لجريدة عمان:
2025-12-13@12:34:33 GMT

جرح عميق اسمه «النقد»

تاريخ النشر: 9th, September 2023 GMT

فقر النقد وضحالته، وغيابه نسبيا عن روح الثقافة العربية المعاصرة وتفاعلاتها مع الداخل والخارج؛ يبدو أن كل ذلك وأكثر ما زال يتردد منذ عقود من قبيل الشكوى المكرورة التي تتبرم من الجمود والبرود المهيمنين على جو الكتابة والتفكير في العالم العربي، إلى الحد الذي يتردد فيه المرء قبل أن يضع كلمة واحدة في هذا الموضوع حتى لا تذهب الكلمة مع صدى التشكي والتذمر ولعن الواقع واتهامه، وتنتهي إلى التلاشي.

ولكن على الكتابة أن تكون أكثر جرأة في محاولة الاجتهاد والبحث عن الكلمة الملائمة لتسديد الجملُ العشوائية والإيفاء بالمعنى الناقص، وقبل ذلك وبعده يتعين على من يكتب عن غياب النقد أن يبقى مؤمنا -بما تيسر من الأمل- بجدوى كلمته مهما كانت متأخرة، وأن يتجاهل الخوف والتردد من احتمالية أن تسقط هذه المحاولة/ الكلمة ذاتها في دوامة التشكي التقليدية.

إن تطور النقد كأداة تفكير وتحليل عائد في معظم الأحيان إلى نوعية المشكلات التي تواجه المجتمع وحجمها. ومن هنا يمكننا أن نفهم الوصف الذي أطلقه علماء الاجتماع على القرن الثامن عشر في أوروبا بأنه «قرن النقد» وهو القرن الذي أسس للثقافة الغربية في صورتها التي نعرفها اليوم، ووضع التعريفات الأولى للقيم الديمقراطية بعد نضال تنويري طويل ضد استبداد اللاهوت بالعقل البشري وتوغل الكنيسة في المجتمع. لكن ممارسة النقد، حتى في صوره الاحتجاجية العفوية غير المنظمة، قد يحفز المناعة السلبية تجاه «التحول»، مناعة تغذيها السُّلطات والنظم المستفيدة من «الثابت» التي ستشرع في تمرير خطابها الدعائي لشيطنة النقد والتعامل معه كباعث على الفوضى وخلخلة النظام وعدم الاستقرار، في حين تثبتُ الخبرة الحضارية أن أي سلام حقيقي لن يُبنى إلا على قاعدة نقدية تتمثل سياسيا في القيم الديمقراطية، هذه القيم التي لا ينبغي لجهاز الدولة أن يتدخل إلا لحمايتها بوصفها منجزا عاما من منجزات الشعب بعد سنوات طويلة من الصراعات العنيفة، وغالبا بعد سنوات من الحرب في سبيل الاستقلال والسيادة.

تَتَلفت المجتمعات إلى سؤال النقد، أو السؤال عنه، مع كل إخفاقة تاريخية تمتحن استعداداتها وتربك ثوابتها، فتتصدى أسماء جريئة من النُّخب لنقد النظام الاجتماعي والسياسي السائد وتُحرض على إجراء مراجعات ذاتية جادة وحقيقية؛ ما يعني أن النقد لا يأتي إلا كردة فعل احتجاجية على ظواهر ومشكلات تعترض المجتمع. وهذا يذكرنا بما حدث بعد عام 1967، العام الذي مهَّد لانقلابات فكرية على مستويات وأصعدة عدة في العالم العربي، وذلك بعد الهزيمة الكبيرة التي مُني بها العرب في حرب يونيو أمام إسرائيل. فظهرت موجة نقدية جديدة في الكتابة العربية تعيد مراجعة المرحلة القومية وتقييم مآثرها وآثارها الفكرية على العقل العربي، محاولةً أن تطرح عددا من الأسئلة الجذرية على ثوابت الثقافة العربية وعلاقتها بالتراث والدين والسلطة، كما تبحث في التردد الفكري بين الثابت والمتحول وهيمنة النقل على العقل العربي والإسلامي. وهذا النقاش هو ما عاد ليتكرر بعد أحداث الربيع العربي.

ومثلما يضطلع مثقفون أفراد بمهمة النقد، فإن للنقد مؤسساته أيضا. ولا مبالغة إن قلنا إن النقد هو ما يجعل من البرلمان برلمانا، بحيث يمارس دوره الطبيعيَّ والشرعيَّ كأهم مؤسسة نقدية في الدولة. ولكن هناك أيضا نوعا آخر من المؤسسات التي تدعي الحياد والموضوعية، ولا يمكننا أن نتعامل معها كالمؤسسات التقليدية التي تتبع السلطة مباشرة، ونعني بهذه «المؤسسات المحايدة» مؤسسات كالإعلام والجامعات التي يصفها ميشيل فوكو بأنها «تتظاهر باستقلاليتها عن الدولة وبأنها لا تملك شيئا مشتركا مع السلطة السياسية» في حين أنها تمثل سلطة معرفية بالغة الأثر على وعينا، تحتكر الحقيقة وأدوات إنتاجها العلمية. هذه المؤسسات بالذات هي الأكثر قابلية للتحول إلى معسكرات لاعتقال الوعي والفكر إذا ما عُطلتْ أو عَطلت طبيعتها النقدية، الجناية التي ستفرغها من قيمتها العلمية والأخلاقية وتحولها من مؤسسات تنويرية إلى مؤسسات سلطوية. فالنقد من وجهة نظري هو القيمة الأعلى والأهم من بين القيم التي تُنميها القراءة، ولا يمكننا أن نتحدث عن تعليم مدرسي أو جامعي حقيقي لا يحترم النقد في مناهجه المقررة أو في النقاش الدائر في قاعة الدرس.

لا يشغلني في هذا المقام السؤال الأكاديمي الذي يُطرح على طلاب النقد الأدبي في قاعة المحاضرات عما إذا كان النقد عِلما قائما بحد ذاته أم لا. وإن كان لا بد من اقتراح إجابة على هذا السؤال فإنني أنتمي إلى الاعتقاد بأن النقد يمثِّل أرقى آليات التعامل مع المعرفة التي تطورها العلوم في حقول تجاربها المختلفة، أو كما يرى رولان بارت بأن النقد هو الذي ينشغل بمعالجة المعاني التي يُنتجها العلم. ويحتل النقد، وفقا لبارت، مكانا وسطا بين العلم والقراءة، وهو إن لم يكن علما بالمعنى المحدد فلا بدَّ أنه يمثل لغة المعالجة العلمية. وليست مهمة الناقد هي السعي لاستيضاح العمل الأدبي أو شرحه وإعادة كتابته في صيغة أبسط قابلة للفهم بل «إن علاقة النقد بالعمل هي علاقة المعنى بالشكل، ولا يستطيع الناقد أن يزعم أنه «يترجم» العمل، ولا يستطيع، خصوصا، أن يجعله أكثر وضوحا. وإن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن «يولّد» معنى يشتقه من الشكل»(1). ويمكن القول إن أهم عجز تتسم به الكتابات النقدية الرائجة اليوم هو عجزها عن هذا التوليد الخلاق للمعاني، المؤيدة أو المناهضة للنص الأصلي.

وكما أن النقد هو السمة التي تعطي للصحافة والأدب الدور والمعنى معا، فإن النقد الشجاع والعارف معا هو ما يجعل من الكاتب كاتبا، لا مجرد «صانع محتوى». إلا أن شجاعة النقد تفرض على الكاتب التخفّف من سطوة الحسابات المعقدة لشبكة علاقاته بالمؤسسات والأفراد حتى لا تتحول إلى أدوات ضغط، ومن أجل ذلك فإن إدوارد سعيد يقترح على المثقف في محاضرة «قول الحقيقة للسلطة» أن يتخلى عن لعب دور المحترف ليمثل موقف الهاوي كأسلوب من أساليب الحفاظ على استقلاله الفكري النسبي. ولكننا في جميع الأحوال، ينبغي أن نسلم بحقيقة إنسانية عن النقد: ينبغي أن نعترف بأنه يجرحنا، وقد يهين ثقتنا العالية بالذات، مهما كان صادقا ومهذبا وشفافا... ولكنه جرح لا بدَّ منه!

المراجع:

1) نقد وحقيقة، رولان بارت، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري.

سالم الرحبي شاعر وكاتب

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

النقد الغائب.. والنقاء المهدد!

في زمن تطغى عليه الضوضاء، وتتصارع فيه الصور والكلمات بلا هوادة، تكاد تسمع صرخة حادة تبحث عن أذن تسمع: أين هم النقاد؟ ليس أولئك الذين يوزعون الشهادات الرخيصة، بل حماة الذائقة، وحراس الجودة، وضمير المجتمع الحي في شتى المجالات.

لم يعد النقد رفاهية أو ترفاً فكرياً، بل تحول إلى ضرورة حيوية، هو الميزان الذي يمنع انهيار الجودة، والنور الذي يكشف زيف الرديء عن قيمة الأصيل..ومع ذلك فنحن نواجه غياباً مريباً لسلطته، وتراجعاً صارخاً لدوره، في لحظة تاريخية نحتاج فيها إلى صوته أكثر من أي وقت مضى.

لماذا غاب الناقد؟
لأن العالم اليوم يركض خلف السرعة: إنتاج سريع، واستهلاك أسرع، و"إعجابات" تقاس بالثواني..في هذا الزخم، لا مكان للقراءة الهادئة، ولا للتفكير المتعمق، ولا للكلمة الصادقة التي تبحث عن الحقيقة قبل أن تبحث عن الإطراء..لقد ضاقت المساحة حول الناقد، وتحولت كلمته في نظر الكثيرين من دعامة إصلاح إلى تهديد شخصي، فآثروا خطاب المديح الآمن الذي يربت على الأكتاف ولا يبني أفقاً.

النتيجة: غياب النقاء
وبطبيعة الحال مع غياب النقد، يغيب "النقاء" – نقاء التقييم، وصدق الموقف، وصفاء الرؤية..في الفن والإعلام، في التعليم والسياسة، في الاقتصاد والإدارة، يختلط الحابل بالنابل، ويتساوى الجهد العميق مع الادعاء السطحي..حيث يصبح الاحتفاء الحقيقي – المبني على معايير صلبة – هو الخطوة الأولى لأي نهضة تُرجى.

أين نماذجنا التي نفتقدها؟
لطالما كانت الحياة الثقافية العربية تزخر بمن كانوا ضميراً يقظاً..كان طه حسين ناقداً صارم العين، جريء السؤال، قبل أن يكون عميداً..وكان العقاد صاحب القلم الذي يحلل بعمق ولا يجامل..وظهرت أمينة رشيد كنموذج للنقد المنفتح المتوازن..ومارس يوسف إدريس نقداً حياً ينبض بتجربة المبدع وقدرة القاصّ على رصد التفاصيل. .لقد احترموا عقل القارئ، واستفزوا أسئلته، ولم يخشوا سوى التزييف والزيف.

هل من أمل في العودة؟
نعم.. العودة ممكنة.. لكنها تحتاج إلى إدراك جماعي أن النقد الحقيقي ليس هدماً، بل هو بناء..هو محاولة لإقامة ميزان عادل، وفتح باب للحوار الجاد، الناقد الحقيقي لا يكتب ليسقط أحداً ،بل ليرفع السقف، وليضيء الطريق.

عندما نعيد الثقة في الحوار، ونحترم العقل كقيمة عليا، ويعود الاحترام للكلمة الموضوعية، سيعود الناقد إلى مكانه الطبيعي: حارساً للنقاء، وشرطاً لأي تميز، وضرورة لأي حياة فكرية وثقافية حقيقية تستحق أن تحتفى.

مقالات مشابهة

  • تعلن محكمة جنوب غرب الأمانة أن الأخ عبدالسلام محمد الآنسي تقدم بطلب تصحيح اسمه
  • تعلن محكمة المحويت أن الأخ عبدالله عبدالله العوامي تقدم بطلب تصحيح اسمه
  • تعلن محكمة الخبت أن الأخ عماد محفوظ حسن الصغير تقدم بطلب تصحيح اسمه
  • تعلن محكمة جنوب غرب الأمانة أن الأخ سيف الله اليتيم تقدم بطلب تصحيح اسمه
  • تعلن محكمة جنوب غرب الأمانة بأن الأخ/ عبدالسلام الانسي تقدم إليها بطلب تصحيح اسمه
  • النقد الغائب.. والنقاء المهدد!
  • عمدة فاس المغربية: انهيار البنايات يترك المدينة في صدمة وحزن عميق
  • هاري ستايلز يخوض معركة قانونية بملايين الدولارات لوقف استغلال اسمه تجاريًا
  • السعودية.. الداخلية تُعلن إعدام مصري تعزيرًا وتكشف عن اسمه وما أُدين به
  • أسرة عبدالحليم حافظ تطالب بمنع عرض حفل يحمل اسمه في الكويت