصد الشرعية والواقع الطبي والقانوني المعاصر.

وتناول البحث الفتاوى التاريخية والمعاصرة المرتبطة بزراعة ونقل الأعضاء وصولًا إلى الفتوى الصادرة حديثًا برقم 86 لسنة 2025، والتي أجازت التبرع بالأعضاء بعد الوفاة بشروط شرعية محددة من أبرزها: التحقق من الموت الكلي ووصية المتبرع في حياته، والحفاظ على الأنساب، وكذلك تقديم الخدمة في مركز طبي متخصص ومرخص ودون أي مقابل مادي، بما يضمن اتساق الفتوى مع مقاصد الشريعة في حفظ النفس ودرء المفاسد.

كما ركَّز الدكتور خالد عمران على الجوانب المفاهيمية والفقهية التي تم ضبطها خلال هذه التجربة، ومن أبرزها تحديد مفهوم الموت الشرعي والتمييز بين الوصية والإيصاء، إلى جانب توظيف القواعد الأصولية والمقاصدية في الوصول إلى أحكام دقيقة، وبيان أن الفقه الإسلامي يمتلك أدوات مرنة للتعامل مع القضايا الطبية المعقدة متى وُجد الاجتهاد الجماعي المؤسسي المدعوم بالخبرة والتخصص.

وفي ختام بحثه أشار أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إلى التحديات المستجدة التي تفرضها تقنيات الذكاء الاصطناعي على قضية زراعة الأعضاء لا سيما ما يتعلق باستخدام الروبوتات أو الخوارزميات في تحديد الوفاة أو إجراء العمليات الجراحية، وهو ما يستوجب اجتهادًا فقهيًّا مستمرًّا بالتعاون مع أهل التخصص في الطب والتقنية لتأمين توافق الفتوى مع المستجدات الطبية.

وفي مداخلة علمية ذات طابع تطبيقي استعرض الشيخ أحمد وسام عباس خضر -أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- في بحثه المعنون بـ"التجربة المصرية في صناعة الفتوى الرشيدة دراسة تطبيقية"، ملامح تجربة دار الإفتاء في تطوير منظومة الإفتاء بما يواكب تحديات العصر مع الحفاظ على المرجعية الدينية والتأصيل العلمي.

أوضح وسام، أن الفتوى الرشيدة لا تقتصر على بيان الحكم الشرعي بل تسعى إلى حماية المجتمع من الانحراف الفكري وتعزيز الأمن الروحي عبر خطاب ديني منضبط، يراعي الواقع ويستند إلى منهج وسطي يسهم في تعزيز القيم والاستقرار داخل المجتمع.

كما أشار إلى أن دار الإفتاء المصرية تبنَّت استراتيجية مؤسسية متكاملة لإعداد المفتي الرشيد من خلال برامج أكاديمية ودورات تدريبية ومنصات رقمية متعددة، أبرزها الهاتف والموقع الإلكتروني والتطبيقات الذكية، إلى جانب تطوير قواعد بيانات علمية تحتوي على فتاوى معتمدة ومراجعة علميًّا.

تناول البحث أيضًا دَور دار الإفتاء في مواجهة الفوضى الإفتائية عبر منصات التواصل الاجتماعي من خلال آليات رصد وتتبع المحتوى المتطرف والرد عليه بلغة علمية مؤصلة، كما أشار إلى الجهود المبذولة لتوسيع نطاق تأثير الفتوى الرشيدة على المستوى الإقليمي والدولي من خلال الشراكات والمؤتمرات.

وفي ختام عرضه أكد الشيخ أحمد وسام، أن التجربة المصرية في الفتوى تمثل نموذجًا قابلًا للتكرار في دول أخرى، لما تمتلكه من مرونة منهجية ومؤسسية، ودعا إلى تعزيز التعاون بين دُور وهيئات الإفتاء وتبادل الخبرات من أجل بناء بيئة إفتائية عصرية تواكب تحولات العصر وتظل ملتزمة بأصول الشريعة الإسلامية.

طباعة شارك الفتوى الإفتاء صناعة المفتي الرشيد مؤتمر الإفتاء العالمي

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الفتوى الإفتاء صناعة المفتي الرشيد مؤتمر الإفتاء العالمي الذکاء الاصطناعی فی دار الإفتاء المصریة المصریة فی وفی ختام من خلال

إقرأ أيضاً:

هل فيزا المشتريات حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يجيب

أجاب الشيخ إبراهيم عبد السلام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، على سؤال ورد من أحد المتابعين قال فيه: «ما حكم استعمال فيزا المشتريات، أشتري بها وأُقَسِّط للبنك من مرتبي، أحيانًا بأرباح وأحيانًا بمصاريف إدارية فقط، هل ذلك حلال أم حرام؟».

وأوضح أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خلال حلقة برنامج «فتاوى الناس» المذاع على قناة الناس، أن المعتمد في الفتوى أن فيزا المشتريات يجوز استعمالها في شراء السلع ولا حرج في ذلك شرعًا، مشيرًا إلى أن حقيقة المعاملة أن البنك يكون بمثابة وكيل عن العميل، كأنه هو الذي اشترى السلعة أولًا ثم باعها له بالتقسيط، وهذا هو الواقع العملي لما يحدث في فيزا المشتريات.

وبيّن الشيخ إبراهيم عبد السلام أن العلماء في دار الإفتاء فرّقوا بين استعمال الفيزا في شراء السلع، وبين استعمالها في سحب أموال نقدية، موضحًا أن شراء السلع بالفيزا جائز شرعًا ولا إثم فيه، لأن المعاملة يكون فيها سلعة حاضرة، والبنك طرف ممول، والعميل يستفيد بالشراء ثم يسدد الأقساط، سواء كان ذلك بأرباح متفق عليها أو بمصاريف إدارية.

حكم الدعاء بقول: «اللهم بحق نبيك» .. يسري جبر يوضحالتصرف الشرعي لمن تيمم وأدى الصلاة ثم عثر على الماء .. الإفتاء توضح

وأكد أمين الفتوى أن الإشكال والحرمة تكون في حالة سحب المال النقدي بالفيزا، ثم تجاوز المدة المسموح بها، وترتب على ذلك فوائد، فهنا تدخل المعاملة في شبهة القرض الربوي، وهو أمر غير جائز شرعًا، بخلاف فيزا المشتريات التي تتوسط فيها السلعة، ومع وجود السلعة ينتفي الربا.

وأشار إلى أن القاعدة الفقهية في ذلك واضحة، وهي أنه «إذا توسطت السلعة فلا ربا»، موضحًا أن البنك في هذه الحالة لا يُقرض مالًا مباشرًا، وإنما يُمول شراء سلعة ثم يُقسط ثمنها على العميل، وهو ما يجعل المعاملة جائزة شرعًا ولا حرج فيها مطلقًا، ما دامت منضبطة بهذه الصورة.

طباعة شارك الشيخ إبراهيم عبد السلام أمين الفتوى دار الإفتاء فيزا المشتريات حكم استعمال فيزا المشتريات

مقالات مشابهة

  • دار الإفتاء: ذنب أحمد السقا في رقبة كل واحد اتريق عليه.. فيديو
  • أمين الإفتاء: ارتداء الشراب للمرأة في الصلاة واجبة إلا في هذه الحالة
  • تحديات قانونية أمام مساعي ترامب لمساعدة شركات الذكاء الاصطناعي
  • حكم فعل الخير دون نية.. أمين الإفتاء: الله يكافئ عباده حتى لو لم يكن الإنسان مدركا
  • هل تركيب الأظافر الصناعية من الوصل المحرم وحكم الوضوء بها ؟.. إعرف الضوابط الشرعية
  • هل فيزا المشتريات حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يجيب
  • مفتي الجمهورية: الجهل والأمية الرقمية والدينية أخطر تحديات تواجه المجتمعات
  • كيف تحمي نفسك من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تجمع بياناتك الشخصية (فيديو)
  • أول مركز من نوعه للتعليم الإفتائي عن بُعد.. 130 عامًا من الفتوى
  • دار الإفتاء تواصل قوافلها إلى شمال سيناء