ها هي فلسطين تكتب فصلاً جديداً في كتاب العزة العربية والإسلامية.
ها هي غزة، المدينة المحاصَرة، المذبوحة منذ عامين، تنهض من تحت الركام لتقول للعالم أجمع: إن الإيمان إذا اشتعل في القلوب، لا تطفئه صواريخ ولا حصار. نبارك لشعب فلسطين هذا النصر العظيم الذي خضّ ضمائر العالم، وذكّر الأمة بمعنى الكرامة حين تُستعاد بالدم والدمع والإصرار.
لكننا ونحن نبارك، نكتب أيضاً بضميرٍ لا يعرف الرياء، وبقلبٍ مفعمٍ بالعزة لا بالعتب، وإن كان في طياته وجعٌ لا يُقال إلا بحروفٍ من نورٍ وصدق.
نحن في اليمن، في الأرض التي نازلت أقوى القوى وقاومت الحصار والدمار، لم نكن يوماً بعيدين عن غزة ولا عن القدس. نحن الذين قُصفت موانئنا، وضُربت مطاراتنا، وسقط أطفالنا في ليالٍ كان فيها صوت القصف يمتزج بتكبيراتنا ونحن نقول:
«فداءً لغزة».
لم يكن شعاراً ولا حماساً عابراً، بل موقفاً إيمانياً نابعاً من يقينٍ بأن فلسطين ليست قضية حدود، بل قضية عقيدة وشرف وإنسانية.
قدمنا شهداءنا، ودمّر العدو مدننا، وتزلزلت بيوتنا، ومع ذلك قلناها بثبات: «مع غزة حتى النصر».
لم نحسب حساباً للخسائر، ولم نسأل كم سنُذكر في نشرات الأخبار، لأننا نؤمن أن ما كان لله لا يضيع، وأن الله وحده يعلم من نصر ومن خذل.
وفي جنوب لبنان، أولئك الرجال الذين أفنوا أعمارهم دفاعاً عن فلسطين، وسهروا على حدودها، وقادوا محوراً بأكمله كي تظل المقاومة واقفة، قدّموا ما لا يُحصى من دماءٍ وتضحياتٍ، فاستُشهد القادة، وسقط المجاهدون، وتهدمت البيوت، لكن الكرامة بقيت.
كل ذلك لم يكن انتظاراً لعرفانٍ من أحد، ولا طمعاً في كلمة شكرٍ تُقال في نهاية النشرات، بل لأنه الواجب، وأقلّ ما يُقدّم لأرض بارك الله حولها.
نحن لا نعاتب فلسطين، فنحن وهي جسدٌ واحد، لكننا نعاتب ذاكرة الأمة التي تنتقي أحياناً من تُكرم ومن تُغفل.
نسمع أصوات التهاني تمطر على دولٍ لم يُقصف لها ميناء، ولم يُغلق لها مطار، ولم يقدّم أبناؤها دماءهم لأجل هذه القضية كما قدّم أهل اليمن ولبنان، ومع ذلك نبتسم، لأننا نعرف: نحن لم نقاتل من أجل أن تُرفع لنا الرايات، بل من أجل أن تبقى راية الحق عالية.
إن وقفتنا مع فلسطين لم تكن مكرمة، بل واجباًلم تكن منّة، بل عهداًولم تكن يوماً انتظاراً لشكرٍ من بشر، بل قربى إلى الله عز وجل.
نحن نعلم أن طريق القدس ليس مفروشاً بالورود، بل بالدماء، وأن كل من سار فيه سيتعب، لكنه سيبلغ إن صدق النية.
ولهذا، لا نطلب جزاءً ولا كلمة، لأننا نعرف أن الله وحده يرى، وأن وعده للمجاهدين الصادقين لا يُخلف:
> “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ”
نحن في اليمن، نعيش الجراح ونحملها بكرامة، ونحن فخورون بما فعلنا، لأننا لم نفعله طلباً لثناءٍ ولا طمعاً في عرفان، بل لأننا رأيناه أمانةً في أعناقنا وواجباً في سبيل الله.
ولو عاد بنا الزمن، لفعلنا أكثر، لأننا آمنّا أن الله لا يُضيع عمل الصادقين، وأنه سيجزي كل من قدّم في سبيله خير الجزاء.
ننظر إلى القضية اليوم بطمأنينة من أدى الأمانة ووفّى العهد،
لقد فعلنا ما يمليه علينا ديننا وشرفنا.
وليعلم الجميع — في الشرق والغرب، في القريب والبعيد — أن اليمن، رغم الحصار والدمار، لم ينسَ قبلته الأولى، ولن ينسى.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
اللحظة الأخطر في تاريخ اليمن الحديث
كانت المنطقة تنتظر أن يذهب اليمن في اتجاه يستطيع فيه بناء نفسه ووحدته ويعيد ترميم نسيجه الاجتماعي والسياسي فإذا هو يذهب نحو صراع نفوذ وخطر تقسيم داخلي في منطقة كانت هادئة خلال العقد الماضي.. ويبدأ ذلك من الشرق المستقر.
فحضرموت والمهرة كانتا في حالة هدوء إيجابي بالنظر إلى ما كان يحدث في بقية اليمن من ضجيج وتشقق وانقسامات. وهذا العبث الخطير يعني كسر آخر ما تبقى من «الاعتياد» على الاستقرار النسبي، وفتح باب كبير لا يمكن أن يغلق بسهولة حتى لو أراد أهله غلقه في لحظة من اللحظات.
من يقرأ اليمن من الداخل يعرف أن الهدوء الذي كان سائدا في الشرق هو نتاج توازنات محلية دقيقة مرتبطة بالجانب القبلي والمصالح التجارية والمسافات البعيدة عن مراكز القرار.. وأيضا نتيجة إرث اجتماعي يحاول حماية مجتمعه من عدوى الحرب.
ما يحدث الآن يخلق سلطات موازية تُولد سريعا ثم تتضخم. وحين تتعدد المرجعيات الأمنية وتُدار الموارد من خارج المؤسسات، يتحول الأمن إلى ولاء، وتتحول المعابر إلى نفوذ، وعندها تتراجع فكرة الدولة والشرعية، وتظهر أسواق موازية تبحث عن الربح والنفوذ، وتترك ندوبا طويلة ليس من اليسير أن تلتئم.
وحضرموت تمثل «الشرق اليمني» الذي يملك وزنا اقتصاديا وساحلا وموانئ وعمقا بشريا يصعب تطويعه بمنطق الغلبة، والمهرة مفصل حساس يجاور دولا، وتعيش فيه المجتمعات على حركة الناس والبضائع والمعابر، والذي يريد الزج بهذه الجغرافيا الهادئة ـ في الوقت الذي كان الجميع يتوقع بدء مرحلة التعافي من إرث سنوات مليئة بذاكرة الدماء والمحارق وصراع النفوذ ـ
لا ينشد أي خير لليمن واستقلالها ولا لشعبه الكريم الذي قدم الكثير من التضحيات وخسر الكثير من السنوات في حروب لا طائل منها أبدا.
وعندما تنقسم الشرعية الآن في معسكرات متعددة يفقد اليمنيون مرجعيتهم، وتتقدم «الكيانات» على «المؤسسات» وتغدو السياسة سوقا لصفقات قصيرة العمر.
ومن يعود إلى تجارب تقسيم الدول وإلى حقيقة الثقافة التي تشكل الفكرة وتدفع بها نحو الأمام يجد أن حقيقة تقسيم الدول تبدأ حين يعتاد الناس أن لكل منطقة جهازها ومعبرها وقرارها ومواردها وعلاقاتها الخاصة.. ويبدأ، أيضا، عندما يصبح الحديث عن اليمن الواحد حكرا على الخطب السياسية بينما الواقع يدار بفكر التقسيم وتنشأ الأجيال على فكرة الأجزاء لا على فكر الوحدة والكيان الواحد.
ومنذ عقود طويلة كانت سلطنة عمان تدفع من أجل أن يبقى اليمن واحدا بعيدا عن التجزئة، وأن يبني اليمنيون وطنهم بوصفه نسيجا واحدا تحضر فيه كل المكونات الطائفية والثقافية تحت سقف وطن واحد اسمه اليمن وقد بذلت في سبيل ذلك جهودا كبيرا جدا ومصلحتها الاستقرار على حدودها وفي محيطها وأن تبقى سلطة الدولة في اليمن هي المرجعية. ولم تكن عُمان منحازة لطرف ضد طرف أبدا، إنما كانت وما زالت تنحاز لفكرة أن الدولة هي الحل، وأن السيادة هي القاعدة التي على اليمنيين أن يؤمنوا بها وكل ذلك من أجل حياة كريمة للشعب اليمني الأصيل والكريم على الدوام.
بهذا المعنى لا ينبغي تحويل حضرموت والمهرة إلى ساحة تنافس نفوذ إقليمي عبر وكلاء محليين، ولا إلى ورقة ضغط في مساومات مؤقتة، والقوى المؤثرة في اليمن قادرة على كبح تمددات أحادية، ودفع الأطراف إلى ترتيبات أمنية تحمي المجتمعات المحلية وتبقى تحت مظلة الدولة اليمنية، لا تحت مظلة الأمر الواقع.
ولغة التهدئة لا تكفي إذا كانت الأرض تتحرك في الاتجاه المعاكس.. ما يلزم هو وقف واضح لأي خطوات توسعية وهو أهم شرط في سبيل إنقاذ فكرة اليمن الواحد وحماية شرقه من أن يتحول من منطقة تعافٍ إلى جبهة صراع وتقسيم جديدة.