الدبلوماسية الاقتصادية العمانية.. رؤية واضحة وأهداف متحققة
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
ساد معيار القوة العسكرية كمقياس رئيسي لقوة الدول وتأثيرها في العلاقات الدولية لقرون طويلة ممتدة، ومع نهاية الحرب الباردة وبداية القرن الواحد والعشرين أصبحت الدبلوماسية الاقتصادية حاضرة بقوة في السياسات الخارجية لمعظم دول العالم.
ومثلت الدبلوماسية الاقتصادية دورًا حيويا وواضحًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ، ووظفت قدراتها الاقتصادية الأكبر في العالم لتحقيق أهداف سياسية، من خلال المساعدات الخارجية والعقوبات الاقتصادية ونفوذ الشركات الأمريكية الكبرى، على اعتبار أنها من أهم مكامن وأدوات القوة الناعمة الامريكية .
بينما تقود جمهورية الصين الشعبية مشروع الحزام والطريق الذي يمثل في جوهره التعاون الاقتصادي السلمي مع كافة دول العالم، وخاصة الأسواق الناشئة في اسيا وافريقيا مرورًا بالعالم العربي، وكذلك آسيا الوسطى وصولا روسيا واوروبا والأمريكتين.
وتمارس روسيا الاتحادية دبلوماسية الطاقة نظرًا لمواردها الهائلة من النفط والغاز، وتتعاون في ذلك مع المملكة العربية السعودية وفنزويلا وإيران، وغيرها من الدول الأعضاء في تحالف ( أوبك +)،هذا بالاضافة إلى التجمعات الاقليمية والدولية الفاعلة في العالم كالاتحاد الاوروبي ومجموعة دول السبع الكبرى ورابطة دول الاسيان ومجموعة دول البريكس، وغيرها من التكتلات الاقتصادية الكبيرة التي تمارس الدبلوماسية الاقتصادية الجماعية.
وتعمل كافة الدول من خلال الدبلوماسية الاقتصادية على تعزيز إمكانياتها وقدراتها في مجالات الابتكار وتطوير التكنولوجيا للنهوض بصناعاتها الوطنية وتطوير اقتصاداتها المحلية وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها المختلفة، وتنويع مصادر الدخل لديها وتعزيز التعاون التجاري والاستثماري مع الدول الاخرى على قاعدة المصالح المشتركة.
وإذا نظرنا إلى سلطنة عمان خلال السنوات الخمس المنصرمة، فإننا نلاحظ أنها اتسمت بالعمل على تحقيق عدة أهداف تنموية كبرى أهمها:
اولا : المحافظة على المنجزات التنموية الكبيرة التي تحققت خلال العقود الخمسة الماضية من حكم السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه - وهي ملك للعمانيين جميعا.
ثانيا : تجديد النهضة العمانية الحديثة وتطويرها، والبناء على المنجزات التي تحققت بما يعزز الاقتصاد الوطني ويؤدي الى تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الاحفورية الناضبة، والتحول الى اقتصاد إنتاجي يحقق فوائض مجزية، ويرفع مستوى الدخل للمواطن، ويكفل تحقيق الاستدامة المالية، وخفض الدين العام للدولة، وضمان العيش الكريم للأجيال الحالية والمستقبلية.
ثالثا : تنفيذ رؤية عمان 2040 بأبعادها المختلفة؛ وهي خطة واضحة المعالم للنهوض بمختلف مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والثقافية، والصحية والبحثية، والتكنولوجيا الرقمية، والذكاء الصناعي، والابتكار، والبنية التحتية، وغيرها من المجالات.
رابعا: تطوير الجهاز الإداري للدولة بما يتواكب مع رؤية عمان 2040 وكذلك التطورات العالمية المتسارعة، وتحديث القوانين، والاهتمام بتنمية المحافظات، وترسيخ مبدأ اللامركزية في عملها، وتمكين الشباب العماني من الانخراط في سوق العمل؛ لضمان استقرارهم وتحقيق تطلعاتهم للإسهام في عملية التنمية والبناء.
خامسا: التركيز على الاقتصاد والدبلوماسية الاقتصادية بما يحقق المصالح المشتركة لسلطنة عمان في علاقاتها مع مختلف دول العالم، في ظل سياسة خارجية واضحة ومتوازنة وثابتة ومبنة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، والسعي للحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في منطقتنا والعالم، وانتهاج الحوار سبيلًا لحل مختلف المشكلات الاقليمية والدولية واحترام قوانين ومبادئ الأمم المتحدة.
وحققت الزيارات الخارجية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى عدد من الدول الشقيقة والصديقة، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، خلال السنوات الخمس الماضية نتائج مثمرة للاقتصاد الوطني، وعززت التعاون مع تلك الدول في مختلف المجالات، وكذلك زيارات قادة عدد من الدول الشقيقة والصديقة إلى سلطنة عمان أسفرت عن اتفاقيات ومذكرات تفاهم تعزز من الروابط والعلاقات الثنائية وتزيد من حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة والمنافع المتبادلة.
وتعتبر تلك الزيارات المتبادلة ممارسة للدبلوماسية السياسية والاقتصادية والحضارية في أرفع وأرقى أشكالها (دبلوماسية القمة).
ويحضرني قول جلالة السلطان المعظم في خطابه بتاريخ 23 فبراير 2020 «لقد عرف العالم عمان عبر تاريخها العريق والمشرٌف، كياناً حضارياً فاعلاً، ومؤثراً في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان، تجوب العالم، حاملة إرثاً عظيماً، وغايات سامية، تبني ولاتهدم، تقٌرب ولاتباعد، وهذا ماسنحرص على استمراره).
إنها رسالة عمان الحضارية السامية يعلنها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ أيده الله ـ في البدايات الأولى لتوليه مقاليد الحكم، ويجسدها جلالته قولًا وفعلًا.
وكانت زيارة جلالة السلطان المعظم الخارجية الرسمية الأولى إلى المملكة العربية السعودية حاملة رسائل ذات دلالات كبيرة، فالمملكة الجار والشقيق الذي تربطنا به عرى تاريخية وثيقة لا تنفصم، ووشائج قربى وصلات ثقافية وحضارية ممتدة. والرياض العاصمة تحتضن مقر البيت الخليجي الكبير، مجلس التعاون الذي تحرص سلطنة عمان عليه، وعلى ما حققه من إنجازات، وذلك إيمانا منها بوحدة المسير والمصير الخليجي المشترك، وإن التعاون والتكامل بين دول المجلس في كافة المجالات سيجلب للمنطقة وشعوبها الخير والسلام والنماء والازدهار.
وبعد افتتاح الطريق البري الذي يربط سلطنة عمان بالمملكة العربية السعودية، وإنشاء محافظة الظاهرة الصناعية، تزايد حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة والمتبادلة والتعاون بين القطاعات والمؤسسات الحكومية والأهلية المختلفة في البلدين الشقيقين.
أما الزيارة الأولى لجلالة السلطان المعظم خارج دول مجلس التعاون فكانت إلى المملكة المتحدة، نظراً لقِدم وعراقة العلاقات التاريخية بين البلدين الصديقين، والتي تمتد لمئات السنين، والشراكة الاستراتيجية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. وتعتبر المملكة المتحدة من أكبر المستثمرين في سلطنة عمان بما يزيد عن 40 مليار دولار، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترتبط معها سلطنة عمان باتفاقية تجارة حرة، باستثمارات تتجاوز 16 مليار دولار.
وفي إطار حديثنا عن الدبلوماسية الاقتصادية العمانية، فلابد من الإشارة إلى جهاز الاستثمار العماني والإشادة بما حققه من نجاحات. فهذه المؤسسة الوطنية الرائدة أصبحت تحقق عوائد مجزية في استثماراتها الداخلية والخارحية، وأيضا استطاعت تنشيط سوق مسقط للاوراق المالية من خلال الاكتتابات في الشركات الكبيرة التابعة لها، وكذلك الدور الذي تقوم به محافظها الاستثمارية، بالاضافة إلى رفد الموازنة العامة للدولة بمبالغ تصل الى ملياري دولار سنويا، فضلا عن التزام الشركات والمؤسسات التابعة لجهاز الاستثمار بمعايير الحوكمة والحرص على إتاحة فرص عمل للمواطنين.
إن المنجزات التي تحققت في سلطنة عمان على مدار الـ 55 عاما الماضية، كبيرة وكثيرة ونوعية في مختلف مجالات الحياة. والتحديات الماثلة أمامنا لا تزال غير قليلة وتحتاج الى تضافر جهود الجميع في الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع بشكل عام، لتحقيق ما نصبو إليه جميعاً من تقدم وازدهار، للحاضر والمستقبل.
وهذا ما أكد عليه جلالة السلطان ـ أعزه الله ـ قبل ما يزيد عن خمسة أعوام في خطاب جلالته الموجه إلى أبناء شعبه الوفي في 11 يناير 2020 بمناسبة توليه مقاليد الحكم حين قال (إن الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة، والمسؤوليات جسيمة، فينبغي لنا جميعاً أن نعمل من اجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه، وأن نسير قدماً نحو الارتقاء به الى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر كافة الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى، وأن تقدموا كل ما يسهم في جهود التطور والتقدم والنماء).
ولابد من الإشارة هنا إلى أنه لاتوجد دولة في العالم لاتعاني من تحديات ومصاعب اقتصادية، وخاصة بعد أزمة كورونا التي أثرت سلبًا على اقتصاديات جميع دول العالم؛ وبالرغم من التعافي النسبي للاقتصاد العالمي، إلا أنه لا يزال يترنح تحت وطأة الحروب التجارية، والعقوبات الاقتصادية المفروضة على بعض الدول، والنزاعات المسلحة في عدد من بقاع العالم، كالشرق الأوسط وأوكرانيا، وربما تشتعل قريبا في مناطق أخرى، هذا بالإضافة إلى تذبذب أسعار النفط والغاز، وعدم الاستقرار في الأسواق المالية العالمية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدبلوماسیة الاقتصادیة جلالة السلطان الاقتصادیة ا سلطنة عمان دول العالم
إقرأ أيضاً:
وزير الاستثمار يستعرض رؤية مصر الاقتصادية ويؤكد على عمق العلاقات مع تركيا
ألقى المهندس حسن الخطيب، وزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري، كلمة رئيسية خلال لقاء مائدة مستديرة مع أعضاء مجلس إدارة غرفة تجارة إسطنبول وعدد من كبار رجال الأعمال والشركات التركية البارزة، استعرض خلالها آخر التطورات والإصلاحات الاقتصادية في مصر، كما دعا الشركات التركية للاستفادة منها.
وأكد الخطيب، في كلمته، أن مصر نفذت مجموعة شاملة من الإصلاحات الداعمة للاستثمار بهدف جعل بيئة الأعمال أكثر كفاءة وشفافية وتنافسية، موضحًا أن الإصلاحات شملت تبسيط إجراءات الترخيص بشكل كبير وتقليل الخطوات الإدارية، مع الاعتماد على الأنظمة الرقمية في إصدار الموافقات لإنهاء فترات المعالجة اليدوية الطويلة، وإطلاق واجهة موحدة تعمل كمركز شامل لجميع الإجراءات والاتصالات المتعلقة بالاستثمار، مشيرًا إلى أن هذا الهيكل الجديد يمنح المستثمرين الاستراتيجيين جهة حكومية واحدة قادرة على اتخاذ القرارات وحل التحديات بسرعة ووضوح، ما يعزز الثقة والقدرة على التنبؤ.
وأوضح الخطيب أن الإصلاحات شملت كذلك تطوير نظام حوافز جديد مصمم لجذب الاستثمارات المستدامة وذات القيمة المضافة العالية، مع إعطاء الأولوية للقطاعات التي تدعم نمو الصادرات، وتوطين الصناعة، ونقل التكنولوجيا.
وأفاد الخطيب بأن الأولوية القصوى للحكومة المصرية تتركز حاليًا في قطاع الطاقة والبنية التحتية الخضراء، حيث يجري العمل على تحديث شبكات الكهرباء من خلال تعزيز سعة النقل ومرونة الشبكة لدمج مشاريع الطاقة المتجددة واسعة النطاق، ودعم كهربة الصناعة ومشاريع تحلية المياه، كما تهتم مصر بتوطين تصنيع التكنولوجيا النظيفة من خلال تشجيع الشركاء الدوليين على توطين إنتاج المكونات الرئيسية مثل أنظمة الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح والمعدات الكهروميكانيكية وتقنيات المياه المتقدمة، فضلًا عن اهتمام الدولة المصرية بإزالة الكربون، حيث يتم اتخاذ خطوات ملموسة لخفض الانبعاثات في القطاعات كثيفة الانبعاثات الكربونية مثل الأسمدة والأسمنت والصلب عبر تطبيق تدابير كفاءة الطاقة والتحول إلى أنواع وقود منخفضة الكربون واستكشاف خيارات التقاط الكربون.
وشدد وزير الاستثمار والتجارة الخارجية على أن أجندة الابتكار المصرية تركز على بناء شبكات ابتكار تطبيقي تربط الجامعات والمراكز البحثية بالمناطق الصناعية، بهدف نقل المعرفة المشتركة إلى حلول عملية في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا الزراعية، والتقنيات الرقمية، كما أعرب عن تطلع مصر للاستفادة من تجربة مركز تطوير الأعمال BTM إسطنبول (من الفكرة إلى العمل).
وفي ختام كلمته، دعا الوزير الشركات التركية إلى توسيع عملياتها وسلاسل إمدادها في مصر، مؤكدًا أن الهدف المشترك هو ضمان أفضل الظروف التجارية والاستثمارية للقطاع الخاص في كلا البلدين، والاستفادة من الموقع الاستراتيجي لمصر وميزتها التنافسية الكبيرة.
وتضم غرفة تجارة إسطنبول في عضويتها نحو ٨٠٠ ألف شركة تركية ، والتقى الخطيب خلال المائدة المستديرة بمجلس إدارة الغرفة وعدد من الهيئات المهمة التابعة لها وعلى رأسها مركز تطوير الأعمال BTM الذي يعد أكبر حاضنة أعمال في تركيا، حيث ساهم في تأسيس ١١ الف شركة ناشئة، كما شارك في المائدة المستديرة مركز تكنوبارك إسطنبول، التي تعد أكبر تجمع ونظام بيئي متكامل يعمل في مجالات الذكاء الصناعي والتكنولوجيا في تركيا ويضم ٥٠٠ شركة عالمية وتركية، حيث استعرض مديرها العام إمكانات المركز وفرص التعاون ونقل الخبرات مع مصر.
وشارك في المائدة المستديرة نخبة من الشركات التركية التي يستثمر بعضها بالفعل في مصر بينما يدرس البعض الآخر ضخ استثمارات في قطاعات الدواء والأجهزة الطبية ومكونات السيارات والمنسوجات والملابس الجاهزة وقطاع التجزئة.
وحرص وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، خلال اللقاء، بالرد على استفسارات مسئولي وممثلي الشركات التركية، حيث أشادت شركات تركية عاملة في مصر مثل (LC Waikiki) بالإصلاحات الأخيرة التي قامت بها وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية فيما يخص تخفيض مدة وزمن الإفراج الجمركي، ما ساهم في توفير نفقات وتكاليف قيمتها ٥ ملايين على الشركة منذ بدء وتيرة تسريع الإجراءات ورقمتها.
يأتي هذا الاجتماع في ختام زيارة وزير الاستثمار والتجارة الخارجية الرسمية لمدينة إسطنبول التي شارك خلالها في أعمال الدورة الحادية والأربعين للجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري لمنظمة التعاون الإسلامي (كومسيك)، كما عقد مجموعة من اللقاءات الثنائية والاجتماعات لتوضيح أوجه التقدم الذي أحرزته مصر مؤخرًا في الملف الاقتصادي، خاصةً فيما يتعلق بملفات الاستثمار والتجارة الخارجية.
حضر المائدة المستديرة السفير حاتم الألفي، قنصل مصر العام في إسطنبول، والوزير المفوض التجاري علي باشا، رئيس المكتب التجاري في إسطنبول، وهدي درة، السكرتير الثاني بالمكتب التجاري في إسطنبول.