الدم والمال المهدور: قراءة في فساد المنظومة السياسية
تاريخ النشر: 9th, September 2025 GMT
آخر تحديث: 9 شتنبر 2025 - 9:52 ص بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي منذ عام 2003 دخل العراق مرحلة سياسية واجتماعية جديدة، لكن هذه المرحلة لم تُترجم إلى استقرار أو تنمية بقدر ما كشفت عن تعقيدات أعمق في إدارة الدولة. خلال أكثر من عقدين، تراكمت أزمات متشابكة: انهيار البنية التحتية، تدهور الخدمات، تفشي الفساد، وتراجع ثقة المواطن بالدولة.
هذا التراكم لا يمكن فهمه بوصفه أحداثًا متفرقة، بل هو نتاج بنية سياسية وإدارية تأسست في ظل الاحتلال وما تلاه من نظام محاصصة رسّخ ثقافة الفساد بوصفها جزءًا من آلية الحكم. تشير بيانات مؤشر الشفافية الدولية لعام 2024 إلى أن العراق حصل على 26 نقطة فقط من أصل 100، محتلاً المرتبة 140 من بين 180 دولة، وهو ما يعكس عمق الأزمة في إدارة المال العام ومؤسسات الدولة. وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن الخسائر الناتجة عن الفساد منذ عام 2003 تراوحت بين 150 و300 مليار دولار، وهو رقم يعكس الأموال التي أُهدرَت نتيجة المحاصصة، التواطؤ، وغياب الرقابة الحقيقية. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل شواهد على أن الفساد أصبح جزءًا من هوية الدولة نفسها، وأن المواطن العراقي هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة.الفساد في العراق لم يعد مجرد انحراف فردي أو ممارسات هامشية، بل تحول إلى منظومة قائمة بذاتها، لها أدواتها وشبكاتها ووسائلها في إعادة إنتاج ذاتها. وقد انعكس هذا التحول على طبيعة القرار السياسي والإداري، حيث أصبحت المصالح الخاصة تتغلب على المصلحة العامة، وأضحى الحفاظ على توازن القوى بين الأحزاب والتيارات أهم من الالتزام بالقانون أو بمبادئ الإدارة الرشيدة. لذلك فإن كل محاولة لإصلاح شكلي أو إصدار قوانين مكافحة الفساد من دون معالجة جذور البنية السياسية لا يعدو أن يكون خطوة شكلية لا تغيّر من الواقع شيئًا. وليس الفساد محصورًا في المشاريع المحلية فحسب، بل امتد إلى صفقات كبيرة بموازنة هائلة أُنفقت على أجهزة ومعدات لم تؤدِ الغرض المنشود. فمثلاً، استورد العراق أجهزة “سونار” للكشف عن المتفجرات، وكُلفت مبالغ طائلة، إلا أنه تبين بعد ذلك أنها مجرد أدوات بلا قيمة، أشبه بلعب الأطفال. وأدين المصدر في القضاء البريطاني، بينما لم يُوجَّه المستورد العراقي إليه حتى سؤال واحد، مما يسلط الضوء على خلل جسيم في الرقابة ومساءلة المسؤولين المحليين. هذه الحادثة تعكس بشكل صارخ كيف يمكن أن تتحوّل الموارد العامة إلى أدوات لتثبيت النفوذ والولاءات، لا إلى أدوات حماية المواطن أو تعزيز الأمن.وتتجلى خطورة هذه المنظومة في أن آثارها لم تتوقف عند حدود الفشل الإداري أو هدر الموارد، بل امتدت إلى حياة الناس اليومية. ولعل أحدث الشواهد على هذه المأساة ما جرى قبل يومين في كربلاء ، حيث انهار مجسر قيد الإنشاء، ما أدى إلى سقوط نحو 12 مواطنًا بين قتيل وجريح، وكانوا يعملون أو يمرون قرب المشروع. هذه الحادثة لم تكن مجرد خلل هندسي عابر، بل نتيجة مباشرة للتعاقدات القائمة على الولاء السياسي لا على الكفاءة المهنية، وهي تلخص بدقة كيف تتحول مشاريع التنمية إلى أفخاخ موت، وكيف يُختزل العمران إلى واجهة هشة سرعان ما تنهار. وقبل هذه الفاجعة بسنوات، اهتزت الناصرية بحادثة احتراق مستشفى الحسين التعليمي (المعروف بالخصيب)، الذي راح ضحيته نحو 28 مريضًا، معظمهم عاجزون عن الحركة أو تلقي العلاج، في مشهد يعكس ضعف البنية التحتية وغياب اشتراطات السلامة. المستشفى، المفترض أن يكون ملاذًا للعلاج، تحوّل إلى مكان للموت الجماعي. هذه الحوادث ليست استثناءً، بل جزء من سلسلة كوارث مشابهة تكشف نمطًا متكررًا: مشاريع تُدار بصفقات سياسية، وإهمال إداري ممنهج، وغياب محاسبة حقيقية.إن تكرار مثل هذه الحوادث يرسّخ القناعة بأن الفساد في العراق ليس مجرد سلوك خاطئ، بل هو جزء من آلية إنتاج السلطة. فالمجسر الذي ينهار، أو المستشفى الذي يحترق، أو شبكة الكهرباء التي تتعطل كل صيف، ليست أعطالًا تقنية فحسب، بل مظاهر لسياسة أوسع تتغلب فيها الولاءات الحزبية والمحاصصة على الكفاءة والمهنية. إنها شواهد على أن المواطن هو الحلقة الأضعف، وأن دمه وأمنه وصحته تقع دائمًا في المرتبة الأخيرة أمام مصالح النخب السياسية. من زاوية تحليلية، أعادت هذه المنظومة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالدولة التي يُفترض أن تكون إطارًا ضامنًا للحقوق والحريات، تحوّلت في وعي المواطن العراقي إلى مصدر تهديد، سواء عبر الإهمال أو عبر السياسات التي تشرعن استمرار الفساد. ونتيجة لذلك، ارتفعت درجة الوعي الشعبي تجاه خطابات التبرير، فلم تعد تنطلي محاولات إلقاء اللوم على “طرف ثالث” أو الحديث عن “أخطاء فنية”. فكل كارثة جديدة تؤكد أن جذور المشكلة متجذرة في طريقة إدارة الدولة.ولا يمكن تجاهل أن هذا الوعي الشعبي يمثل عنصرًا حاسمًا في المشهد العراقي الراهن. فمع تراكم الأزمات، بات المواطن أكثر قدرة على ربط الحوادث الفردية بالبنية العامة للنظام السياسي. ومع كل انهيار أو حريق أو أزمة خدمية، يتأكد أن الدولة فقدت قدرتها على القيام بوظائفها الأساسية، وأن استعادة الوطن تتطلب مراجعة جذرية لا إصلاحات سطحية.إن أخطر ما يواجه العراق اليوم ليس حجم الخسائر وحده، بل استمرار منظومة سياسية واقتصادية أثبتت عجزها عن الإصلاح الذاتي. فالمأساة لم تعد طارئة، بل تحولت إلى حالة بنيوية. لذلك أي مشروع وطني يسعى لاستعادة العراق يحتاج إلى تفكيك هذه المنظومة من جذورها، وإرساء قواعد للحوكمة تستند إلى الشفافية والمساءلة والعدالة.بهذا المعنى، يمكن النظر إلى كل كارثة – من فضيحة أجهزة السونار، إلى انهيار المجسر في كربلاء، وصولاً إلى احتراق مستشفى الناصرية – ليس بوصفها حوادث معزولة، بل علامات فارقة على مسار انهيار طويل، وتشكل حوافز لإعادة التفكير في شكل الدولة ومستقبل العقد الاجتماعي. إذا كان الشعب قد دفع ثمن هذه الكوارث من دمائه وصحته وكرامته، فإن الدرس الأهم هو أن الصمت على استمرار هذه المنظومة لم يعد خيارًا، وأن الإصلاح الحقيقي لن يتحقق إلا عندما تتغير القواعد التي تنتج السلطة وتعيد إنتاج الفساد معها، وفي مقدمتها إقرار قانون انتخابي عادل يقوم على نظام الدوائر المتعددة بما يضمن تمثيلًا أوسع وعدالة سياسية أكبر، وهذا ما طالبت به مرجعيتنا الرشيدة.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: هذه المنظومة
إقرأ أيضاً:
نائب الشيوخ: المنظومة المالية للتمكين الاقتصادي تؤسس لمرحلة جديدة من العدالة التنموية
أشاد النائب أحمد سمير، عضو مجلس الشيوخ، بقرار رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي الخاص بإنشاء برنامج المنظومة المالية الاستراتيجية للتمكين الاقتصادي، معتبرًا أن القرار يعكس رؤية الدولة في التحول من الرعاية إلى التمكين، ومن الدعم إلى التنمية.
خطوة استراتيجية نحو تحقيق الشمول المالي
وأوضح سمير في تصريح خاص لـ صدي البلد أن البرنامج يمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق الشمول المالي وتعزيز العدالة التنموية من خلال دمج الفئات الأولى بالرعاية داخل الدورة الاقتصادية الرسمية، مشيرًا إلى أن هذا التوجه يسهم في بناء اقتصاد اجتماعي قوي يربط بين العدالة الاجتماعية والنمو الإنتاجي.
وأكد عضو مجلس الشيوخ أن توحيد الجهود الوطنية وتكامل مؤسسات الدولة في منظومة واحدة للتمكين الاقتصادي يعزز من كفاءة الأداء ويقلل من ازدواجية الإنفاق، لافتًا إلى أن البرنامج سيتيح فرصًا جديدة للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، ويدعم مشاركة المرأة والشباب في النشاط الاقتصادي.
واختتم أحمد سمير تصريحه بالتأكيد على أن الدولة المصرية تسير بخطى ثابتة نحو تمكين المواطن من أدوات الإنتاج والعمل، وهو ما يحقق تنمية مستدامة متوازنة بين البعد الاجتماعي والاقتصادي، ويجسد توجهات الجمهورية الجديدة في بناء إنسان منتج وقادر.