د. عبد الفتَّاح العواري: النبي ﷺ جمع بين صفاء البشريَّة وكمال الرسالة
تاريخ النشر: 3rd, September 2025 GMT
اختتم مجمع البحوث الإسلاميَّة، مساء اليوم، فعاليَّات الأسبوع الدَّعوي العاشر، الذي نظَّمته اللجنة العُليا للدعوة في مدينة البعوث الإسلاميَّة، بندوةٍ تحت عنوان: (بين يدَي المصطفى.. بشريَّة ترفَّعت وعصمة حفظت)، في إطار حملة فاتبعوه التي أطلقها المجمع بمناسبة الذِّكرى العطرة لمولد النبي ﷺ.
. بشريَّة ترفَّعت وعصمة حُفظت"
جاء ذلك برعاية كريمة من الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وبإشراف الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، والدكتور محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميَّة.
وحاضر في الندوة كلٌّ مِن: الدكتور عبد الفتَّاح العواري، عضو مجمع البحوث الإسلاميَّة، والدكتور محمود الهوَّاري، الأمين العام المساعد للدَّعوة والإعلام الدِّيني بالمجمع، فيما أدار الندوةَ الشيخ يوسف المنسي، عضو أمانة اللجنة العُليا لشئون الدعوة.
وفي كلمته أكَّد الدكتور عبد الفتَّاح العواري أنَّ النبي ﷺ جسَّد كمال القدوة في صورة بشرٍ اصطفاه الله برسالته، فكان يعيش بين الناس حياةً طبيعيَّةً؛ يأكل الطَّعام ويمشي في الأسواق، ويتزوَّج النساء، ويُخالِط النَّاس في أفراحهم وأحزانهم، ويعتريه ما يعتري البشرَ مِنْ صفات الخَلْق والجِبِلَّة، غير أنَّ الله -تعالى- قد أكرمه بنورٍ في بصره وبصيرته، وحَفِظَه بعصمته في الوحي والتبليغ، فارتفع بمكانته عن حدود البشر العاديين؛ ليكون القدوةَ والمَثَلَ الأعلى، ويقدِّمَ للبشريَّة نموذجًا فريدًا يجمع بين صفاء الرُّوح وكمال الرسالة.
وأوضح الدكتور العواري أنَّ النبي ﷺ كان معصومًا في أداء الرِّسالة الإلهيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ كان الاتِّباع والاقتداء به واجبًا على كلِّ مسلم في شمائله وأحواله ومعاملاته؛ إذْ تتجلَّى إنسانيَّته ﷺ في صورٍ متعدِّدة؛ منها: رحمتُه بأهله، وإحسانُه لجيرانه، ووفاؤُه لأصحابه، وحُسْنُ خُلُقِه مع مخالفيه في الدِّين، فضلًا عن شمائله العظيمة في السِّلم والحرب، والتزامه بالعهود والمواثيق، وحُسْن معاملته للنَّاس على اختلاف طبقاتهم، مع ما عُرف عنه ﷺ مِنْ كَظْم الغيظ، والتواضع الجمِّ، والرحمة العامَّة، مؤكِّدًا أنَّ هذه القِيَم المتكاملة تجعل مِنْ سُنَّته ﷺ منهاجًا واقعيًّا قابلًا للتطبيق في كلِّ زمانٍ ومكان، وتفتح أمام الإنسانيَّة أبواب السعادة الدنيويَّة والأخرويَّة.
ولفت الدكتور العواري إلى أنَّ السيرة النبويَّة المباركة ترسم للناس معارج الكمال الإنساني، وتُهيِّئ لهم طريق الترقِّي في مدارج الفضائل والقِيَم، فتُعلِّمهم كيف يواجهون تحديات الحياة وهم متشبِّعون بروح الإيمان، وكيف يجمعون بين عمارة الدُّنيا والارتقاء بالرُّوح، مبيِّنًا أنَّ الكمال المطلَق الذي لا نَقْصَ فيه قد خُصَّ به النبي ﷺ وحده؛ ليبقى هو القدوةَ الجامعةَ والميزانَ الحقَّ الذي يُقتدَى به، ويُهتدَى بهديه، وتُقاس على أخلاقه سلوكيَّات البشر؛ مصداقًا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
مِن جانبه، قال الدكتور محمود الهوَّاري: إنَّ محبَّة النبي ﷺ فريضةٌ شرعيَّةٌ وواجبٌ إيمانيٌّ، تُترجَم عمليًّا في واقع الحياة بالاتِّباع والاقتداء، موضِّحًا أنَّ المحبَّة الحقيقيَّة للنبي ﷺ لا تنفصل عن العمل بهديه، والتمسُّك بسُنَّته، وإحياء سيرته في العبادة والمعاملة؛ لأنَّها محبَّةٌ تُغذِّي القلبَ بالإيمان، وتُزكِّي النَّفْس بالأخلاق، وتجعل المؤمنَ أكثر قُربًا مِنْ رسول الله ﷺ في الدُّنيا والآخرة.
وأشار الدكتور الهوَّاري إلى أنَّ سبب الجفاء الذي يعتري بعضَ النُّفوس تجاه سُنَّة النبي ﷺ إنما يرجع في أصله إلى جهلهم بشخصه الشريف، وعدم معرفتهم بحقيقته، فمَن عَرَف النبيَّ ﷺ عن قُرب، ووقف على شمائله العطرة وأخلاقه الكريمة؛ لم يملك إلا أن يُحبَّه ويوقِّرَه ويتَّخذَ منه قدوةً ومعلِّمًا، أمَّا الذين أعرضوا عن سُنَّته، فإنما أعرضوا لأنَّهم لم يذوقوا حلاوة معرفته، ولم يتأمَّلوا سيرته التي تأسر القلوب، وتفتح أبواب الهداية، مؤكِّدًا أنَّهم لو عَرَفوه حقَّ المعرفة لأحبُّوه، ولو أحبُّوه لاتَّبعوه؛ إذْ لا تنفكُّ المحبَّة الصَّادقة عن الاتِّباع والاقتداء؛ وبذلك يظلُّ حُبُّ النبيِّ ﷺ ميزانًا فارقًا بين إيمان صادق وشعارٍ أجوف لا يجاوز اللسان.
ونفَّذت اللجنة العُليا للدَّعوة بمجمع البحوث الإسلاميَّة فعاليَّاتِ الأسبوع الدَّعوي العاشر بمدينة البعوث الإسلاميَّة تحت عنوان: (مداد النبوَّة.. سيرة المولد ومنهج القدوة)، في إطار مشروعٍ دعويٍّ متكاملٍ استلهم السيرةَ النبويَّة، وربط الحاضر بمقاصدها الخالدة، وقد تناولتِ الندواتُ خلال أيام هذا الأسبوع قضايا متنوِّعةً أبرزتْ قيمةَ الفرحِ المشروعِ بذِكرى المولد الشَّريف، وضوابط الاتِّباع الصَّحيح، وأكَّدت أنَّ سيرة النبي ﷺ ما تزال المنبع الأصيل لبناء الوعي، وتجديد الإيمان، وترسيخ القِيَم التي تقوم عليها وَحدة الأمَّة ونهضتها.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: البحوث الإسلامية مجمع البحوث الإسلامي ة النبي مدينة البعوث البحوث الإسلامی النبی ﷺ
إقرأ أيضاً:
دراسة هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري (7)
أ.د. حيدر أحمد اللواتي **
عندما سُئل سترلينج عن أهم شيء في حياته، أجاب بلا تردد: "أولادي، هم أثمن ما أملك." كانت كلماته تفيض بالحب، وكان يعز شقيقته وأمه التي تبنته بحنان لا يُوصف، لكن خلف هذه الكلمات الدافئة، كانت هناك قصة مختلفة تماماً.
في عام ١٩٨٦، جاء جورج فايلانت، أحد الباحثين الرئيسين السابقين، لزيارة سترلينج في مدينته الصغيرة، وجد الرجل يعيش وحيداً في قاطرة متنقلة قديمة، بعيدة عن دفء العائلة التي يردد أنها أغلى ما في حياته، لم يتواصل مع زوجته منذ ١٥ عاماً، ليس بسبب الكراهية، بل لأنه لم يستطع تحمل فكرة الطلاق وتأثيره على أولاده، وكان الهاتف هو الوسيلة الوحيدة بينهما، لمجرد الاطمئنان من بعيد.
لاحظ جورج شيئاً غريباً: حزام الأمان في المقعد المجاور للسائق مغطى بالغبار، وكأنَّه لا يجلس أحد إلى جانبه منذ زمن بعيد، ما الذي حدث لرجل يحب أسرته بهذا الشكل ولا يملك رفيقاً في رحلاته؟
كان سترلينج قد تجاوز الستين، متقاعداً، يدرس الإيطالية لأنَّ ابنته تعيش هناك، ولربما حدث وأن احتاجت له، لذا أعد نفسه لهذه المهمة، لكن عندما سأله جورج عن ابنته، كانت الإجابة موجعة: "لم أرها منذ سنوات، رغم دعوتها لي، اعتذرت لأنني لا أريد أن أكون عبئاً عليها." وعندما سأله عن أحفاده قال: "هم بخير، يعيشون حياتهم، ولا يحتاجونني" ثم تحدث عن روتينه الوحيد، زيارة جارته المسنة في العشاء، مشاهدة التلفاز معها حتى تغفو، ثم يعود وحيداً إلى قاطرته، وتنهد بمرارة: "أخشى أن تموت جارتي، لأنني لا أعرف كيف سأقضي وقتي بعدها."
وقد يلاحظ القارئ الكريم أمرا عجيبا، فكيف لرجل يحب أولاده بهذا القدر أن يبتعد عنهم؟ لماذا يتجنب قضاء الوقت معهم رغم أنه يقول إنهم أهم ما في حياته؟
لنعود بالزمن إلى طفولته، ولد سترلينج عام ١٩١٦، وتربى على يد أخته روزلينا التي كانت بمثابة الأم له، لكن الحياة لم تكن رحيمة به، فقد أخته التي تزوجت وانتقلت بعيداً، وبعد مدة فقد الأم التي تبنته بعد ذلك.
هذا الفقد العميق ترك جرحاً لا يندمل في قلب سترلينج، كان يخشى أن يسبب فراقه نفس الألم لأولاده وأحفاده، فاختار البقاء بعيداً، محباً من بعيد، لكن مبتعداً، لم يكن بحاجة لهم مادياً أو صحياً، لكنه كان يعاني من وحدة قاتلة وصمت مؤلم، لم يهنأ بالسعادة قط.
قصة سترلينج ليست فقط قصة رجل وحيد، بل هي درس بليغ للأبناء، فالأب قد يكون مقتدرا ماديا ومعافا من الأمراض، ويمارس حياته بصورة طبيعية، لكنه يعاني من ألم فراق أولاده ويشعر بمحنة الوحدة بشدة ولكنه قد لا يتجرأ في التواصل مع الأبناء خشية أن يثقل عليهم أو أن يحرجهم أو ربما يخشى أن يسمع ردا منهم قد يؤثر في نفسه سلبا، ولذا فلابد للأبناء أن يكونوا واعين لذلك، لأن الأب يأبى أن يظهر ضعيفا محتاجا الى أبنائه ولذا يصعب عليه أن يسألهم، وعليهم أن ينتبهوا لذلك وأن يقوموا بدورهم برعايته وزيارته بصورة مستمرة، وأن يعرضوا خدماتهم عليه بين فينة وأخرى بل ويصروا على أبيهم بأن يخرج في نزهة أو يتناول العشاء معهم، لأن الدراسات العلمية تشير وبوضوح إلى أن الشعور بالوحدة يولد أمراضًا لا حصر لها، كما لاحظ الباحثون أنَّ الآباء تتحسن نفسيتهم ويقل الشعور لديهم بالآلام الجسدية في الأيام التي يقوم الأولاد بها في زيارتهم بشكل واضح وملحوظ.
ومن المهم التنبيه على أمر ذات أهمية بالغة، وهو التفريق بين الوقت وابداء الاهتمام، فالبعض قد يحرص على زيارة أبيه ولكنه عمليا لا يقضي وقته معه، لأنه لا يعيره أي انتباه أثناء زيارته، فذهنه مشغول بأمور أخرى، وإذا أحس الأب بذلك فان ذلك يزيد من شعوره بالوحدة والألم، فالانتباه اليه هو أول علامة لحبك إياه، واهتمامك بأمور أخرى بمحضره يشعره بأنه أمر ثانوي في حياتك، فيزيد ذلك من شعوره بالوحدة.
على الرغم من استرلينج، كان ناجحا في حياته العلمية، فلقد كان متخصصا في مجال علوم المادة، واستطاع أن يحافظ على صحته ونشاطه، كما أنه استطاع أن يوفر حياة كريمة ينعم بها، ولكنه لم يكن سعيدا، بل كانت الوحدة رفيقه والتعاسة لا تفارقه، والسبب في ذلك أبناؤه الذين أحبهم بكل جوارحه ولكنهم فارقوه ظناً منهم أنه ليس بحاجة إليهم!.
إذا كنت ممن تنعم بوجود والديك فاحرص على أن تجعل زيارتك لهما جزءًا من نظام حياتك، وليكن هدفك من الزيارة أن تزيح عنهم ألم الشعور بالوحدة وإدخال السرور على قلوبهم، فذلك عمل عظيم سيُسعدك في الدنيا والآخرة.
للحديث بقية...
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر