منذ أيام بسيطة، كنت وصديق مصري نتهاتف، يعمل صحفيا ويعيش في بيروت. دائما ما تأخذنا الأحاديث عن المستقبل الفلسطيني، والعربي، في ظل تحولات المنطقة العربية وتفشّي هيمنة الاحتلال والاستبداد علينا، نحن الشعوب. وأخذنا الحديث إلى السفن التي أبحرت من برشلونة نحو غزة لكسر الحصار، وحول دور المثقفين، وعن الشخصيات المشاركة، وأنها من جنسيات أجنبية، وأي عربي بينهم فهو لديه جنسية أجنبية أُخرى، كحماية له من التوحش الإسرائيلي عند الاعتقال، فالعربيّ في عين الإسرائيلي مُستباح أبديّ.
من هنا، جاءتني طرح إشكالية جمود المفاهيم التي تروَّج، لا سيما في اللحظة الحالية، مثل مفاهيم المثقف المشتبك والمهزوم (الذي يحاول مقاومة انهزاميتِه)، المعزول والسلطوي والعضوي، وغير ذلك من أوصاف للمثقف، في أحايين كانت تصفه بإنصاف، وفي أُخرى تتجنَّى عليه، بل وتنزع عنه لباس إنسانيته، وسياقه وظرفه الزماني والمكاني، والأهم ماضيه. وكأن المثقف، في عالمنا الحالي، تحول إلى آلة لها دور مُحدد، وإن خالفته سقطت من أعين الناس، التي دائما ما تبحث عن الصورة المثالية والدائمة، متجاهلة كل السياقات التي يمرُّ بها الواقع.
كثيرا ما وُصِف المثقف بمفاهيم مُختلفة؛ "العضوي"، كما يسمّيه الفيلسوف الإيطالي غرامشي، و"العمومي"، الذي يمتلك المعرفة ويوصلها إلى كافة الناس بشرائِحهم وطبقاتهم المتباينة، وفي جيل الانتفاضات العربية، لا سيما الأجيال المهمومة بقضية تحرير فلسطين، برز وصف المثقف "المُشتبك"، وهو المثقف الذي يمتلك الوعي لكنه لا يكتفي بمعرفته وقدرته على التحليل السياسي والثقافي، بل يذهب بجسده كي يمارس الاشتباك مع السُلطة الذي ينظّر معرفيا للخلاص منها.
الآن، في ظل حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، باتت صورة المثقف جامدة، ونُزعت منه إنسانيته، فإما أن يكون مثقفا مُشتبكا أو مهزوما، لا مفرّ من الأبيض والأسود. وهنا المشتبك، لا كما كنَّا نعرّفه. باسل الأعرج، الفلسطيني الذي يكتب بيد والسلاح في أُخرى؛ كَتب، سأل، بحثَ، وجدَ، قاتَل، وقُتل.. هكذا هي حكايته، حكاية الثقافة والاشتباك والتحرر، الذي أخذها البعض من الميدان إلى مواقع التواصل الاجتماعي. تتابع "الريلز" (لا يتعدى 3 دقائق) جيدا، ومن ثم تكتب أو تُشارك أي تحليلات تخص النصر وزوال الاحتلال، عن قريب جدا، وغير ذلك من تصوّرات في غير محلّها بتناقضها لمعطيات الواقع. هكذا تكون مثقفا مُشتبكا صحيحا، ومتكاملا عند بعض من جمهور السوشيال ميديا.
في المقابل، وُجِدَ المثقف المُهزوم، بحكم تجربته، كما بحكم مشهدية الواقع المأساوي، وهو يحاول تتبع المعرفة، ورصد التحليلات التي تخص واقعنا المُنهزم، كما كان وأشدَّ بعد نكسة 67. ليس دفاعا عن الهزيمة، فالانهزاميّ غير المهزوم، فالأول هو الذي قرر أنه لن يحاول، وأنّه قدريا كُتب علينا الانهزام. أما الثاني فهو الذي حاول، ولا زال، رغم تدميره الإنساني، بل ويبحث عن الحلول عبر المعرفة، والذي عبرها يرى جيدا أن منظومات الاستبداد والاحتلال باتت عصيّة على إصلاحها أو تدميرها، وقد تمكّنت بفعل هيمنتها التوحشيّة في إيقاع الهزائم بنّا، نفسيا وجسديا.
ليس دفاعا عن المثقف العربي، بل هذا دوره الحقيقي والقدريّ في عالم الاستعمار الغربي، أن يعاني ويتألم من أجل ما اختاره من مكانة ليس فيها أي رفاهية خلال لحظتنا الحالية. إنها لحظة تاريخية، لنا، تمارَس علينا بفعل قوى الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، قوى السلاح الذي فتَك بنا، بأجسادنا وحارتنا وبيوتنا وألعاب أطفالنا وأصواتهم (صوت هند رجب الحقيقيّ لا التمثيلي)، بجانب قوى الاستبداد التي مارست علينا شتى أنواع التدمير (سُلطوية السيسي مثالا).
كل هذا التدمير يقع على "المثقف"، الإنسان الباحث الذي حاول -ولا زال- تنظيم المعرفة والسياسة من أجل الإصلاح والثورة والتغيير. لكن، ربما فرغت بل واستُلبت منه طاقته الإنسانية -التي لا يجب تجاهلها- فالمُثقف، الذي يقف في طابور طويل تملؤه ملامح أنقاض أوطانه المدمّرة، للتقدم بطلب لجوء في باريس (وغيرها من المدن)، في وقت تُباد بلاده العربية بسلاح غربي (فرنسي) أمريكي وأوروبي، هو مثقف مُنهزم، إنسانيا هُزِمَ على غير إرادته. حاول النصر في وطنه، فهُزمَ بالقتل والتدمير، ووجوده أمام بوابات اللجوء لا يعني سوى أنه هرب من السجن، إلى المقبرة (إن وجدت) أو المخيم.
عودة إلى تفهم الهزيمة الشخصية وربما الجماعية، والتفهم لا يعني الاستسلام، بل هو تحديد لموقع ما، موقعنا الذي واجب على الجميع أن يغادره ويكسر جدراه، ونفهم كيف نكسِّر تلك المواقع التي حوصرنا فيها قسرا بسبب أدوات الهيمنة. المثقف ليس شخصا، بل هو حالة إنسانية يجب أن نتفَهمها، إنسانيا أولا، فمن يشتبك مع قوى الهيمنة ليس مطلوبا منه أي يستمر في الاشتباك دون الوقوع. الوقوع إنساني جدا (انتحار أروى صالح وجنون لؤي كيالي)، ولا يعني الموات التام، بل يعني إعادة النظر وتأطير الرؤى للنهوض مرة أُخرى، والاشتباك ليس معرفيا فحسب، بل ممارساتيّا للخلاص من الواقع المهزوم.
وكون أن الثقافة أو الهزيمة أو المقاومة ليست فردا، بل هي حالة، فستجد من لديه الروح، في ظل مَوات الأرواح، لإعادة إنتاج المقاومة واستمرارها بكل أشكالها. في مصر، والعالم كلّه، لا تزال الصرخات موجودة، فرغم السياسات التوحشية لسلطوية السيسي، إلَّا أن شخصيات مستقلة وتنظيمية، فكرية وسياسية، أعلنت انضمامها لأسطول الصمود العالمي، وبدورها تحاول قدر إمكانها تنظيم نفسها للالتحاق به من الشواطئ المصرية، غير آبهة بالعقبات التي ستواجهها من السُلطوية. توجد هزيمة، لكن مهما كان حجمها بإمكاننا الخروج منها، والمقاومة الملتحمة بالثقافة شرط أساسي لهذا الخروج.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء مصري العربية غزة المثقفين الإنساني مصر غزة إنسان عرب مثقف قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: الجهل والأمية الرقمية والدينية أخطر تحديات تواجه المجتمعات
أكد فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الندوة الدولية الثانية للأمانة العامة للإفتاء التي ستُعقد يومي الاثنين والثلاثاء المقبلين تمثل محطة علمية مهمة تهدف إلى تجديد وعي الأمة وصون عقلها الجمعي، ومواجهة التحديات الفكرية والمعرفية التي يفرضها الواقع المعاصر.
وأوضح مفتي الجمهورية، - في تصريحات لوكالة أنباء الشرق الأوسط - اليوم - بمناسبة قرب انعقاد الندوة الدولية الثانية تحت عنوان: «الفتوى وقضايا الواقع الإنساني: نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة»، أن الجهل والأمية بأنماطها العلمية والرقمية والدينية تُعد من أخطر القضايا التي تهدد بناء الإنسان، والأمن الفكري، والهوية الدينية في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم.
وأشار فضيلته إلى أن مفهوم الأمية لم يعد مقصورًا على عدم القدرة على القراءة والكتابة، بل اتسع ليشمل أمية علمية ورقمية ودينية، وهو ما يؤثر سلبًا في وعي الإنسان وقدرته على التمييز بين المعرفة الصحيحة والخطاب المضلل، مؤكدًا أن الفتوى الرشيدة كانت ولا تزال ركيزة أساسية في بناء الوعي الديني السليم؛ باعتبارها حلقة وصل بين النصوص الشرعية وواقع الناس المتغير، وتسهم في ترشيد السلوك الاجتماعي وفق مقاصد الشريعة وقيمها العليا.
وشدد مفتي الجمهورية على أن ممارسة الإفتاء لا تؤتي ثمارها إلا إذا صدرت عن أهل العلم الراسخين الذين يجمعون بين فقه النصوص وفقه الواقع، ويحسنون تنزيل الأحكام على القضايا المعاصرة بما يراعي مصالح الأمة ويدرأ عنها المفاسد، ويحقق مقاصد الشرع الشريف في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، محذرًا من أن الجهل والأمية بصورهما الحديثة يمثلان بيئة خصبة لانتشار الفتاوى الشاذة والآراء المتطرفة، لا سيما في ظل تنامي الإفتاء العشوائي عبر منصات التواصل الاجتماعي خارج الأطر العلمية والمؤسسية.
وأكد فضيلته أن الواقع الراهن يتطلب مشروعًا حضاريًّا متكاملًا يعالج الأمية الدينية والعلمية والرقمية، ويعزز المفاهيم الشرعية الصحيحة، ويؤسس لنهضة معرفية وفكرية تُكسب الفرد القدرة على الفهم الواعي، والنقد البنّاء، والتعامل المسؤول مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، مشيرًا إلى أن مواجهة الأمية لم تعد ترفًا فكريًّا، بل ضرورة لحماية الأمن الفكري وصون صورة الإسلام من التشويه، وبناء وعي جمعي قادر على الإسهام في النهضة الحضارية.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الندوة ستتناول هذا المحور من جوانبه المختلفة، بدءًا من قضايا التعليم الإلزامي والحق في المعرفة وتصحيح المفاهيم، مرورًا بدور العبادات المالية في دعم التعليم ومحو الأمية، وأثر الأمية الدينية في عصر الذكاء الاصطناعي على تشكيل وعي طلاب الجامعات، فضلًا عن دراسة العلاقة بين الأمية الدينية والرقمية، وكيفية استغلال الخطاب المتطرف للفضاء الإلكتروني في نشر الانحرافات الفكرية، وبحث سبل التكامل بين التثقيف الديني والعلمي والرقمي في ترسيخ الوعي المجتمعي بالفتوى الرشيدة، وصولًا إلى تحليل أثر الأمية الرقمية في انتشار الفتاوى المضللة على منصات التواصل الاجتماعي.
واختتم مفتي الجمهورية تصريحاته بالتأكيد على أن دار الإفتاء المصرية ماضية في أداء رسالتها العلمية والإنسانية لتعزيز الوعي الديني الرشيد، وترسيخ منهج الاجتهاد المؤسسي بوصفه خط الدفاع الأول في مواجهة التطرف وصون كرامة الإنسان، موضحًا أن هذه الندوة تأتي استكمالًا لندوة العام الماضي، وتتزامن مع الاحتفال بـ«اليوم العالمي للإفتاء»، الذي أقرته الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم تحت مظلة دار الإفتاء المصرية، ليكون مناسبة سنوية تُجدد فيها الأمة عهدها مع العلم والاجتهاد والوعي.