ما حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك؟.. الإفتاء تجيب
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك؟ فبعض الناس يطلبون المساعدة بـ"استلاف" بعض المال على سبيل القرض، وأعطيها لهم مع كُرْهي لذلك حتى لا أحرجهم بالرَّفض، فهل يقدح ذلك في صحة عقد القرض؟".
وردت دار الإفتاء موضحة: أن إقراض المال للناس مِن أقرب القُرُبات، والأصل فيه أن يكون عن تراضٍ لا سيما وأنَّه من عقود التبرعات، وإن شَابَهُ شيءٌ من كراهة باطنة فلا تُؤثِّر في صحة العقد ما دام تَمَّ بإيجابٍ وقبولٍ.
القرض مِن الأمور المندوب إليها لما يرمي إليه من تنفيس الكُرُبات وإقالة العثرات وإعانة المحتاج والرِّفْق به والإحسان إليه دون نفعٍ يبتغيه الـمُقرض أو مقابلٍ يعود عليه؛ ولذا يضاعف الله به الأجر والثواب، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11].
وهو ما نَصَّت عليه السُّنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» أخرجه الإمام مسلم.
حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك
الأصل الذي تُبنَى عليه العقود المالية من المعاملات الجارية بين العباد هو أن تكون عن طِيْب نَفْسٍ وتراضٍ مِن كلا الطرفين، لا سيما عقد القرض؛ لأنه مِن عقود الإرفاق والتبرعات، فعن أبي حُرَّة الرَّقَاشِيِّ، عن عمِّه رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى".
قال المُلَّا عليٌّ القَارِي في "مرقاة المفاتيح" (7/ 1974، ط. دار الفكر): [«إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ» أي: بأمرٍ أو رضا منه] اهـ. ولما كانت حقيقة الرضا -المدلول عليه في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].- أمرًا خفيًّا وضميرًا قلبيًّا اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي وضابطٍ جلي يُستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول الدالان على رضا العاقدين، كما أفاده الإمام شهاب الدِّين الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 143، ط. مؤسسة الرسالة)، والإمام صفي الدِّين الهندي في "نهاية الوصول في دراية الأصول" (2/ 314-315، ط. المكتبة التجارية).
والإيجاب والقبول هو التعبير الشرعي الظاهر عما في القلب من اتفاق على العقد، فكل ما دلَّ على الإيجاب والقبول فهو كافٍ في انعقاده، ومن ثمَّ فلا يؤثر كُرهُهُ الباطن في صحة العقد؛ لأن من قواعد الإسلام الثابتة أن الحكم في دار الدنيا إنما هو باعتبار الظاهر، وأما باعتبار البواطن والسِّرِّ فأمر ذلك ليس إلى الخلق؛ إذ حسابهم -أي: حساب بواطنهم وسرائرهم- على الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو المطَّلِعُ وحده على ما فيها.
وروى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».
ومعنى ذلك أنَّه أُمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بظواهر أحوال المسلمين ولم يؤمر بالبحث عن أحوالهم والاطلاع على ما هو مطوي عنه في قرائر نفوسهم؛ لأن الناس لهم الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. كما أفاده الإمام النووي في "شرح النووي على مسلم" (7/ 163، ط. دار إحياء التراث العربي)، والأمير الصنعاني في "التنوير" (4/ 219، ط. مكتبة دار السلام).
نصيحة لمن يقرض المال للناس على كُرْهٍ
فعلك هذا وإيثارك للناس على نفسك لجبر خواطرهم وإن كان عملًا عظيمًا تُثاب عليه بإذن الله تعالى، لكن الأجمل والأكمل أن تُجاهد قلبك ليكون باطنك راضيًا موافقًا لجميل فعلك، فتجمع بين فضل العطاء وصدق النية والفرح بالطاعة، وذلك بأن تُذَكِّر نفسك دائمًا بفضل هذا العمل وأجره عند الله، حتى لا يدخل قلبك الضيق من عمل صالح تُؤجر عليه.
الخلاصة
إقراض المال للناس مِن أقرب القُرُبات، والأصل فيه أن يكون عن تراضٍ لا سيما وأنَّه من عقود التبرعات، وإن شَابَهُ شيءٌ من كراهة باطنة فلا تُؤثِّر في صحة العقد ما دام تَمَّ بإيجابٍ وقبولٍ.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: القرض إقراض المال صلى الله علیه فی صحة
إقرأ أيضاً:
حـفظ المـال
لقد أحاط الإسلام المال بسياجات متعددة من الحفظ، فنهى عن أكل الحرام بكل صوره وأشكاله نهياً قاطعاً لا لبس فيه، يقول الحق سبحانه: ”يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا”، ويقول سبحانه: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون فى بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا».
وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) أن سيدنا سعد بن أبى وقاص قال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلنى مستجاب الدعوة، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): «يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذى نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام فى جوفه فلا يقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به»، وقد كان بعض الصالحين يتركون بعض الحلال مخافة أن تكون فيه شبهة حرام.
ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إن الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه ومن وقع فى الشبهات وقـع فى الحرام كـالراعى يـرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن فى الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه ألا وهى الـقـلب»، ويقول (صلى الله عليه وسلم): «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إنى بما تعملون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!».
ويقول (عليه الصلاة والسلام): «إن رجالاً يتخوضون فى مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» (صحيح البخارى)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به».
فأكل الحرام قتل للنفس وإهلاك وتدمير لها فى الدنيا والآخرة، فهو فى الدنيا وبال على صاحبه فى صحته، وفى أولاده، وفى عرضه، وفى أمواله، «ولعذاب الآخرة أشد وأبقى».
وحثنا الشرع الحنيف على كتابة الدين وتوثيقه والإشهاد عليه فقال سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتقِ الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم».
الأستاذ بجامعة الأزهر