موقع النيلين:
2025-11-05@23:45:51 GMT

كيف يعيد اقتصاد التكافل الأمن إلى الأمم؟

تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT

العالم اليوم لا ينهار، لكنه يتباطأ.

تُظهر أحدث تقارير صندوق النقد الدولي أن معدل النمو العالمي سيبلغ نحو 3.2%، فيما تقدّر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) معدلات النمو ما بين 3.0 و3.2%، بينما يتوقع البنك الدولي حوالي 2.3%. لسنا إذن في ركودٍ عالمي شامل، بل في توسّع هشّ وغير متوازن. التضخّم انخفض عن ذروته في عام 2022، لكنه ما يزال متقلباً وعنيداً في بعض المناطق.

إنها حالة من المرونة المتوترة وتوازن دقيق على حافةٍ اقتصادية ضيقة.

في مثل هذا السياق، يبرز مفهوم “فنّ الدولة المتقشّفة”: أي فنّ الإنفاق الأقلّ على المظاهر، والأكثر على ما يبقى ويثمر. ليس تقشّفاً بالمعنى العقابي، بل انضباطٌ ذكيّ وتنسيق بين الحكومات والأفراد لإعادة توجيه الموارد من التبذير إلى العدالة، ومن البهرجة إلى الكفاءة.

هنا تستطيع الحكومات أن تبدأ من التفاصيل اليومية التي تُهدر الموازنات: السفر الرسمي المتكرر، المؤتمرات الفخمة، والاجتماعات العابرة للقارات‘ إذ تؤكد منشورة في مجلات Nature وWiley Sustainability أنّ المؤتمرات الافتراضية أو الهجينة تقلّص التكاليف والانبعاثات بنسبة تتراوح بين 60% و90% دون أن تضعف التعاون العلمي أو المهني. الأمر لا يقتصر فقط على وقف الهدر في الموازنات وحسب بل أيضاً إعادة توجيه الإنفاق العام في الملفات ذات العلاقة المباشرة مع النمو الاقتصادي ، فمثلا إن إعادة توجيه نصف هذه الوفورات على الأقل نحو صناديق البطالة، ومشروعات مكافحة الفقر، وتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية كفيلة بإحداث تحوّل مالي واجتماعي ملموس. مراجعة نفقات السفر خلال ستة أشهر، واعتماد مبدأ “الافتراضي أولاً” يمكن أن تكون خطوة صغيرة تُحدث فرقاً كبيراً.

الاقتصاد المتقشّف ليس اختراعاً جديداً. لقد مارسه أجدادنا في أحياء عمّان والقاهرة ونابولي، لا باعتباره حرماناً، بل تضامناً، ولا بوصفه جزء من الانغلاق بقدر ما هو وعي متقدم بأساليب الحماية الاجتماعية وإدارة الاقتصاد والموارد، كانت الأفران تُتقاسم، وأدوات الحصاد تُتبادل، وجمعيات الادّخار الصغيرة (الجمَعيات) تُقام على الثقة والمحبة. كانت تلك الشبكات الشعبية دروعاً اجتماعية صلبة، يشارك فيها الجميع لتحصين الحياة اليومية. كان عطاء الجماعة بديلاً عن القروض، وكانت الثقة رأس مالٍ مشترك. ومع صعود ثقافة الاستهلاك، خَفَت هذا النَسق الجماعي وتراجع نمط من اقتصاد تكافلي كان سائداً، وانعكست العدوى على الدول التي راحت تُنفق أكثر على المظهر وأقل على الجوهر. غير أن اقتصاد التضامن يذكّرنا بأنّ الأمن يبدأ من البساطة، والاستدامة من الترشيد.

تخيّلوا لو أنّ الدول عاملت الانضباط المالي كقيمة مدنية لا كإجراء تقشفي؛ ولو أن الموازنات التي تعرّف بأنها أداة للتخطيط كُتبت لا لتُبهِر، بل لتحمي. فالتضامن في أوقات الاضطراب ليس حنيناً للماضي، بل استراتيجية بقاء، والحَوكمة الرشيدة لا تعني فقط ضبط النفقات، بل ترميم الثقة بين الدولة ومواطنيها، وبين الجيران في ما بينهم.

أما الأُسر، فعليها أن تُعيد اكتشاف ميزانها: قاعدة 50-30-20 (50% للحاجات، 30% للرغبات، 20% للادخار وسداد الديون) تصلح قاعدة للحياة اليومية حين تُكيَّف مع الأسعار المحلية. “ادفع لنفسك أولاً”، قلّل الدَّين، واستثمر في الصحة والتعليم والكفاءة. يمكن للحكومات أن تدعم ذلك عبر حملات للتربية المالية في الجامعات والبرامج الاجتماعية، وعبر استخدام سياسات التحفيز الذكي لتسهيل الادخار والاستقرار المالي للأسر.

في التاريخ، لم تكن الأمم الأكثر ثراءً هي الأطول بقاءً، بل تلك التي أتقنت فنّ التدبير، وفي زمن التباطؤ العالمي، علينا أن نستعيد حكمة العيش البسيط والإدارة الرشيدة.

إنّ فنّ الدولة المتقشّفة، حين يُقرَن بروح التضامن، قادرٌ على تحويل الضيق إلى قوة، والعجز إلى إبداع، والحقيقة التي تتبدى في أكثر صورها جلاءً أن المستقبل لن يكون لمن يُنفِق أكثر، بل لمن يُنفِق بحكمةٍ وبروحٍ مشتركة.

أ. د وفاء عوني الخضراء – وكالة عمون الإخبارية

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

العمامة التي خانت المعنى: في محاسبة النخبة الدينية المتحالفة مع نظام الأسد

في لحظات الانهيار الأخلاقي الكبرى لا تُطلق البنادق وحدها النار؛ تُطلقها أيضا الكلمات حين تُلبَّس ثوب القداسة. تلك كانت إحدى مآسي السوريين: أن فئة من رجال الدين ارتضت أن تتحول من ضميرٍ ناقدٍ للسلطة إلى جهازٍ من أجهزتها، يمدّ لها رخصة أخلاقية لإراقة الدم تحت عناوين "درء الفتنة" و"طاعة ولي الأمر" و"حفظ الجماعة". هكذا تكلمت المنابر فيما كانت الشوارع تمتلئ بشبابٍ يهتفون للحرية والكرامة، وهكذا تحوّلت النصوص إلى عصيٍّ تُهوى على الرؤوس.

ليست القضية هنا سجالا تقنيا في الفقه، بل سؤالا في الضمير العام: ماذا يعني أن تُستدعى العمامة لتجريد الضحية من إنسانيته، وأن يُمسح عن المقتول اسمه ليغدو "مخرّبا"، وأن تُستعار آيات السكينة لتسويغ سعار القبضة الأمنية؟ لقد رأينا -جهارا نهارا- مَن صَمَت، ومن عارض، ومن صار ذراعا دينية تضرب باسم السلطة. والعدالة تقتضي التفريق بينهم:

- فئة التحالف العلني مع نظام الأسد: هي التي تولّت التسويق للاعتقال والقتل باعتباره "حفظا للأمن" و"حماية للوطن"، وأسبغت على الدم شرعية لغوية ودينية. في هذه الفئة أمثلة صارخة يعرفها السوريون: أسماءٌ اعتلت المنابر والشاشات؛ من مفتي السلطة أحمد بدر الدين حسون الذي لُقّب شعبيا بـ"مفتي البراميل"، إلى وزراء أوقاف ومسؤولين دينيين جعلوا مؤسساتهم منصّات للتعبئة، مرورا بخطاب ديني تَبنّى سردية أجهزة الأمن حرفا بحرف. هؤلاء ليسوا "وسطاء روحانيين" بين الإنسان وربه؛ إنهم جزء عضوي من منظومة الحكم، وبالتالي جزء من المسؤولية السياسية والأخلاقية والجنائية عن نتائج هذا الخطاب.

- فئة الصمت والحياد: لم تبصم للنظام، ولم تضع كتفها تحت آلة القمع؛ يُحفظ لها أنها لم تَزِد الزيت على النار. لا يطالب العدل من كل أحد بطولة أسطورية؛ لكن الصمت أيضا ليس فضيلة مطلقة. هذه الفئة مطالَبة اليوم بأن تعلن أين تقف من الدولة الحقوقية الجديدة، وأن تُسهم في تضميد ما مزّقه الخوف.

- فئة المعارضة العلنية: وهي التي قالت "لا" من المنابر أو من المنافي، ودفعت أثمانا شخصية. هذه نواةٌ دينية ضرورية لثقافةٍ تُعيد وصل الدين بقيمه العليا: كرامة الإنسان وحرمة الدم والعدل والصدق.

- أما أخطر ظاهرة، فهي ما يمكن تسميته بـثقافة "التكويع": من بدّل الجهة التي يتزلف لها دون أن يبدّل جوهره، بالأمس تملّق السلطة، واليوم يتملّق الثورة؛ لا لأن ميزانه أخلاقي تغيّر، بل لأن وجهة الريح تبدّلت. ذلك مأزقٌ في الشخصية لا في القناعة؛ وتركه يسرّب نفسه إلى مؤسسات الدولة الجديدة بمثابة زرع ألغامٍ في أساس البناء.

من فقه الطاعة إلى فقه الدولة المدنية

المعضلة ليست في الدين، بل في تسييسه وتقولِبِه على قياس المستبد. لقد جرى تسخير مفاهيم مثل "طاعة ولي الأمر"، و"سد الذرائع"، و"درء الفتنة" لتفريغ النصوص من مقصدها الأعلى: حفظ النفس والعدل وصون الكرامة؛ حين يُختزل الدين في شرطة أخلاقية تحرس الحاكم، نفقد المعنى ونُبقي على القشرة.

الدولة التي نريدها اليوم ليست دولة ضدّ الدين، بل دولة تحمي حرية الدين من استبداد السلطة ومن استبداد "رجال السلطة الدينية"، دولةٌ مدنية قانونية، تُنظّم المجال العام بالقانون لا بالفتوى، وتُبقي المنابر لرسالتها الروحية والأخلاقية لا لتعبئة الأجهزة. هذا هو التحول من "فقه الطاعة" إلى فقه المواطنة: لا قداسة في السياسة، ولا حصانة لخطابٍ يشرعن القتل.

مسؤولية الخطاب الديني المتحالف مع العنف

حين تُمنح الإعدامات شرعية كلامية، يصبح الرصاص أيسر إطلاقا، وحين تُمسَخ الكرامة إلى ملف أمني، تصير البيوت مباحة، والأمهات أرقاما في قوائم الانتظار. إن المسؤولية هنا مزدوجة: مسؤوليةُ الفاعل المباشر الذي ضغط الزناد، ومسؤوليةُ المُمَنهِج الذي سوّغ وجمّل وأخفى الحقيقة بلغة فقهية وسياسية مغشوشة. ولذلك، فالمحاسبة ليست ثأرا، بل استعادةٌ للتوازن الأخلاقي.

ومَن يظنّ أن الزمن كفيل بغسل الذاكرة يخطئ في فهم وظيفة الذاكرة العامة: هي لا تنتقم، بل تُسجّل، وقوائم العار ليست دعوة للفوضى، بل أرشيفٌ أخلاقيٌ علني يحفظ للضحايا أسماءهم، ويُعرّي الخطابات التي زوّرت الحقيقة، ويمنع إعادة تدويرها ببدلاتٍ جديدة.

خريطة طريق للعدالة والاقتلاع الهادئ لسلطة العمامة السياسية

- عدالة انتقالية صريحة: تحقيقات قضائية مستقلة في كل خطابٍ ديني حرّض على العنف أو سوّغ جرائم واضحـة، مع مساءلةٍ مدنية ومهنية: العزل من المواقع العامة، ومنع تولّي المناصب الدينية الرسمية، وردّ الامتيازات التي مُنحت باسم الدين للقيام بوظائف سياسية.

- فصل مؤسسي بين الدين والسلطة: تحويل وزارة الأوقاف من جهاز تعبئةٍ إلى إدارة خدماتٍ دينية وخيرية تحت رقابة البرلمان والقضاء، ومنع توظيف المنابر للدعاية السياسية أيا كان الحاكم.

- ميثاق شرف ديني: يُصاغ ويوقّع من هيئات العلماء المستقلين، يجرّم شرعنة العنف ضد المدنيين، ويؤكد حرمة الدم، وحق الاعتراض السلمي، واستقلال الدعوة عن أجهزة الحكم.

- إصلاح التعليم والخطاب: مراجعة المناهج والمعاهد الشرعية لتصحيح انزياحات "فقه الطاعة" نحو فقه الحقوق، وإدخال مساقات في فلسفة الأخلاق، والتفكير النقدي، ومقاربات مقاصدية تُعيد مركزية الإنسان.

- إعادة بناء الحقل الديني: تمكين القيادات التي قاومت القتل، ودعم شبكات الأئمة والوعّاظ الذين اختاروا لغة السكينة والحق، وتقديم نماذج تُثبت أن الدين حليف الحرية لا خصمها.

أحمد حسون وآخرون.. بين الاسم العام والنموذج الرمز

ليس المقصود مطاردة أشخاصٍ بأعيانهم بقدر ما هو محاكمة نموذجٍ كامل: النموذج الذي يلبس العمامة ليؤدّي وظيفة السياسي. ومع ذلك، فإن الرموز العلنية التي قادت هذا الخطاب لا يمكن تبرئتها باسم المجاز؛ من اعتلى منبرا رسميّا ليمنح القمع لغة مقدسة، أو هدّد العالم بخطابٍ يُسوّغ العنف، أو حوّل الوزارات الدينية إلى أدوات تبييض؛ يتحمّل مسؤولية مباشرة في جرح الاجتماع السوري. إنهم -بالمعنى الأخلاقي والسياسي- ألدّ أعداء الدولة التي نريد: دولة الحق والقانون.

العقد الاجتماعي الجديد: دينٌ مُصان، دولةٌ مُصانة

الدولة التي تنبع من السوريين جميعا لا تحتاج إلى كهنوت سياسي، بل إلى قانونٍ أعلى من الجميع: من الحاكم إلى صاحب العمامة. هذا العقد لا يلغي الدين ولا يخاصمه؛ إنما يحميه من الابتزاز السياسي، ويضمن للناس حقّهم في أن يؤمنوا ويعترضوا ويعيشوا بلا خوف. في هذا العقد، لا عودة لرجال الدين كرجال سلطة؛ يعودون رجالَ معنى، ومعيارَ ضمير، ومصدرا للسلم الأهلي، لا أداة للحشد والاصطفاف والتخوين.

ليست الثورة السورية مجرد احتجاجٍ على أسعارٍ أو وجوه؛ هي ثورة على مفهوم الاستباحة: استباحة الجسد والبيت واللغة. وقد كان "رجال النفاق" -بعمائم وثيابٍ دينية- خنجرها الأكثر سمّا لأنهم دسّوا السم في لغة الرحمة. لذلك، فإن تعريتهم ومحاسبتهم واجبٌ تأسيسي لا بدونه لا قيام لعقدٍ جديد ولا لبلدٍ يستحق الدم الذي دُفع في سبيله.

التاريخ لا ينسى، لكنه أيضا لا يكتفي بالتذكّر. إنه يطلب من الأحياء أن يُقيموا العدل كي تستقيم الذاكرة. فلنكتب، إذن، السطر الفاصل: عمامةٌ للمعنى.. لا عمامةٌ للرصاص؛ ودولةٌ لا تُشرعن القتل، ولا تستعير للبطش فتوى.

مقالات مشابهة

  • «يونيسف»: أكثر من ثلاثة ملايين طفل في السودان يواجهون سوء التغذية الحاد
  • العمامة التي خانت المعنى: في محاسبة النخبة الدينية المتحالفة مع نظام الأسد
  • نقابة الأطباء: أكثر من نصف سكان السودان بحاجة عاجلة إلى المساعدات الإنسانية
  • حتى نفهم ان مهام وزارة الداخلية تتجاوز مفهوم حفظ الأمن والنظام
  • سمو الأمير يؤكد أن مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية يعكس الشراكة الفاعلة التي تجمع قطر مع الأمم المتحدة
  • وزير الخارجية الصحراوي: المغرب خرج بنتيجة صفر من ضمن أهدافه التي وضعها في المسودة الأولى
  • تعاملات تجاوزت 3 ملايين جنيه.. الأمن يواصل توجيه ضرباته لتجار العملات الأجنبية
  • ما هو الدين السيادي؟.. تعرف على فوائده ومخاطرة وتأثيره على التصنيفات الائتمانية
  • وزير الخارجية: مصر ستتخذ كافة الإجراءات التي يكفلها ميثاق الأمم المتحدة لحماية أمنها المائي