الشلل..وباء صامت يزحف على غزة وسط انهيار صحي شامل
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
د.حكمت المصري -
سلوى محمد، (19 عامًا) فتاة فلسطينية من شرق خان يونس، فوجئت بشلل كامل يسيطر على جسدها خلال أسبوع واحد فقط. بدأت الأعراض بتنميل ووخز في أطرافها السفلية، ثم سرعان ما فقدت القدرة على المشي، ولم يبقَ لها من الحركة سوى تحريك رقبتها.
تروي والدتها، التي ترافقها داخل المستشفى: «في أول يوم شعرت بتنميل في يديها، اعتقدت أنه مجرد إرهاق بعد غسل الملابس ونقص الطعام، فقمت بتدليك قدميها وقدمت لها بعض الطعام.
حملها أخوها بسرعة وذهب بها إلى المستشفى».
نُقلت سلوى على وجه السرعة إلى مستشفى ناصر الطبي، وأمضت 5 أيام في العناية المركزة وسط تشخيصات متضاربة، بسبب نقص أدوات الفحص الدقيقة والأدوية الأساسية.
تصف والدتها صعوبة التواجد في المستشفى المزدحم بالجرحى والمرضى، وسط نقص الرعاية الطبية، قائلة والدموع تنهمر على وجنتيها: «فجأة أصبحت ابنتي مشلولة، لا نعرف السبب. الآن تحتاج إلى رعاية صحية لا تتوفر ، نعيش الآن داخل الخيمة التي أصبحت مأوى لنا بعد فقد منزلنا».
قصة سلوى هي واحدة من آلاف القصص الإنسانية في غزة، حيث يعيش السكان تحت تهديد مستمر للحياة، ويعانون من نقص الخدمات الأساسية والرعاية الصحية. الفقر والحصار والحرب تجعل من أبسط حقوق الإنسان ، مثل الوصول إلى العلاج الطبي ، أمرًا بعيد المنال، بينما تحاول العائلات الصمود وسط مأساة لا نهاية لها.
وسط غرفة صغيرة في مستشفى ناصر جنوب قطاع غزة، تجلس سميرة سالم (43 عامًا) ، تحدّق بعينين مثقلتين بالحزن في طفلها الممدد بلا حراك. جسده النحيل تغطيه ندوب وتقرحات، علامات قسوة المرض وقلة الحركة. منذ أسابيع، لم يعد يقوى على تحريك يديه أو قدميه، بينما تلازمه أمه ليل نهار.
سميرة، التي نزحت من خان يونس بعد أن دمّرت الحرب الإسرائيلية منزلها، تعيش اليوم في أحد المخيمات العشوائية بمواصي المدينة. لكن تواجد طفلها في المستشفى أجبرها على المبيت بجواره. تقول بصوت متقطع وهي تحبس دموعها:
«أنا أمه، لكنني عاجزة أمامه. لا أستطيع تحريك يده أو قدمه. أمضي ساعات أراقب أنفاسه. والده استشهد أثناء ذهابه للحصول على المساعدات، ولم يتبقَّ من يعتني به سواي. أحيانًا يساعدني بعض الناس عند الحاجة، لكن المعاناة لا تفارقني.»
الأطباء شخّصوا حالته بالشلل الرخو الناتج عن متلازمة غيلان باريه، وهي حالة مناعية خطيرة تُصيب الأعصاب وقد تؤدي إلى توقف التنفس خلال ساعات إذا لم تُعالج. ويرجح المختصون أن إصابته مرتبطة بتلوث المياه وسوء التغذية، وربما أيضًا التعرّض للغازات السامة.
ويشير أطباء مستشفى ناصر إلى أن هذه المتلازمة لم تعد نادرة في غزة، حيث تتزايد الحالات المماثلة في الأسابيع الأخيرة، في ظل انهيار النظام الصحي ونقص الأدوية والمعدات الطبية، ما يضع حياة المرضى على المحك.
بالنسبة لسميرة، فإن المعركة لا تتعلق فقط بإنقاذ ابنها من المرض، بل بالصمود أمام قسوة حياة فقدت فيها البيت والزوج، وباتت أسيرة أروقة المستشفى، تحلم بيومٍ تراه فيه يخطو من جديد.
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، رصد الأطباء تزايدًا ملحوظًا في حالات الإصابة بما يعرف بـ الشلل الرخو الحاد، وهو مرض نادر وخطير يهدد حياة المريض إذا لم يتلقَّ العلاج الفوري. ومع انهيار المنظومة الصحية وتلوث المياه، باتت هذه الحالات أكثر انتشارًا، وأشد فتكًا.
نائل الغفري (34 عامًا) لم يكن يتوقع أن ينقلب يومه العادي إلى كابوس صحي. بدأ الأمر بضعف في كفتي اليدين، ثم امتد تدريجيًا إلى الساقين، حتى استيقظ في اليوم التالي عاجزًا عن تحريك جسده. يقول بصوت متهدج: «صُدمت عندما وجدت نفسي فجأة مشلولًا، لم أعد أريد رؤية أبنائي أو زوجتي ، لا أريد أن يراني أحد ضعيفًا.»
أمضى نائل 12 يومًا في المستشفى، بينها 5 في العناية المركزة، وخرج وهو قادر على الوقوف، لكنه ما يزال يخوض رحلة طويلة مع العلاج الطبيعي لاستعادة حركته الكاملة.
أما ساهر خليل (28 عامًا) ، النازح من بيت حانون إلى خيمة في حي النصر غرب غزة، فقد بدأت قصته أثناء محاولته تعبئة جالون ماء من نقطة توزيع في المخيم.
فجأة، سقط الجالون من يديه، وفقد القدرة على تحريك كفه، ثم تدهورت حالته 4 .,mz`سريعًا حتى شُلَّ جسده بالكامل في اليوم نفسه.
يقول ساهر : «لم أستطع الوقوف على قدمي، ثم توقف جسمي كله عن الحركة.»
نُقل ساهر كما أخبرني والدة الذي يجلس بجواره إلى مستشفى الحلو الدولي، وهناك فقد قدرته على التنفس وأُدخل العناية المركزة لستة أيام، قبل أن يقضي 15 يومًا إضافيًا تحت المراقبة والعلاج. ورغم تحسنه النسبي، يخشى الأطباء انتكاس حالته في أي لحظة.
يرجّح الأطباء أن يكون السبب الرئيسي لإصابته هو تلوث المياه التي يستخدمها النازحون في المخيم، نتيجة اختلاطها بمياه الصرف الصحي المتسربة بين الخيام، وهي المياه نفسها التي يعتمد عليها السكان للشرب والطهي والغسيل، وسط انعدام شبه تام لمصادر مياه آمنة.
هذه القصص ليست سوى نماذج لمعاناة متفاقمة، حيث يتهدد الشلل المفاجئ حياة
المزيد من الغزيين، في ظل بيئة ملوثة، ونظام صحي يترنح تحت ثقل الحرب والحصار.
بدورها حذرت منظمة الصحة العالمية حذرت من نقص أكثر من نصف الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية داخل المستشفيات، فيما تشير اليونيسف إلى أن 60% من مرافق المياه متوقفة عن العمل، وأن انقطاع الوقود منذ مارس أدى لتعطل محطات الصرف وتراكم النفايات، ما فاقم من انتشار الأمراض المرتبطة بتلوث المياه.
في مستشفى الشفاء، يصف مديره الدكتور محمد أبو سلمية الوضع بأنه «كارثة صحية غير مسبوقة». يوضح أن الشلل الرخو ليس مرضًا واحدًا، بل عرض لأمراض عدة، منها شلل الأطفال، وفيروسات معوية، ومتلازمة غيلان باريه، والتهاب النخاع الشوكي، والتسمم. أخطر ما فيه أنه قد يصل إلى شلل كامل لعضلات التنفس دون أن يفقد المريض وعيه.
ويضيف: «كنا نسجل نحو عشر إصابات سنويًا، أما الآن فقد تجاوزنا 80 إصابة خلال أقل من شهر، وسط نقص كامل في بروتوكولات العلاج.»
التشخيص يتطلب فحوصًا متقدمة مثل تحليل السائل الشوكي، التصوير بالرنين المغناطيسي، واختبارات الأعصاب، لكن معظمها غير متوفر بسبب الحصار والهجمات التي دمّرت 94% من المستشفيات في غزة.
أما الدكتور أيمن أبو رحمة فقد كشف أن الشهرين الماضيين شهدا توثيق 64 إصابة بالشلل الرخو ومتلازمة غيلان باريه، توفي منها ثلاثة مرضى، بينهم طفلان. وحذر من أن الأطفال هم الفئة الأكثر عرضة، خاصة مع توقف حملات التطعيم الأساسية.
الأطباء يربطون هذه الحالات بتلوث المياه في المخيمات، حيث تختلط مياه الشرب بالصرف الصحي المتسرب بين الخيام. وفي غياب العلاج المناسب لا يملك الأطباء سوى الانتظار بين احتمال تعافي المريض أو وفاته على أجهزة التنفس.
وفي هذا السياق أطلق أبو سلمية نداءً عاجلًا إلى المؤسسات الصحية والهيئات الدولية: «نحن نقف عاجزين أمام مرض يقتل بصمت. إن لم تصلنا الأدوية وأدوات التشخيص الآن، سنفقد مزيدًا من الأرواح.»
في غزة، لم يعد الشلل الرخو حالة نادرة، بل أصبح وباءً صامتًا يتغذى على الحصار وتلوث البيئة، ويحصد ضحاياه في مخيمات مكتظة، ووسط بنية تحتية منهارة، ونظام صحي يحتضر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشلل الرخو فی غزة
إقرأ أيضاً: