#الحياة_مدرسة
د. #هاشم_غرايبه
هنالك مقولة غربية تقول: إذا قالت لك والدتك “ستندم على هذا إن فعلته”، في الغالب ستندم.
منذ أن يشب الطفل عن الطوق، ويجد أنه يستطيع أن يقف منتصبا، وأنه ليس بحاجة بعد الى أحد يسنده، يظن أنه يستطيع الوصول الى كل تلك الأشياء التي ما كان يمنعه من الوصول إليها سوى ذراعي والدته اللتان تحكمان تطويقه الى حضنها، وهذا الإطمئنان الدافئ الذي كان ملاذه الأمين، لا يشعر أنه بقي له من حاجة، ولا يراه إلا قيدا يتوق الى التحرر منه.
الفضول والرغبة في الإكتشاف والتوق الى فعل ما يفعله الكبار، هو كل ما يشغل باله، المشكلة الحقيقية أن هذا الأمر سيبقى شغله الشاغل وبأشكال مختلفة طوال عمره الباقي.
سيبتعد قليلا أو كثيرا عن هذا الحضن الدافئ – ملاذه الأمين، لكنه سيبقى مهما بلغ من قوة واكتسب من مهارات وخبرات، ومهما طعن في السن كذلك، وفي الملمات سيعود إليه، سواء كانت أمه على قيد الحياة أو صورة باقية في الخيال، وقد ينادي “أماه” لا إراديا عند خوفه الشديد، حتى ليقال أن آخر طيف في مرآه وهو يغادر الحياة ..هو طيف أمه.
رعاية الوالدين لطفلهما لا تتوقف، تبدأ منذ تكونه جنينا، وتستمر بصور مختلفة طالما هما على قيد الحياة، فالوالد يحتكم في الغالب الى عقله في هذه الرعاية، بوحي من مصلحة ابنه ومنفعته، والأم تحتكم الى قلبها بالحرص على سلامته وحمايته ويبقى في نظرهما بحاجة لها مهما كبر واعتقد أنه استغنى عنها.
شاهدت مرة قطة تهاجم كلبا ضخما بشراسة، مما دعاه الى الإنسحاب مذعورا، وهذا أمر غير معتاد، فالأصل أن يهرب القط دائما في أية مواجهة مع كلب، بعد قليل عرفت السبب، فقد رأيت القطة وهي تؤوي صغارها إليها لترضعهم، وبالطبع لو لم تكن أما، لما جازفت بتلك الصورة، وأيضا لا بد أن الكلب أحس بذلك وعرف أنها لن تتراجع أمامه بفعل الخوف الغريزي، فالأمومة تعطيها قوة مضاعفة.
هذه الصورة موجودة في جميع الكائنات الحية، وفي الإنسان بالطبع، ولا شك أنها واحدة من نعم الله التي لا تحصى، وخص بها الأم، كواحدة من مفردات عاطفة الأمومة المتشابكة، لأن التصرف المستوحى من القلب عاطفي، فلا يخضع للحسابات المادية والمفاضلات العقلية، لذلك عندما تحس الأم بقلبها أن هذا الأمر يشكل خطورة على ابنها، لا توقفها محاكمة عقلية متروية، بل تندفع تلقائيا باتجاه دفع الخطر، لكنها عندما يكبر ابنها ويخرج من دائرة حمايتها اللصيقة، لا يكون بوسعها إلا تحذيره من مغبة ما هو مقبل عليه، وقد لا تستطيع أن تقدم دليلا ماديا على حدسها هذا، لأن ذلك أتاها كخاطر لا يكون معللا ولا مفسرا، فليس بوسعها غير أن تقول له قلبي هو الذي يحدثني بذلك.
هنا نفهم سر خلق المرأة بصورة مختلفة لما خلق عليه الرجل، فالمرأة وجدت لتكون أما، وعلى ذلك فقد زودها الخالق بكل ما يخدم هذه الوظيفة الجليلة، والتي هي الحفاظ على الجنس البشري.
لذلك لا يعيب المرأة أنها تحتكم الى العاطفة أكثر مما تخضع لمعايير المحاكمات العقلية المجردة، وذلك لا يعني أبدا تفوق الرجل العقلي عليها، إنها مثل ضرورة وجود الشاحنة والحافلة، فلكل منهما وظيفة، ولا تغني إحداهما عن الأخرى، ولا تفضل الأخرى، فهذه صنعت لتحمل البضائع وتسلك الطرق الوعرة، وتلك لتحمل الناس وتسير في الطرق الممهدة.
لذلك فالحديث عن (الجندرية) والتباهي بأن التقدم هو في مقدار التساوي التماثلي بين الذكر والأنثى، هو أمر غير منطقي، لأنه مخالف للفطرة البشرية التي اقتضت وجود الجنسين، فلا يمكن أن تكون الأسرة طبيعية إلا بزوج وزوجة، وما يندفع الغرب بحماقة باتجاهه (المثلية) ما هو إلا إسفاف و هرولة نحو الهاوية.
وأما الأسوا من ذلك فهو تغيير الجنس، والذي هو من عمل الشيطان، وقد توعد به ذرية آدم حينما طرده الله من رحمته، فمن تنكب منهج الله واتبع الشيطان يصبح طوع أمره ومتبعا لخطواته: “وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ” [النساء:119]
الأم الطبيعية نبع لا ينضب، والأب عطاء لا ينقطع، وبغيرهما لا يكون الإنسان إنساناً.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
قرار الغرب: نفط فنزويلا لن يكون في خدمة الصين
تسعى واشنطن الى إنهاء النظام اليساري في فنزويلا بزعامة الرئيس نيكولا مادورو، وهي عملية تدخل ضمن محاولة جعل القسم الغربي من العالم من شرق المتوسط وحتى هاواي منطقة غربية محضة، وذلك ضمن الاستعداد لحرب الريادة على العالم في مواجهة الصين. ومنذ أكثر من عقدين من الزمن، تريد واشنطن ومعها الغرب تغيير النظام اليساري في فنزويلا، وكانت المحاولة الأولى خلال حقبة الرئيس جورج بوش الابن، عندما دعم انقلابا ضد الرئيس الراحل هوغو تشافيز خلال أبريل/نيسان 2002.
وتميزت السنوات اللاحقة بما فيها حقبة الرئيس باراك أوباما بالتعاطي الصارم ضد السلطة الحاكمة في فنزويلا، لكن من دون ضغط عسكري مباشر، خاصة أن العالم كان يشهد وقتها بنزاهة الانتخابات الرئاسية والبلدية في هذا البلد.
وكانت أبرز محاولة هي التي وقعت إبان الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب (2017-2021) عندما دعمت واشنطن إعلان زعيم المعارضة خوان غايدو نفسه رئيسا للبلاد في يناير/كانون الثاني 2019. وتبنت عدد من الدول الأوروبية الموقف نفسه. غير أن الرئيس مادورو بقي صامدا، وعاد ليفوز في انتخابات أخرى، اعتبرتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مزيفة. ومن نتائجها أن البرلمان الأوروبي اعترف خلال سبتمبر/أيلول 2024 بزعيم المعارضة غونثالث إيروتيا رئيسا للبلاد، واعتبرته الفائز في الانتخابات الرئاسية التي جرت السنة الماضية، كما أن قادة الاتحاد الأوروبي رفضوا الاعتراف بمادورو رئيسا لفنزويلا. وبدورها، تعتبر واشنطن زعيم المعارضة هو الرئيس الشرعي للبلاد.
ومنذ بداية أغسطس/آب الماضي، يشهد الملف الفنزويلي تلاحق تطورات مثيرة عنوانها العريض والبارز هو، رغبة واشنطن في تغيير النظام اليساري. وهكذا، كانت الخطوة الأولى هي اعتبار فنزويلا معبرا رئيسيا لمخدر الكوكايين، ثم اتهام الرئيس مادورو بالإشراف على تجارة المخدرات، وأخيرا اتهامه بالإرهاب. ووسط كل هذا، قام البنتاغون بإرسال أكبر حشد عسكري في منطقة الكاريبي منذ عقود طويلة وتعزيز الأسطول الرابع الذي يغطي منطقة أمريكا اللاتينية بالكامل من المكسيك حتى الأرجنتين في ضفتي الأطلسي والهادي. وأعلنت واشنطن عن إجراءات متتالية، منها ضرب قوارب في الكاريبي بمبرر تهريبها المخدرات، والتهديد بتنفيذ عمليات في الأراضي الفنزويلية، ضد ما تعتبره عصابات المخدرات. ويبقى آخر المعطيات المثيرة هو ما مضمون المكالمة الهاتفية بين الرئيسين ترامب ومادورو، التي جرت منذ أيام، حيث اقترح الأول على الثاني، وفق تسريبات نشرتها جريدة «ميامي هيرالد» الأحد الماضي، ضرورة مغادرة فنزويلا نحو روسيا أو أي بلد ثان يختاره.
لا يمكن التعامل مع هذه التطورات باعتبارها قرارا متسرعا من الرئيس ترامب، قد يكون ترامب رفع من إيقاع المواجهة وتنفيذ تغيير النظام في فنزويلا، بل هي تندرج ضمن سلسلة من القرارات، التي تتزعمها واشنطن بدعم من دول غربية بنوع من التفاوت، ورغم الجدل الذي تخلفه أحيانا، إلا أن الهدف الأخير هو إبعاد فنزويلا من الفلك الروسي والصيني. وهي كما أشرنا إليها الانقلاب الذي تعرض له هوغو تشافيز، والاعتراف بزعماء المعارضة رؤساء للبلاد بعد كل انتخابات تثير الجدل، كما وقع سنتي 2019 و2024. في الوقت ذاته، ينخرط إعادة العمل بالأسطول الرابع الأمريكي ابتداء من سنة 2008 ضمن إطار الضغط العسكري، وهو الأسطول الذي كان قد تم حذفه سنة 1950، وعاد للعمل بعد 58 سنة.
ويبقى السؤال الجوهري هو: لماذا يركز الغرب على التغيير في فنزويلا، دون غيرها من الدول اليسارية في أمريكا اللاتينية؟ أولا، إن الضغط المستمر منذ سنوات طويلة على النظام اليساري الفنزويلي يندرج ضمن استراتيجية للغرب بزعامة واشنطن، تهدف إلى إبقاء النصف الغربي من العالم ضمن المدار السياسي للغرب، ومحاولة منع أي اختراق صيني أساسا في المنطقة، حتى لا يكون لهما نفوذ بالقرب من الحدود الأمريكية.
ثانيا، تبدو فنزويلا، في نظر العواصم الغربية، خاصة واشنطن، سائرة نحو التحول إلى «كوبا جديدة ولكن أكبر» في القارة الأمريكية، فكما أن النظام الكوبي ظلّ ثابتا منذ الثورة في أواخر الخمسينيات، من دون تغيير سياسي بمعنى التناوب بين الأحزاب ذات الأيديولوجيات المختلفة، فإنّ التيار اليساري الذي أسّسه هوغو تشافيز أواسط التسعينيات باسم «الحركة الجمهورية الخامسة» يهيمن على السلطة في فنزويلا منذ 1999، من دون بوادر حقيقية للتناوب السياسي. وترى واشنطن أن فنزويلا تفتقر إلى إمكانية التداول الديمقراطي، بخلاف دول مثل بوليفيا والبرازيل والأوروغواي والأرجنتين، التي تشهد تناوبا سياسيا بين اليسار والمحافظين. ومن ضمن الأمثلة، سيطر اليسار على الحكم في بوليفيا منذ عقدين تقريبا بفضل «الحركة الاشتراكية»، وخلال الشهر الماضي فاز رئيس محافظ و
هو رودريغو باث ووقع تناوب سلمي على السلطة.
ثالثا، تحولت فنزويلا الى أحد أبرز وجهات الاستثمارات الصينية في الطاقة، خاصة خلال العقد الماضي، كما وقّعت اتفاقيات عسكرية مع روسيا وإيران والصين، وتتبنى توجها متزايدا نحو الانخراط في نظام مالي بديل عن الدولار تقوده واشنطن. وهذا ما يجعلها، في نظر الولايات المتحدة، نقطة ارتكاز جيوسياسية منافسة في جوارها المباشر، خاصة بعدما بدأت تسمح بتوقف أسلحة نوعية روسية وصينية في مطاراتها وموانئها.
وعليه، لن يسمح الغرب بتحول فنزويلا الى كوبا جديدة، تكون قاعدة استراتيجية صلبة للنفوذ الصيني بالدرجة الأولى. فبينما كانت كوبا دولة صغيرة جغرافياً وضعيفة اقتصادياً، ولا تمتلك ثروات طبيعية فقد كادت أن تشعل حرباً عالمية في مطلع الستينيات، بسبب أزمة الصواريخ. فكيف الحال مع فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، وتمتد على مساحة شاسعة وفيها ثروات طبيعية ضخمة مثل المعادن النادرة؟
تغيير النظام السياسي في فنزويلا، لا يتعلق بنزوة من نزوات ترامب، كما يبدو سطحيا، أو للوهلة الأولى، أو الرغبة فقط في إحياء عقيدة مونرو، التي تعتبر أمريكا اللاتينية الحديقة الخلفية لواشنطن، وليس بقرار ظرفي، بل بقرار استراتيجي حاسم يهم الغرب برمته، ويمتد تأثيره لعقود مقبلة للتوازن العالمي الذي تؤدي دول صغيرة وثانوية فاتورته. والقرار هو: لن يسمح الغرب بأن يكون أكبر احتياطي للنفط في خدمة النفوذ الصيني، الذي يهدد ليس فقط الولايات المتحدة بريادة الغرب التاريخية للعالم التي بدأت منذ خمسة قرون، وبدأت تتراجع مع مطلع القرن الواحد والعشرين.
القدس العربي