الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل مولده ﷺ رحمة للعالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة وهداية، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يطلُّ علينا شهر ربيع الأول من كل عام ليذكّر الأمة الإسلامية بميلاد أعظم مولود، وأكرم مخلوق، حبيبنا ونبينا محمد ﷺ، ذلكم الحدث العظيم الذي غيَّر مسار التاريخ، وأخرج الإنسانية من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، فمولده لم يكن مجرد ميلاد إنسان عادي، بل كان إيذانًا بميلاد أمة، وبداية عهد جديد للبشرية جمعاء.

نعم، كان إيذانًا بفجر جديد أشرق على البشرية كلها، إنه مولد سيد الخلق، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي جاء إلى الدنيا في مكة المكرمة في عامٍ عُرف بعام الفيل، ليكون بداية عهد جديد تتغير فيه موازين القيم وتُرسم فيه ملامح حضارة إنسانية متفردة.

إن عشية مولد النبي ﷺ كان العالم غارقًا في ظلمات الجهل والتفكك؛ ففي الجزيرة العربية سادت العصبية القبلية، وانتشرت عبادة الأصنام، وذُلّت المرأة حتى وُئدت وهي طفلة بريئة، ولو نظرنا إلى المجتمع المحيط بالجزيرة العربية لوجدنا أن القوى العظمى آنذاك، كانت تتمثل في  الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وهما أيضًا قد أنهكتهما الصراعات الداخلية، وغرقتا في ظلم اجتماعي وفوارق طبقية قاسية.

لم يكن هناك نور هداية يبدد تلك الظلمات، ولم تكن هناك رسالة توحد البشر على أساس من العدالة والرحمة، ومن هنا جاء مولد النبي محمد ﷺ ليكون بداية فصل جديد في تاريخ الإنسانية، فصل عنوانه الحرية والعدالة والرحمة.

لقد وُلد النبي ﷺ يتيمًا ، ثم فقد أمه في سن مبكرة، ليعيش منذ طفولته تجربة الفقد والمعاناة، غير أن هذا اليُتم لم يكن ضعفًا، بل كان إعدادًا لقلب سيحمل همّ الأمة كلها.

ثم رُبّي النبي المصطفى ﷺ في كنف جده عبد المطلب، ثم عمّه أبي طالب، ليشبّ معروفًا بالصدق والأمانة، حتى لُقّب بين قومه بالصادق الأمين.

كان ميلاده بشارة كما جاء في الكتب السماوية السابقة، ودليلًا على رحمة الله بعباده، إذ قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} () .

إن مولد النبي ﷺ لم يكن حدثًا منفصلًا عن مسيرة نبوته، بل كان مقدمة لرسالة عظيمة ستُحدث تحولًا هائلًا في مسار التاريخ، فبعد أربعين عامًا من مولده الشريف، نزل الوحي في غار حراء يحمل التكليف الإلهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}() ومنذ تلك اللحظة انطلقت الرسالة التي رفعت الإنسان من عبادة الحجر إلى عبادة رب البشر، ومن ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة، ومن عبودية الأهواء إلى كرامة التوحيد.

لقد كان مولد نبينا محمد ﷺ ميلادًا لقيم إنسانية لم تعرفها البشرية مجتمعة من قبل، ومن أجل هذه القيم : الرحمة الشاملة، حيث شملت رحمته الإنسان والحيوان والبيئة، حتى قال ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن" () ، ومن تلك القيم : المساواة والعدالة: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومن هذه القيم الغراء : أنه حفظ حقوق المرأة، فرفع مكانتها بعد أن كانت مهانة، وأعطاها حق الإرث والكرامة والمشاركة في الحياة، ومن أعظم هذه القيم التي نادى بها نبينا ﷺ الحرية الدينية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }()، وأيضا إعلاء قيمة العلم، فكانت أول آية في القرآن الكريم دعوة للقراءة والعلم.
هذه القيم التي انبثقت من رسالته جعلت مولده بداية حقيقية لعصر جديد في تاريخ البشرية.

لم يكن الإسلام رسالة روحية فقط، بل كان مشروع حضارة شاملة، فقد أسس النبي ﷺ مجتمعًا في المدينة المنورة يقوم على دستور المواطنة والعدل، حيث عاش المسلمون واليهود والمشركون في ظل وثيقة المدينة التي كانت من أوائل الدساتير المكتوبة في التاريخ.

ومن هذا المجتمع انطلقت حضارة إسلامية امتدت من الأندلس غربًا إلى الصين شرقًا، حملت معها العلوم والفنون والطب والفلسفة، وأسهمت في النهضة الأوروبية فيما بعد، وكل ذلك يعود إلى ذلك الحدث العظيم: مولد النبي محمد ﷺ.
وختاما يمكن القول : بأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان فجرًا جديدًا للبشرية، أضاء ظلمات الجهل، وأقام ميزان العدل، وفتح أبواب الرحمة، وإذا كان العالم اليوم يبحث عن قيم تُعيد للإنسان كرامته، فإن العودة إلى سيرة النبي الكريم محمد ﷺ والاقتداء به ليست ترفًا فكريًّا، بل ضرورة إنسانية وحضارية، لقد وُلد النبي الأكرم محمد ﷺ ليُعلّم الناس كيف يعيشون بسلام وعدل ورحمة، وسيظل مولده الشريف رمزًا متجددًا للأمل بأن الليل مهما طال، فلا بد أن يشرق فجر جديد.

بقلم د. أحمد رزق درويش
أستاذ الحديث وعلومه المساعد بجامعة الأزهر، عضو مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الالكترونية

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: مولد النبی هذه القیم النبی ﷺ محمد ﷺ لم یکن بل کان

إقرأ أيضاً:

محمد مندور يكتب : خالد العناني ورمزية الانتصار الثقافي في اليونسكو

في السادس من أكتوبر 2025، لم يكن خبر فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) مجرد عنوان دبلوماسي عابر في نشرات الأخبار بل لحظة رمزية تعيد مصر إلى قلب المشهد الثقافي العالمي وتمنح العالم العربي وإفريقيا صوتا قويا في واحدة من أهم مؤسسات التراث الإنساني في العصر الحديث.

هنا أعني أهمية ورمزية هذا الفوز باعتباره انتصارا ثقافيا.. فلأول مرة منذ تأسيس اليونسكو عام 1945 يتولى عربي ومصري إدارة المنظمة التي تعني بحماية التراث العالمي ودعم أنظمة التعليم والثقافة والعلوم.

الحقيقة ان فوز العناني لم يكن مصادفة أو حسن حظ لهذا الرجل بل هو جهد دبلوماسي كبير ومسيرة علمية وإدارية طويلة للعناني جمع فيها بين المعرفة الأكاديمية العميقة بالجامعات والخبرة الميدانية في إدارة الآثار والسياحة.

تعرفت على العناني منذ كان وزيرا للآثار ثم وزيرا للسياحة والآثار ورأيت فيه شخصية المرشد السياحي من جانب وشخصية الأكاديمي من جانب اخر وفوق هذا كله رجل دولة يحمل على عاتقه ملفات كبرى مثل افتتاح المتحف المصري الكبير واستعادة مئات القطع الأثرية من الخارج وإطلاق مشروعات حماية التراث في ظل تحديات وتراكمات كثيرة . والآن مع توليه منصب عالمي رفيع أراه ينتقل بهذه الخبرة إلى منصة عالمية حيث تمتد مسؤولياته إلى أكثر من 190 دولة.. واثق انه أهل لهذا المنصب.

هذا الفوز أيضا له دلالة سياسية وثقافية.. فهو فوز لا يحسب لمصر وحدها بل هو رسالة سياسية وثقافية مفادها أن العالم العربي قادر على تقديم قيادات ثقافية وإدارية على أعلى مستوى. ففي الوقت الذي يواجه فيه العالم صراعات على أوجه عدة تأتي قيادة مصرية لليونسكو لتعيد التذكير بأن الحضارة المصرية ليست ارثا جامدا بل جسر تواصل حي بين الشعوب.

اعتقد ان العناني من خلال موقعه الجديد يمكنه ان يسعى إلى الدفع بقوة بفكرة ليست جديدة لكنها شديدة الاهمية وهي انشاء صندوق دولي لحماية التراث من التغير المناخي بالتعاون مع مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق المناخ الأخضر فهي خطوة بات الدفع نحوها ضرورة لتحقيق مزيد من التقدم في ملف حماية التراث.

إلى جانب التراث أيضا أتوقع أن يكون التعليم حجر الزاوية في أجندة العناني الجديدة انطلاقا من إيمانه بأن بناء الإنسان هو أصل الحضارة. فضلا عن كونه استاذ جامعي تربوي بالأساس . فمع ما يشهده العالم من فجوة رقمية وتعليمية متسعة بين الدول والشعوب من مختلف الثقافات والامكانات الاقتصادية فيمكن لليونسكو أن تعيد التوازن بين التعليم والتكنولوجيا وأن تدعم برامج التعليم في مناطق النزاع والفقر وأن تعيد أيضا الاعتبار للغات الأم والثقافات المحلية كجزء من التنوع الإنساني لا كمجرد موروثات فولكلورية.

الحقيقة انني أثق ان العناني ومع منصبه الجديد لن يفوت فرصة لنقل رؤاه إلى المستوى العالمي من خلال دعم المبادرات المختلفة المعنية بدعم السياحة الثقافية وتشجيع الدول على الاستثمار في مشاريع مستدامة تعود بالنفع على البيئة والتراث والمجتمعات المحلية.

مرة أخرى كل التقدير للقيادة السياسية التي وقفت ودعمت ترشيح مصري لهذا المنصب الرفيع .. ولا يفوتني الاشادة بفريق الدبلوماسية المصرية والتعاون الكبير مع مختلف المؤسسات الدولية المعنية لدعم المرشح المصري وعلى رأسها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الإيسيسكو وغيرها .. فقد كان لهم دور بارز في دعم مرشح مصر وتقديم صورة تضامن دولي كبير للعناني.

طباعة شارك السادس من أكتوبر خالد العناني اليونسكو

مقالات مشابهة

  • أحمد عاطف آدم يكتب: احذر.. الذكاء الاصطناعي يكذب ويبتز
  • محمد مندور يكتب : خالد العناني ورمزية الانتصار الثقافي في اليونسكو
  • ماذا قال؟.. أجمل كلمات للدكتور أحمد عمر هاشم عن فضل النبي
  • د. محمد بشاري يكتب: رحيل العلامة أحمد عمر هاشم: دموعُ العالِم وبصيرةُ الأزهري
  • أحمد الأشعل يكتب: خالد العناني.. انتصار جديد للقوة الناعمة المصرية في شهر الانتصارات
  • أحمد عمر هاشم: رأيت النبي في المنام فاخترت التخصص في علم الحديث
  • وفاة الدكتور أحمد عمر هاشم .. كيف دافع عن أحاديث النبي وردع المشككين؟
  • عبد الله الثقافي يكتب: الدكتور أحمد عمر هاشم تاج العلماء وصوت أهل السنة
  • أسرار "الهاشمي".. ما لا تعرفه عن الدكتور أحمد عمر هاشم ونسبه إلى النبي وآل البيت
  • التغيّر في القيم الخبرية رسالة دكتوراه مع مرتبة الشرف للكاتب الصحفي أنور عبد اللطيف