بين هتاف «كايروكي» وقناع «تووليت» مهرجان العلمين يكتب آخر سطور النهايات السعيدة
تاريخ النشر: 2nd, September 2025 GMT
"اكتب لحظاتك الحزينة على الرمال.. أما أوقاتك السعيدة فاكتبها على الصخر"، كلمات قالها الأديب الإنجليزي "برنارد شو" منذ قرابة قرن من الزمان، ولو كان القدر أمهله لحضور ختام مهرجان العلمين 2025، الجمعة الماضي، لكان وثق مقولته بالصوت والصورة بشكل حداثي أجمل على صخور شواطئ المدينة الجديدة، فما حدث يوم الجمعة الماضي، لم يكن مجرد ختام لبرنامج حافل، وإنما كان أشبه بـ«سطر أخير» يحمل نهاية سعيدة لأبطال رواية حالمة عاش معها الجمهور، وتفاعل، وتراقص، وتساقطت أحزانه على ضفاف البهجة والمرح، في لحظات كان أولى بنا أن نكتبها على الصخر، كي تخلد إلى الأبد.
من يتأمل المشهد الأخير للمهرجان، يدرك حجم التحول التاريخي للمدينة الساحلية من "أرض ألغام مهجورة"، إلى مسرح مفتوح يضج بالأسئلة، بقدر ما تنهمر فيه الموسيقى انهمار الحياة على قلوب البشر، في لقطات متوازية بتوقيع طرفين فاعلين على عقد اتفاق المتعة، أولهما فريق "كايروكي"، بكل ما فيه من صوت الذكريات ونوستالجيا الحنين وانكسار الحلم، أما الطرف الثاني فكان صوتاً ينساب من خلف قناع الغموض، يحمل اسم "تووليت"، وللقدر مفارقاته المبدئية في اسم كلا الطرفين "المدبلج" من اللغة الإنجليزية، وإن انطلقت حناجرهم عربية، بامتياز.
منذ اللحظة الأولى لحفل الختام، بدا وكأن قصة ملهمة ستحدث، وللمرة الثانية على التوالي، يطل "تووليت"، ذاك الشاب المقنع، الذي يخفي ملامح وجهه لتتجه الأبصار، فقط نحو أغانيه، ليلقي في الأذهان أسئلة جوهرية تبحث عن إجابات في زمن اللا إجابات: كيف يمكن للمجهول أن يُرى جيداً وسط الغيمات؟ كيف يكون الغلاف مبهما ونقرأ عنوانه بكل وضوح؟ كيف يلمس الصوت هواجس جيل بأكمله بنبرات صوت مختبئة خلف ستار مثقوب؟ هل يريد "تووليت" أن يعبر عن نفسه المتوارية كنوع من الرمز، وكأنه يريد الإعلان عن عدم امتلاك الفنان لملامحه بالكامل وأنه يتماهى مع الجمهور لتذوب ملامح كليهما في تناغم مرئي؟ هل يرى قناعه، بشكل عكسي، "كشفاً للمستور" حول هشاشتنا نحن التي نخفيها ونرفض الإفصاح عنها؟ هل أراد أن يترك لمستمعيه "براحا" ومساحة أوسع للخيال؟ أم أن كل تساؤلاتنا عبثية، وأنه اختار فقط "لوك صادم" يميزه عن جيله ليعتلي به التريند؟
وحين دقت ساعة "كايروكي"، اشتعل الحفل بعرض فيلم وثائقي عن أحداث غزة، ليقتحم "كايروكي" المشهد البطولي، ورغم كونه الحضور الثالث على التوالي على نفس خشبة المسرح، إلا أن ظهوراً خاصاً لاح للفريق بأغنية "تلك قضية"، التي ألهبت حماسة الجمهور بأوجاع الأرض المحتلة، لتمثل إطلالتهم حالة فريدة تستدعي تاريخاً من المقاومة الناعمة، والتمرد على الواقع المرير، وتوالت أغانيهم في نسيج متناغم بقيادة "أمير عيد"، ذي الصوت المبحوح الذي يحمل مزيجاً مدهشاً من الصراخ والتهدج، الشجن والدفء، الخوف والرغبة، بموسيقى "الروك" التي يعشقها الشباب، ويعتبرها وسيلة متاحة للتعبير عن الغضب والأمل في آن واحد، وكانت أكبر المفاجآت ظهور الفنانة أنغام وسط الجموع ليقدم لها أمير عيد التحية والتقدير مع تمنيات الملايين لها بالشفاء، لتكون المفارقة بظهور أنغام كنجمة افتتاح وختام مهرجان العلمين 2025.
عشرات من الأغاني رددها الجمهور، بصحبة "كايروكي"، وترددت أصداؤها عبر المدينة التراثية، لتملأ السمع والأبصار، وتذكّر الجميع بأن الفن الحقيقي لا ينفصل عن الوجع الجمعي، وأن الهوية ليست قيداً خانقاً، وإنما أجنحة مفرودة تستعد للطيران، وكيف لا، و"كايروكي" على مدار عشرين عاماً، قدموا ما يقرب من مائة أغنية، ولامست موسيقاهم وأغانيهم القلق اليومي للشباب، وحاربت قوانين الاستهلاك التجاري للسوق الفني، وظلت أغانيهم تنهش العقول بأسئلة وجودية: كيف يكون الغناء شهادة على العصر؟ كيف يتحول فريق غنائي إلى رمز لـ"فن" يضع الحرية على المسرح قبل الشهرة؟ كيف يمكن الجهر بـ"لا" وسط الغناء، وتصبح الموسيقى وسيلة للرفض؟ كيف ينبت الأمل وسط العتمة بين كلمات الأغاني؟ كيف نرقص على أحزاننا بكل هذه المهارة والكبرياء؟
بين صوت الجماعة ذات الحلم المشترك (كايروكي)، وصوت الفرد الذات المنفردة الباحثة عن معنى خاص (تووليت)، شعر جمهور حفل الختام، أن مهرجان العلمين أراد أن يودع دورته الثالثة بفكرة عميقة مفادها أن الفن لا يعيش إلا حين يجمع بين الاثنين: فلا الجماعة يمكنها الاستمرار دون مغامرة وتجريب الفرد، ولا الفرد يكتمل ويضيء دون جماعة تحتضنه وترعاه، فالجماعة أطلت ببريق الذكريات والتمرد والشجن لتعلي كلمة الرفض والحلم، بينما أطل الفرد ليكسر النسق ويعيد رسم المشهد بشكل أكثر خصوصية في طريقة مخاطبة الجمهور، واختياراته الموسيقية غير المألوفة، بتقديم أفكار جريئة ولون مميز يمزج فيه موسيقى التسعينيات بالراب والهيب هوب، معلناً عن تفرده بخطاب خاص جداً يؤكد فيه أنه "فرد" مختلف، لكنه مشارك نفس اللحظة التي تستحق التخليد.
وهكذا انتهى مهرجان العلمين 2025، لا بألعاب نارية، ولا باستعراضات شكلية، وإنما بصوت موسيقى يؤكد أن الغد آتٍ بأريحية الاختيارات المتعددة، مع سهولة إعادة تشكيل ذائقة أجيال جديدة بعثرتها الأمنيات على قارعة اليأس، جاء الختام بمثابة دعوة علنية مفتوحة للجيل الجديد بأن يصنع صوته الخاص، من أعماق روحه المتناقضة، المتأرجحة، بـ"لغة" مبتكرة، سواء مفهومة أو مبهمة، المهم أنها صادقة نابعة من إرادة حقيقية لفهم الذات والآخر، وكأن الرسالة الأخيرة للمهرجان أن الختام ليس نهاية، بل بداية فصل جديد في رواية العمر المنغمس في متاهات الحوار بين الفن والحياة، لفهم أبعاد العلاقة المتشابكة بين الهدوء والصخب، الصمت والصراخ، بحثاً عن لحظة سعادة، تستحق أن نكتبها، الآن، على الصخور.
اقرأ أيضاً«وحشتيني».. تووليت يشعل حماس الجمهور برسالة لحبيبته في ختام مهرجان العلمين 2025
أسعار تذاكر حفل «تووليت وكايروكي» في ختام مهرجان العلمين 2025
«كايروكي» و«توليت» يختتمان مهرجان العلمين 2025 غدا
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: كايروكي تووليت ختام مهرجان العلمين ختام مهرجان العلمين 2025 ختام مهرجان العلمین 2025
إقرأ أيضاً:
بلال قنديل يكتب: حياة بلا عنوان
ليس أصعب على الانسان من ان يستيقظ كل صباح وهو لا يعرف لماذا يفعل ما يفعل.
يمضي يومه بين العمل والمهام العادية وكأن الحياة مجرد واجب روتيني لا روح فيه.
حين نفتقد الغاية الحقيقية يصبح كل ما نعيشه مجرد خطوات ميكانيكية بلا شعور، ونكتشف بعد مرور سنوات اننا لم نتقدم حقا، بل كنا ندور في دائرة مغلقة.
كثيرون يعيشون حياة بلا عنوان حين ينغمسون في الروتين اليومي من عمل وضغوط واحتياجات مادية دون ان يسألوا انفسهم لماذا يفعلون ذلك. تمر الايام وتتشابه الصباحات والليالي حتى يصبح العمر سلسلة من التكرار الخالي من الروح.
يصبح النجاح مجرد ارقام في حساب مصرفي او ترقيات وظيفية لا تعني شيئا للقلب.
الحياة بلا عنوان تشبه سفينة بلا وجهة. قد تتحرك بسرعة وقد تبحر في محيط واسع لكنها في النهاية تظل عالقة بين الامواج بلا ميناء. وفي لحظة ما حين يتوقف المرء ليتأمل ما مضى يدرك انه عاش كثيرا لكنه لم يعش حقا. عاش ليناسب توقعات الاخرين او ليتفادى الخسارات لكنه لم يمنح نفسه فرصة لاختيار الطريق الذي يؤمن به.
لكي نخرج من هذه الدائرة نحتاج الى لحظة صدق مع الذات. لحظة نسأل فيها بجرأة: ما الذي يجعل حياتي ذات قيمة حقيقية. قد يكون الهدف هو السعي نحو العلم او خدمة الاخرين او بناء اسرة صالحة او تطوير المجتمع او حتى اكتشاف الذات. المهم ان نجد خيطا واضحا يربط بين كل ما نفعل ويمنح الاحداث المتفرقة انسجاما ومعنى.
لا احد يولد ومعه عنوان جاهز للحياة. العنوان يتشكل من التجارب والاخطاء والقرارات الصغيرة التي نأخذها كل يوم.
يتشكل حين نتعلم كيف ننهض بعد السقوط وحين نتمسك بما نؤمن به رغم الصعاب. العنوان الحقيقي لا يمنح لنا من الخارج بل ينبع من الداخل من رغبتنا في ان نترك اثرا طيبا في هذا العالم.
من يعيش بلا عنوان يظل مشتتا بين رغبات متغيرة واهداف سطحية. اما من يضع لحياته عنوانا فيعرف متى يقول نعم ومتى يقول لا.
يعرف ما يستحق التضحية وما يمكن تجاوزه. العنوان يجعل الانسان اكثر تماسكا وثباتا امام تقلبات الايام.
قد يظن البعض ان العنوان يجب ان يكون عظيما وضخما مثل انقاذ العالم او تحقيق انجازات خارقة. لكن الحقيقة ان العنوان قد يكون بسيطا مثل ان تكون انسانا صالحا يسعى لنشر الخير في محيطه الصغير. البساطة لا تقلل من القيمة بل تمنحها صدقا وواقعية.
في النهاية تبقى الحياة بلا عنوان حياة ناقصة مهما كانت مليئة بالاحداث. والاحداث مهما تنوعت تبقى مجرد فصول متفرقة ان لم يجمعها هدف واضح وروح تسعى الى معنى اكبر. العنوان ليس ترفا فكريا بل هو حاجة انسانية تمنحنا القوة على الاستمرار وتجعلنا نعيش بدلا من ان نمضي فقط.