من جمر إلى جمر.. قراءة في مسيرة الكاتب الفلسطيني منير شفيق
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
العنوان لأي كتاب يشبه الاسم لأي كائن، ولكن العنوان بالنسبة للكتاب يكون أكثـر دقـة وموضوعية وخصوصية، فـ"عنـوان المذكرات يمثل تحدياً واضحاً وصعباً أمام كل من يكتب مذكراته، كذلك يعكس العنـوان الـذي يستقر عليه المؤلف كثيراً من ملامح فكره وتفكيره، وإن كثيراً من العناوين تتميز بقدرة رائعـة على إعطاء الإيحاءات".
عليه، فإن عنوان الكتاب يجب أن يعطي دلالات واضحة عن مضمونه، وبالنظر لعنوان مذكرات المفكر العربي منير شفيق، "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، تدوين وتحرير الإعلامي والأديب الراحل نافذ أبو حسنة، الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربيّة" (ط3، 2023).
نجد أن العنوان يوحي بـ "النَّارُ الْمُتَّقِدَةُ"، ويبدو أن صاحب المذكرات أراد أن يؤكد لنا بأن التحوّلات الفكريّة التي مرّ بها خلال حياته النضاليّة والفكريّة؛ من الماركسيّة إلى القوميّة، والتأثر بالماوية، وصولاً للإسلام، "لم تكن لأسباب انتهازية أو لأسباب نفعية"، ولا كان مضطرًا لها. وفي كل الأحوال، "كانت كل التغيّرات التي حدثت، انتقالًا من الإمساك بجمر إلى الإمساك بجمر أشدّ تلهّبًا. فعندما كان الشيوعي يُعذَّب ويُضطهد ويُحكم بالسجن أعوامًا طويلة كنت أنا شيوعيًا، وعندما أصبح الشيوعيون يساومون الحكومات، وما عادوا يُسجنون، وبردت جمرتهم الأولى وأصبح الاتحاد السوفييتي ذا أنياب ونفوذ عالمي، كنت أنا في طريق خروجي من الشيوعية، وانتقالي ـ كماركسي ـ إلى الناصرية، وأنا في السجن عام 1961، بعد الانفصال، أصبح القومي والوحدوي تحت الحصار ومرمى كل رامٍ عربياً وإقليمياً ودولياً. ثم انضممت لـ "فتح" بعد عام 1967 التي كانت تعتبر إرهابًا، والمنتسبون إليها عرضة للقتل والسجن. ولما أرادت "فتح" الذهاب إلى التسوية، وأن تصير مقبولة من النظام الدولي، وصار هناك من يبحث عن البحبوحة في العيش، ولا سيما بعد اتفاق أوسلو والتحوّل إلى سلطة، تركتهم وذهبت إلى "الغلابى" الذين استمروا في المقاومة والجهاد، حيث التضحية والإمساك بالجمر من جديد. وحيث تهمة الإرهاب" (ص 426).
إذن تكمن دوافع صاحب المذكرات في تقديم رؤية وتجربة نضالية وفكرية يسارية وقومية وعربية وفلسطينية وإسلامية طوال المراحل الممتدة نحو سبعين عاماً من نكبة فلسطين 1948 حتى 2020. التي لا يمكن فهمها إلاّ بالاطلاع على كل مؤلفات صاحب المذكرات المطبوعة والمنشورة، إضافة إلى خطبه ومحاضراته ومقالاته وأبحاثه في الصحف والمجلات.
هذه الرؤية النضالية والفكرية للمفكر العربي منير شفيق، تتلخص في أربع مبادئ:
1 ـ التمسك التام بتحرير فلسطين التاريخية بكامل ترابها، ورفض الاعتراف بأي شرعية للاحتلال على أي جزء منها، أرضاً ومقدسات.
2 ـ مناهضة المشروع الإمبريالي الأمريكي.
3 ـ خط الجماهير، الذي يرنو إلى الانغماس في صفوف الشعب.
4 ـ ربط المشروع في فلسطين بمشروع تغير عربي جذري ووحدي وهو شرط تحرير كل فلسطين. ولكن من دون أن يتدخل الفلسطينيون بالصراعات والخلافات والمحاور العربية لأن عليهم أن يركزوا كل الجهود على المشروع في فلسطين والا كما، ثبتت التجربة سيضيعون في الخضم العربي الذي لا قبل لهم عليه أو الدخول فيه. وقد لحقت ويلات بالفلسطينيين في أكثر من بلد عربي بسبب الانجرار إلى التدخل خارج فلسطين.
البدايات
وُلِدَ منير في فبراير/ شباط من عام 1936، في حي النّمامرة بالبقعة التّحتا في مدينة القدس، وهو أحد أحياء القدس الغربية التي كانت تُسمّى "القدس الجديدة"، ثم انتقلت عائلته بعد ولادته بستة أشهر إلى حي القطمون (ص 17) التي يتذكره منير جيدًا حتى الآن، لدرجة أنه يستطيع أن يرسم "القطمون بالشارع، والبيت، والمداخل، والشّجر" (ص 37). فلم تغادر تفاصيه ذاكرته قطّ.
منير شفيق
ترعرع منير في عائلة مسيحيّة ثريّة، والده كان محاميًا ماركسيًا، ووالدته كانت معلمة، فقد تخرجت من دار المعلمات. اهتم والده بتحفيظه "القرآن والشّعر، وخصوصًا شعر المتنبي، وديوان الحماسة لأبي تمّام" (ص 24) كان منير يجلس مع أصدقاء والده، من الشعراء، والأدباء، والخطباء، ويستمع إلى نقاشاتهم وأحاديثهم وأشعارهم، بالإضافة إلى الاهتمام بما يجري في فلسطين.
يذكر منير حادثة طريفة، وهي قصة لقائه ووالده بالمجاهدين عبد القادر الحسيني وإبراهيم أبو ديّة، وخلال جولة في المنطقة كان أبو ديّة يشرح عن المكان، والطفل منير يُصحّح أخطاءَه، فخاطبه عبد القادر مداعبًا "دع منير يشرح لي" (ص 32). وبعد انتهاء الجولة وصلوا إلى المكان المراد، فطلب الطفل منير الذي بلغ من العمر 12 عاماً من المجاهد عبد القادر الحسيني أن يخفض رأسه، لكي يعبر سريعًا، خوفًا من القناصة، لكنه "رفض أن يخفض رأسه" (ص 32).
الحزب الشيوعي
التحق منير في مدرسة الرشيدية، وكانت المدرسة في تلك المدة "تغلي" بالسياسة، ففي هذه المدرسة كانت النقاشات حامية الوطيس، و"منها بدأت المشاركة في التظاهرات، والاحتجاجات، والعمل في الحزب الشيوعي" (ص 73). الذي انتسب إليه في "منتصف عام 1952" (ص 80). ومن ذلك الحين، لم يفكر منير في "مستقبل غير مستقبل النضال والحزب" (ص 91). وهكذا تلاشت احلام والده بأن ينهي دراسته القانونية في جامعة دمشق.
على مدى ما يقارب المائة والخمسون صفحة من المذكرات (ص 73 ـ 224)، يعرض صاحب المذكرات تجربته عبر الحزب الشيوعي، والاعتقال المتكرر، وحياة السجن، وموقف السوفيت من قرار التقسيم، والخلاف مع الحزب، ولقاءه مع خالد بكداش، وموقفه من جمال عبد الناصر، وأسباب خروجه من الحزب.
كان جل فكر منير شفيق، في السبعينيات، "محاولة للتخلص من التفكير الماركسي الأوروبي، والتوصل إلى فكر تأصيلي عربي إسلامي ثوري، يفيد الماركسية وينسجم مع الشعب وقيمه وعادات المجتمع في ظل الثورة وتحرير فلسطينتُشكّل هذه الصفحات (73 ـ 224) مخزونًا معرفيًّا ومعلوماتيًّا، ليس عن التجربة الشيوعية في فلسطين فقط، ولكن في كافة الأقطار العربية، وإضافةً هامّةً عن هذه الفترة التي يقلّ توثيقها في الكتب والدراسات الفلسطينية المعاصرة.
على أي حال، غادر منير الحزب الشيوعي لعده أسباب أولًا: أسلوب التلقين في الحزب، والنفور من التفكير المعمق في النظرية «وكان جل القيادة والكوادر يركزون على ما يصدره الحزب من بيانات سياسية وتعليمات فحسب» (ص 83). ثانيًا: موافقه الحزب على قرار تقسيم فلسطين، وارتهان الحزب للاتحاد السوفيتي (112- 115)، ثالثًا: مهاجمة الحزب جمال عبد الناصر (208 ـ 217). رابعًا: عدم تبنّى الحزب مشروع الوحدة العربية (225)، خامسًا: موقف الحزب من النظام الأردني (ص 218).
نحو "فتح"
لم تكن مغادرة منير للحزب هربًا من الماركسية والثورية، بل كانت منطلقًا للبحث عن إضافات أخرى مهمة، فقد وجد ضالته في منطلقات حركة "فتح"، فقد أشار إلى ذلك بالقول: "فقد صار عنده تحول حقيقي، وفتح أثرت فيّ جدًا بمنطلقاتها. لذلك، فإن معظم كتاباتي الفلسطينية تاليًا، كانت مستمدة من فتح ومنطلقاتها، ولولاها ما كنت كتبت ما كتبت في القضية الفلسطينية" (ص 237).
بدأ منير نشاطه في فتح كمسؤول "في دائرة العلاقات الخارجية والإعلام" (ص 277). كما أدي "دورًا في استقبال وكسب وتأييد الأجانب من اليساريين اللذين كانوا يوفدون لدعم القضية الفلسطينية في عمان" (ص 277). و"الحوار مع المنظمات اليسارية والثورية المتعاطفة مع الثورة الفلسطينية" (ص 278). بالإضافة إلى كان يساهم «في العمل الإعلامي، وبتحرير صحيفة فتح (...) [و] بإصدار الكتب والكراسات، وتقديم منطلقات فتح والقضايا التي تهمّ الثورة بأفضل صورة ثورية وإيجابية" (ص 290)
تيار داخل "فتح"
بعد الخروج الفلسطيني من الأردن بإتجاه لبنان، "فقدت المقاومة أهم وضع كان لها" (ص 293). واشتد الصراع كثيرًا بين الاتجاهات والفصائل الفلسطينية. "كان منزل ناجي علوش في عين الرمانة في بيروت مكان اجتماع ليلي لكل قوى اليسار في حركة فتح الناقمة على قيادة الحركة" (ص 294). وفي أحدى الليالي اقترح صاحب المذكرات أن "نشكل، تحت الثوريين اليساريين، مجموعات مقاتلة وننزل إلى الداخل، ونثبت لهم أن الخطّ الثوري هو الذي يمكنه أن ينجز ويحقق الانتصارات، فنشكل قوات مقاتلة ونعمل داخل حركة فتح، وهو أمر مشروع داخل الحركة، بدلًا من أن نكتفي بالنقد دون الفعل" (ص 299). تمت الموافقة على هذا الاقتراح، وبدأ تشكيل نواة التيار من: منير شفيق، وناجي علوش، وأبو داوود، أبو حسن قاسم (محمد بحيص)، وسعيد جرادات، وباسم التميمي، وعلي أبو طوق، وأبو خالد جورج، وآخرون.
تم تشكيل التيار "بقناعات ضمن حركة "فتح" ومنطلقاتها، وليس كتنظيم جديد (...) [ولكن] بعيدًا من قرارات القيادة أو هيمنتها" (ص 303). كان لهذا "التيار ترجمة معمّقة لمنطلقات فتح المتعلقة باعتبار الثورة الفلسطينية جزءًا من الثورة العربية، واعتبار الشعب الفلسطيني جزءًا من الأمة العربية. فهو تيار ذو بُعد قومي عروبي، وبُعد يساري ثوري (بالمعنى الجماهيري)، وبُعد عالم ثالثي، وله تعاطف خاص مع الصين والثورة الفيتنامية بسبب تميّز موقفها من تحرير فلسطين كلها" (ص 305).
عبرت كتابات صاحب المذكرات بعد عام 1975 عن خط التيار. و"لم تكن تصدر قبل الموافقة عليها، لهذا كانت هي المرجعية الفكرية والنظرية بالنسبة إلينا. فضلًا عن الكتابات السابقة. بعد 1975 كنت أصوغ [منير شفيق] النقاشات وما نتفق عليه، وبعد كتابتها كان يطّلع عليها أبو حسن وسعد وحمدي وآخرون، قبل نشرها. ثم صارت تمرّ على ثلاثة أو أربعة من الأخوة الذين يقرأونها ويبدون ملاحظاتهم عليها، فأقوم بإحداث تغير وتبديل، ونعقد تقاشات حولها قبل أن تصدر في صيغتها النهائية" (ص 316).
المرجعية الإسلامية
كان جل فكر منير شفيق، في السبعينيات، "محاولة للتخلص من التفكير الماركسي الأوروبي، والتوصل إلى فكر تأصيلي عربي إسلامي ثوري، يفيد الماركسية وينسجم مع الشعب وقيمه وعادات المجتمع في ظل الثورة وتحرير فلسطين" (ص 397). [يُراجع منير شفيق، في الوحدة العربية والتجزئة (دار الطليعة، بيروت، 1979) ـ عبد القادر جرادات وجورج عسل، أفكار ثورية في ممارسة القتال (دار الطليعة، بيروت، 1978)]. هكذا، "كنا نفكر بصوت جماعي موحّد، وكان أغلب المنتمين إلى السرية الطلابية وكتيبة الجرمق، وللتيار عمومًا، قد راحوا يبحثون عن توليد ثوري نابع من خصوصية الثورة في بلادنا، فلسطينيًا وعربيًا" (ص 403). هكذا، فقد انفتح التيار، على الموضوع الإسلامي من خلال نقاش فكري واسع داخل التيار. فالانتقال إلى المرجعية الإسلامية تم عمليًا بجهد جماعي واسع النطاق ومتعدد الأبعاد [يُراجع: نيكولا دوت بويار، اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة "فتح"، ترجمة: عومرية سلطاني (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2010)]
علاوة على ذلك، يوثق صاحب المذكرات بدايات الكفاح المسلح للفصائل الإسلامية، ونشوء سرايا الجهاد الإسلامي.
يعطي كتاب "من جمر إلى جمر"، شريطاً كاملاً أو شبه كامل عن حياة صاحبها وتجاربه، فقد أبرز مثابرته وطول نفسه، وتفاؤله، وتركيزه على المبدأ الأخلاقي، والمسلك الثوري الصحيح. [يُراجع كتابات منير شفيق خلال عقد السبعينيات، "موضوعات من تجربة الثورة الفلسطينية"].
أخيرًا، إن كتاب "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، أولى أهتماماً للأحداث والوقائع، التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتحولات العربية والإقليمية والدولية، أكثر مما أولت لصاحب المذكرات نفسه.
*مؤرخ فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب المذكرات عرضة فلسطين فلسطين كاتب مذكرات عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحزب الشیوعی عبد القادر فی فلسطین منیر فی ة التی
إقرأ أيضاً:
لماذا تخشى إسرائيل أطفال غزة؟.. قراءة من صفحات التاريخ
لقد تعمد العدو الإسرائيلي في سلوكه العدواني المتغطرس استهداف أطفال غزة على نحو منهجي وواسع النطاق، إدراكًا منه لمدى أهمية العامل الديموغرافي في معادلة الصراع على الأرض الفلسطينية، فهو يعلم يقينيًا أن التفوق العددي يشكل تهديدًا وجوديًا على مشروعه الاستيطاني، ويخشى أن ينمو الجيل الفلسطيني القادم في بيئة من الصمود والمقاومة، مما يجعل مستقبله محفوفًا بخطر لا يمكن احتواؤه بالسلاح وحده.
وقد عبر السياسي الإسرائيلي "موشيه فيغلين" عن هذه العقيدة العدوانية بوضوح، حين صرح قائلًا "كل طفل رضيع في غزة هو عدو، وكل طفل تقدمون له الحليب الآن سيذبح أطفالكم بعد 15 عامًا، علينا احتلال غزة واستيطانها"، فضلًا عن تصريحات السياسي الإسرائيلي "يائير غولان" زعيم حزب الديموقراطيين التي اثارت جدلًا واسعًا داخل دولة الاحتلال وخارجها والتي اتهم فيها حكومة بلاده بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة قائلًا إن "إسرائيل تقتل الأطفال كهواية"، والحقيقة التي لا تقبل الجدال أن إسرائيل تتعمد استهداف وقتل الأطفال بلا رحمة أو شفقة كي لا يبقى من يحمل الراية، كما أنها تتعمد قتل الصحفيين لإسكات الصوت وحجب الصورة حتى لا يصل الخبر إلى ضمير العالم.
وفي تقرير صادم صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، كشفت الإحصاءات عن أرقام مفزعة، حيث وثق التقرير مقتل نحو 2100 رضيع فلسطيني ممن تقل أعمارهم عن عامين، وذلك ضمن نحو ما يقارب 16 ألف طفل قتلتهم قوات الاحتلال في قطاع غزة منذ بدء جريمة الإبادة الجماعية النكراء التي ارتكبتها إسرائيل في السابع من أكتوبر، وتؤكد هذه الأرقام أن الاستهداف الإسرائيلي لا يميز بين طفل ورضيع، في انتهاك جسيم وصارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، والذي يقرر حماية خاصة ومحددة للأطفال.
وتتمثل أهم القواعد واجبة التطبيق في هذا الشأن، فيما يلي:
معاملة الأطفال حديثي الولادة بنفس المعاملة المقررة للجرحى.
بالنسبة للأطفال تحت سن الخامسة عشرة ضرورة استقبالهم في المناطق الآمنة والمستشفيات.
إجلاء الأطفال مؤقتًا من أجل حمايتهم في حالة الأراضي المحاصرة.
ضرورة تعليم الأطفال.
ضرورة جمع شمل الأسر المشتتة نتيجة النزاع المسلح، وهو ما نصت عليه المواد 14، 17، 23، 25، 27 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والمواد 8، 70، 74ـ 78 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 والمواد 4، 6 من البروتوكول الثاني الإضافي لعام 1977".
ورغم وضوح ما سبق استقراره في جبين الإنسانية جمعاء، وفي القانون الدولي العرفي والاتفاقي فإن جيش الاحتلال لا يستمع لصوت العقل والضمير والقلب، وما زال يرتكب يوميًا أفعال تقشعر لها الأبدان ويهتز لها الوجدان، من ذلك ما وثقه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان يوم الثلاثاء الموافق 13 أغسطس 2024، حيث استشهد الرضيعان التوأمان آسر وأسيل محمد أبو القمصان، في قصف استهدف منزل عائلتهما في دير البلح وسط قطاع غزة، والمفارقة المروعَة أن والدهما قد خرج في تلك اللحظات ليستخرج شهادة ميلاد لطفليه حديثي الولادة ثم يعود إلى الشقة ليجدهما تحولا إلى جثتين هامدتين تحت الركام إلى جانب أفراد أسرته.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: لماذا تتعمد اسرائيل قتل الأطفال في غزة؟
الإجابة أعادت إلى ذهني مشهدًا خالدًا من فيلم أسد الصحراء ـ عمر المختار ـ حين التقط طفل صغير لا يتجاوز عمره سبع سنوات نظارة القائد الشهيد من التراب بعد إعدامه، هذا المشهد لا يمر مرور الكرام بل يحمل في طياته رسالة قوية أن إعدام عمر المختار لم ينهي القضية بل هذا الطفل سيكمل مسيرة النضال والكفاح والصمود، إنها رسالة قوية للأجيال القادمة على مواصلة مسار النضال وعدم الاستسلام ابدًا للظلم والاستبداد.
إسرائيل التي تقرأ التاريخ جيدًا تدرك أن الطفل الذي يلتقط النظارة اليوم، قد يكون من يقود المواجهة غدًا، فلذلك هي تخشاه قبل أن يكبر، لذلك لم يسلم مخرج فيلم أسد الصحراء ـ مصطفى العقاد ـ من يد الإرهاب الإسرائيلي، إذ طالته هو وابنته يد الغدر في تفجير إرهابي أودى بحياتهما في 9 نوفمبر 2005 ضمن ضحايا الانفجار الذي حصل في فندق غراند حياه بعمان، ولعل استعداده لإخراج فيلمين سينمائيين أحدهما عن فتح الأندلس والآخر عن صلاح الدين الأيوبي الذي سيوجه الأنظار نحو القدس سيمثل تهديدًا مباشرًا لأسرائيل، إن اغتيال المخرج السوري الكبير مصطفى العقاد يبرز تصميم الصهاينة على قتل كل أمل عربي، ويكفي أن من ضمن أشهر اعماله فيلم "الرسالة" الذي أسلم بسببه 20 ألف بعد عرضه في أمريكا.
وفي مراجعة سريعة للتاريخ ـ تعلم إسرائيل ـ أن أعظم التحولات قادها شباب آمنوا بقضايا أوطانهم منذ نعومة أظافرهم:
ففي عصر الدولة الحديثة في مصر الفرعونية وتحديدًا في بداية الأسرة الثامنة عشرة، حين توفى الملك سقنن رع في معركته ضد الهكسوس، لم يكن أحمس سوى طفل صغير، لم يتجاوز العاشرة من عمره، ومع ذلك ورث مع أخيه كامس شعلة المقاومة، وشهد بعينيه كيف يدفع الآباء أرواحهم فداء للوطن، وبحلول عام 1540 ق.م بلغ أحمس الثامنة عشرة تقريبًا وأصبح مؤهلًا لبدء الحرب ضد الهكسوس، وعندما اشتد عوده قاد حملة التحرير الكبرى وبعد قتال شرس استطاع أحمس أن يحتل مدينة أواريس عاصمة الهكسوس بقواته التي بلغت 48000 جندي، وتم القضاء على الهكسوس بين قتيل وأسير، مسجلًا أسمه كأول مؤسس للدولة المصرية الحديثة، ومن هنا تنبع خشية إسرائيل من أطفال غزة، ليس لأنهم خطرًا آنيًا، بل لأنهم كما كان أحمس قد يصبحون في الغد قادة مشروع تحرري يهدد بقاء الاحتلال ذاته.
ومن مصر الفرعونية إلى التاريخ الإسلامي يبرز نموذج أسامة بن زيد الذي ولاه النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيادة جيش يضم كبار الصحابة، رغم أنه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، واشتهر أسامة بن زيد بالشجاعة والقوة والجهاد في سبيل الله منذ صغره، ففي العاشرة من عمره علم بأن النبي يجهز للغزو، فأصر على أن يكون له دور، فذهب يعرض نفسه على النبي إلا أن الرسول رده لصغر سنه، فعاد باكيًا، وعاود الكرَة مرة ثانية وثالثة، فطلب منه النبي أن يطبب الجرحى من المقاتلين، ففرح فرحًا شديدًا.
وقبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره شارك أسامة في معركة مؤتة تحت إمرة أبيه زيد بن حارثة، وحين استُشهد أبوه ظل يقاتل تحت لواء جعفر بن أبي طالب، ثم تحت لواء عبد الله بن رواحة، ثم تحت لواء خالد بن الوليد، وعندما أمر النبي بتجهيز جيش لغزو الروم في سنة 11 هجرية اختار أسامة قائدًا للجيش وعمره حينها 18 عامًا وكان الجيش يضم كبار الصحابة، بمن فيهم أبو بكر وعمر، ولكن توفي النبي قبل أن يتحرك الجيش، وأصر الخليفة أبو بكر على أن يسيَر الجيش بقيادة أسامة رغم اعتراض البعض لصغر سنه، وحقق انتصارًا عظيمًا وعاد للمدينة حاملًا معه الغنائم الكثيرة حتى قيل: "إنه ما رٌئي جيش أسلم وأغنم من جيش أسامة بن زيد".. .. لذا فإن إسرائيل تدرك أن طفلًا كهذا قد يكون مشروع قائد مقاومة.
ومضت القرون وجاء زمن تشتت فيه المسلمين ووقعت القدس تحت قبضة الصليبيين، كان نجم الدين أيوب، والد القائد صلاح الدين الأيوبي، يؤمن بأنه لا يوجد مستحيل طالما هناك إرادة، وعندما تزوج امرأه صالحة عُرفت بحكمتها وقوة إيمانها، وفي ليلة ولادة ابنهما صلاح الدين، قال نجم الدين بثقة ويقين " سيكون لهذا الطفل شأن عظيم، وسنربيه ليكون من يُعيد للأمة عزتها ويحرر القدس"، وعندما كبر صلاح الدين على هذه المبادئ، تحقق حلم والده عندما قاد الأمة لتحرير القدس في معركة حطين عام 1187 م، وهزم الصليبيين هزيمة نكراء.
لذلك فإن إسرائيل تعلم المعطيات التاريخية السابقة وتتعمد محو وإبادة أطفال غزة، لأنها تنظر إليهم كقادة محتملين لحركات مقاومة في المستقبل، واستهدافهم ليس مجرد عمل عشوائي، بل يبدو أحيانًا وكأنه وسيلة تهدف إلى كسر الحلقة التاريخية التي تصنع القادة منذ الطفولة كما صنع التاريخ من أحمس وأسامة بن زيد وصلاح الدين الأيوبي رموزًا للقيادة المبكرة، هنا يصبح استهداف الطفولة في غزة جزءً من سياسة وقائية تتجاوز الميدان العسكري إلى مستوى استباق التاريخ.
أخيرًا نقولها بكل قوة ويقين وإيمان راسخ أنه كما جاءت حطين بعد مؤتة ستأتي غزة بعد حطين، وسيأتي طفل من رحم هذه الأمة يقودها إلى النصر من جديد، فلا تيأسوا، فالتاريخ لا ينسى، والقدس لا تنام، والدم لا يهزم.
اقرأ أيضاًجيش الاحتلال الإسرائيلي يعلن مقتل قيادي بحزب الله في غارة في بلدة عين بعال جنوبي لبنان
عاجل.. إسرائيل تستعد لشن هجوم على منشآت إيران النووية
الاحتلال الإسرائيلي يعتقل 20 فلسطينيا على الأقل من الضّفة الغربية