في كتاب جديد عن علم الكلام.. جدل الكوارث بين الفلسفة وعلوم الدين
تاريخ النشر: 14th, September 2023 GMT
يفصل عالم الدين والفيلسوف العثماني (التركي الكردي) بديع الزمان النورسي (1878-1960) عن الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694-1778) نحو قرنين من الزمان، وأكثر من 4 آلاف كيلومتر هي المسافة من تبليسي (شرق الأناضول) إلى باريس، إلا أن الفكر البشري لا يعرف هذه المسافات والفروق، خاصة حين يتفاعل مع أحداث متشابهة كالزلازل التي هي حديث الناس في العالم الآن، بعد كوارث طبيعية مثل زلازل تركيا وسوريا والمغرب وفيضانات ليبيا المدمرة.
كتب فولتير "لا أعرف ما هو أنفع لإكمال الذوق من المقابلة بين أكابر العباقرة الذين تناولوا عين الموضوعات". فماذا قال النورسي عن زلزال 1939 المدمر الذي ضرب مدينة أرزنجان التركية وقتل فيها نحو 40 ألفا، وهدم آلافًا كثيرة من المنازل؟ وماذا قال فولتير عن زلزال لشبونة الذي ضربها سنة 1755 وقتل عشرات الآلاف، وتشققت معه الأرض، وتهدمت المباني؟
هذا أحد موضوعات كتاب جديد صدر أخيرًا عن دار المحرِّر بالقاهرة للأكاديمي المصري نبيل فولي الأستاذ بجامعة السلطان محمد الفاتح بإسطنبول تحت عنوان "علم الكلام.. قضايا وشخصيات".
وقد اختار فولي أن يعرض لقضايا تكاد تكون تقليدية في مجال الدراسات الكلامية، إلا أن أسلوب الكتابة جاء حداثيًا بامتياز حيث البحث عن الخلفيات والدوافع والأهداف التي تؤثر بحركة الأفكار واتجاهاتها مما يجعلنا نعتبره بحق كتابا تطبيقيًا في أحد أحدث العلوم، وهو علم تاريخ الأفكار الذي بدأ الحديث عنه الأميركي آرثر لافجوي (عام 1962) صاحب كتاب "سلسلة الوجود العظمى" (The Great Chain Of Being) ثم تطور هذا الفرع المعرفي بعده تطورًا كبيرًا.
في الفصل الذي عنونّ به هذه السطور، قدم الكاتب نموذجا مقارنا لمواقف المفكرين من أحداث الكون الكارثية؛ بغية إبراز المؤثرات النفسية والثقافية والظروف الحضارية العامة التي تصنع هذه المواقف، واختار شخصيتين تنتميان إلى بيئتين ثقافيتين مختلفتين ليدرس موقفهما الفكري من الزلازل حيث يكثر حديث الناس دائما مع وقوعها، في محاولة لفهم هذه الصدمة المؤلمة التي تقع للناس من وقت ومكان إلى آخر.
هاجم فولتير القائلين إن زلزال لشبونة جاء عقوبة إلهية للناس على آثامهم، وصاغ ذلك شعرًا منه قوله:
"هل ستقول: إن الله انتقم منهم، وإن موتهم هو ثمن على جرائمهم؟!
أيُّ جُرم وذنب اقترفه الطفل الذي يرقد على ثدي أمه يسيل منه الدم؟!
وهل انغمست لشبونة في الفسق أكثر من لندن أو باريس اللتين تعيشان في سعادة؟!
الحقيقة أن لشبونة محطمة، والناس يرقصون في باريس"!
ورفض كذلك قول من رأى أن هذا جزء من نظام الكون الكامل الذي لا يمكن أن يكون هناك أكمل منه، وقال فيهم:
"تقولون: كل شيء على ما يرام، وكل شيء ضروري!
هل تعتقد أن هذا الكون بدون هذه الهاوية التي ابتلعت لشبونة سيكون أسوأ حالا؟!".
و"من قال للحزانى من سكان هذه الشواطئ المقفرة: لقد سقطتم ومتم بسلام، لقد دُمرت بيوتكم من أجل خير العالم؟!".
وكتب فولتير قصيدة مطولة ورواية بعنوان بطلها "كنديد" للرد على أصحاب مذهب التفاؤل الذي قال به الفيلسوف الألماني لايبنتز، وعلى كل التسويغات التي بدت له غير معقولة في تفسير وقوع الزلازل.
وذهب إلى أننا يجب أن نقبل العالم على ما هو عليه كما خلقه الله بهداياه العظيمة وكوارثه المرعبة، وأن نتعاون في التقليل من الآثار السلبية لها. وهو مذهب عملي ظهر مبكرًا، وتعزز بقوة فيما بعد، وإن اكتسى كسوة إلحادية شبه صريحة في رواية "الطاعون" لألبير كامو.
الخير والشر عند فولتير والنورسيمن المفارقات أن يختار فولتير لحكاية الموقف الصوفي من الكوارث -كما تصوره هو- صوفيا متفلسفا عثمانيا، فقد اجتمع أبطال رواية "كنديد" الذين أصابتهم جميعًا سلسلة كبيرة من النكبات والكوارث العظمى "وكان يوجد في الجوار درويش مشهور معدود خير فيلسوف في تركيا، ويذهبون لمشاورته، ويتناول بنغلوس الكلام، ويقول له: يا أستاذ، أتينا لنرجو منك أن تقول لنا سبب خلق حيوان عجيب كالإنسان؟ ويقول الدرويش له: ما دخلك في الأمر؟ أَمِنْ شأنك هذا؟ ويقول كنديد: لكن يا أبت المحترم يوجد شر هائل في الدنيا. ويقول الدرويش: وما أهمية وجود خير أو شر؟ إذا ما أرسل صاحب العظمة سفينة إلى مصر، فهل يبالي بكون الفئران في السفينة مستريحة أم لا؟ ويقول بنغلوس: إذن، ما يجب أن يصنع؟ ويقول الدرويش: أن تقطع لسانك عن الكلام. ويقول بنغلوس: أطمع أن أباحثك قليلا في المعلولات والعلل، وفي أحسن ما يمكن من العوالم، وفي أصل الشر، وفي طبيعة الروح، وفي النظام المقدَّر. فلما سمع الدرويش هذا الكلام أغلق الباب بعنف في وجوههم!"
وأما النورسي، فقد خاض معركة ضد الملحدين الذين قدموا لزلزال أرزنجان تحليلا يثبت العبثية في أحداث الوجود، وأن القول بأي نظرية إيمانية لبيان شيء من الحكمة في الزلازل والكوارث الكونية هو من العبث الذي ينبغي تجنبه! وكذلك الذين نفوا أن يكون خلف ما جرى صانع حكيم، معتقدين أن ما حدث ما هو إلا أفعال الطبيعة بنفسها، إذ تتفق عوامل وظروف طبيعية خالصة تؤدي إلى مثل هذه النتائج بمعزل عن أي أفكار أو اعتقادات دينية.
وأكد أنه لا يمكن أن يبتلي الله عباده بهذا المصاب الفادح دون أن يكون وراء ذلك حكمة ربانية بليغة، ودون أن تكون لهذا الفقد الكبير قيمة، ويقول "كيف يمكن أن تكون تلك الحادثة المليئة بالموت بلا قصد ولا غاية كما نشر ملحد، ظنًا منه أنها مجرد مصادفة، مرتكبًا بذلك خطأ فاحشًا ومقترفًا ظلمًا قبيحًا، إذ صير جميع ما فقده المصابون من أموال وأرواح هباء منثورًا قاذفًا بهم في يأس أليم. والحال أن مثل هذه الحوادث تدخر دائمًا أموال أهل الإيمان، محوِّلة إياها بأمر الحكيم الرحيم إلى صدقة لهم، وهي كفارة لذنوب ناشئة من كفران النعم".
كما نفى النورسي وجود علاقة طردية بين الكوارث وأعمال العباد، فكما لا تكون المصيبة حين تصيب الخلق علامةَ سخط مطلقًا، فإنها ليست جزاء للعباد مطلقًا، لذا قد يترك الله الكافر المجرم الظالم، ويصيب المؤمن المطيع أو العاصي أو الكافر الأقل طغيانًا، إذ لا علاقة طردية بين هذه السنن الكونية وبين صلاح الخلق وفسادهم، ولو كان الأمر بعكس ذلك للجأ الناس إلى ما يحقق لهم النجاة إيمانًا كان أو كفرًا.
وأكد أن الأسباب ينبغي ألا تستر عنا وجود القدرة المبدعة خلف هذا النظام، والدليل على ذلك أن الأسباب البشرية ليس في إمكانها أن تقوم بصناعة شجرة واحدة من هذه المليارات الكثيرة التي تملأ الأرض، لذا يجب أن نرد النظام كله إلى الخالق المبدع، وإلى الحكيم الذي حقق هذا التنسيق في الوجود.
ويصرح النورسي بأن الزلزال يكون إيقاظا للغافلين من أهل الإيمان، وفي عصاة المؤمنين الذين أصابتهم الزلزلة قال كذلك "إن هناك أمارات كثيرة على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، إذ وقوعها في قارس الشتاء وفي ظلمة الليل وفي شدة البرد، وخاصة في هذه البلاد التي لا يُحتَرَم فيها شهر رمضان، واستمرارها الناشئ عن عدم اتعاظ الناس منها، ولإيقاظ الغافلين من رقدتهم بخفة، وأمثالها من الأمارات تدل على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، وأنها تتوجه إليهم، وتزلزلهم بالذات لتدفعهم إلى إقامة الصلاة والدعاء والتضرع إليه سبحانه".
وبالنسبة لغير المؤمن، فإن الكوارث تحقق نفس الهدف السابق، وهي تنبيه الناس من غفلتهم "صفَع رب العالمين البشرية ببلايا وآفات عامة مرعبة كالحرب العالمية، والزلازل، والسيول العارمة، والرياح الهُوج، والصواعق المحرقة، والطوفانات المدمرة. كل ذلك إيقاظًا لهذا الإنسان السادر في غفلته، وسوقًا له ليتخلى عن غروره وطغيانه الرهيب، ولتعريفه بربه الجليل الذي يُعرِض عنه، فأظهر سبحانه حكمته وقدرته وعدالته وقيوميته وإرادته وحاكميته إظهارًا جليًا".
وفي رؤية فلسفية للكوارث الكونية، رأى النورسي أن الشدائد والابتلاءات تمثل نوعا من التجدد الكوني، بعيدًا عن الاضطراد الذي لا يخرقه شيء، ويقول "الوجود خير محض، والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل إلى الوجود، وكون العدم أساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص. ولما كان العدم شرًا محضًا، فالحالات التي تنجرّ إلى العدم، أو يُشم منها العدم تتضمن الشر أيضًا، لذا فالحياة التي هي أسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن أحوال مختلفة، وتتصفى بدخولها أوضاعًا متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة".
الوظيفة الفكرية والاجتماعية للكلامفي فصل آخر تناول الكتاب الوظيفة الفكرية والاجتماعية للتعليقات العقدية التي بثها الإمام الترمذي في ثنايا كتابه "جامع السنن الكبير" المشهور بسنن الترمذي، وقد تأكد فيه الاتصال المباشر والقوي بين كتب العلم وواقع الحياة الفكرية والسلوكية، فإضافة إلى تأليف الترمذي للسنن لكي يعبر بالنصوص الحديثية عن أحكام الشريعة في قضايا الفقه والأخلاق، فقد اهتمت التعليقات التي أردفها ببعض هذه المرويات ببيان موقف السلف من بعض القضايا التي كانت ولا تزال محل خلاف بين الناس، ومن هنا تأتي وظيفتها الفكرية والاجتماعية.
ورصدًا لمعركة فكرية أخرى قديمة، جال بنا المؤلف بالقرن الثامن الهجري في قضية لها صلة مباشرة بواقعنا الثقافي الحاضر، فلدينا الآن خلاف حاد لا يخفى على أحد بين المدرستين الأشعرية والسلفية تطفح به الكتب والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى المنتديات والمساجد.
وتمثل دراسة "الأصول والدوافع الثقافية والاجتماعية لاعتراضات السبكي على الذهبي في تراجمه لمتكلمي الأشاعرة" نموذجًا قديما لهذا الخلاف نفسه تقريبًا، فالسبكي (تاج الدين) أخذ على شيخه الذهبي (تلميذ ابن تيمية) انحيازه للحنابلة على حساب الأشاعرة الذين كانوا يمثلون أكبر تكتل علمي في الدولة حينئذ، ضمن ظروف ثقافية واجتماعية جعلت الموضوع الواحد يخضع لتفسيرات فكرية متعارضة.
وفي رصده لمعركة فكرية أخرى، بدلا من أن يتناول المؤلف -باعتباره باحثًا متخصصًا في المنطق الصوري وعلم الكلام- الخلاف الشهير بين الإمام أحمد بن حنبل وصديقه الإمام الحسين الكرابيسي حول الحكم على لفظ القارئ للقرآن، هل هو مخلوق أم لا، تناولاً تقليديًا في نطاق معالجة الفكرة المجردة، درس الموضوع ضمن ما أطلق عليه "مآلات الرأي". فالإمامان لم يختلف رأيهما حقيقة في هذه المسألة، بل كلاهما يرى أن صوت القارئ بالقرآن مخلوق ولا شك، ولكن أحمد راعى شيئا لم يتنبه إليه صاحبه، وهو أن الخوض في هذه المسألة قد يتطور "ويؤول" إلى الخوض في آراء باطلة كالقول بخلق القرآن نفسه، لذا يلزم الكف عن الخوض فيها، ولو بقول الحق!
وقد حصل بالفعل ما خشي منه الإمام أحمد، خاصة من بعض أتباعه من الحنابلة أنفسهم، وهو من عجيب حالات تطور الأفكار، فقد فهموا أن رفض أحمد لقول الكرابيسي بأن قراءتنا وتلفظنا بالقرآن مخلوق يعني أنه يقول إن قراءتنا للقرآن غير مخلوقة! وقد سجل الشيخ ابن تيمية هذه الفكرة مؤكدًا أن "أهل خراسان (الذين أخطؤوا في فهم هذه المسألة) لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخص به".
وقد حصلت بين أحمد والكرابيسي قطيعة بعد هذه المعركة الفكرية، وأدى نقد أحمد لصاحبه القديم إلى هِجران الناس له ولروايته، حتى حاول ابن حجر بعد قرون أن ينصفه، ويقدّر إمكاناته العلمية العظيمة.
وجاء هذا المولود الفكري الجديد في 237 صفحة، بتقديم ومراجعة الكاتب والمفكر المصري أسامة القفاش، وضم 6 فصول، تناولت أفكارا شتى لشخصيات تتنوع مكانًا وزمانًا، مثل: أحمد بن حنبل، الكرابيسي، البخاري، الترمذي، ابن فورك، الجويني، الذهبي، السبكي، فولتير، محمد إقبال، النورسي، حسن الشافعي، وغيرهم.
ومع شعور القارئ بالانتقال الزمني المفاجئ من فصل إلى آخر، إلا أن التركيز على تاريخ الفكرة والنطاقات التي تتحرك فيها قد مثل جامعًا مهمًا لهذا الشتات.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
كتاب اسمه حيفا
ما إن تفتح كتاب «الكلمة التي صارت مدينة» حتى تصعد إلى وجهك، مثل ينبوع مرح، حيفا الفلسطينية كاملةً بوضوحها الأنيق، وجمالها الطازج غير المنهوب. حرّر جوني منصور كامل حيفا من ميناء وجبل، مستعيدا كامل ذاكرتها، وأزمانها قبل أن تدهمها رؤى الغزاة المسيانية. لا شيء يبقى خارج التحرير في كتاب جوني معلم التاريخ المخلص والناشط الآن في جمع ذاكرات القرى الفلسطينية المهجّرة. استعاد المعلم هدوء حيفا وسلامها، مستدرجا ضحكات الحيفاويين والحيفاويات على شواطئ المتوسط، واسترخاءهم الصباحي بملابس النوم على أرائك وأسرّة، واستدعى بالصور والحكايات شرفات بيوت المدينة، ومشافيها وعائلاتها وعمال مينائها وبحارتها وفناراتها وصحفها وأدباءها وأعيادها وسفنها، ومسارحها وسكة حديدها وعرباتها ومدارسها وبرجها.
لا يقاوم قارئ الكتاب الرغبة في الصراخ (هذا إذا كان من النوع الذي يقاوم البكاء)، وهو يشاهد ما كان من حيفا، وما بقي منها، كل ما نراه في كتاب حيفا المحرّرة، يقتل ويغيظ، لكنه أيضا يحيي ويُنهض. كيف سيتحمل الفلسطيني رؤية الفارق، وهو يشاهد مرقصا مُقاما على أنقاض مدرسة، أو مشفى للأمراض النفسية، منتصبا على بقايا مبنى لجريدة شهيرة؟ كيف سيتحمل قلب الفلسطيني رؤية ساحة الحناطير، وقد صارت ساحة باريس؟ كيف سيفهم ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ أليس موتا صغيرا ذلك الفارق؟
من جهة أخرى، تبدو جليةً حقيقة ضرورة كتابة حيفا، وباقي مدن فلسطين صورا وقصصا، خصوصا للأجيال التي تأتي الآن، والتي ستأتي مستقبلا، في مناخٍ منقوعٍ في طين الهزيمة حتى العنق.
هذا الكتاب صاروخ هادئ وسيل من التظاهرات الصامتة، مدافع من ذاكرة نار تتأبى على الانطفاء. ليس للفلسطيني المقتول قليلا والمحاصر إلا من أن يستعيد ويتذكّر ويحلم، فالموت الكامل هو غياب الحلم، لا تموتوا بشكل كامل أيها الفلسطينيون، تزوّجوا من الحلم، وأنجبوا كثيرين من أطفال الأمل. هزيمة الجغرافيا حادثة قتل، لكن هزيمة الذاكرة مجزرة، كل هذا يقوله كتاب: (حيفا الكلمة التي صارت مدينة).
الكتاب الضخم صادر في حيفا عام 2015 على نفقة الباحث، بذل فيه جهدا خارقا للوصول إلى قاع ذاكرة حيفا، بمساندة توثيقيةٍ من أصدقائه ومعارفه وأبناء مدينته، مثل حنا أبو حنا ورياض فاخوري وعباس شبلاق وغيرهم... قصة حيفا هي قصة مدن فلسطين كلها، فهذه المدينة التي يصفها جوني منصور بالجنة هي شقيقة يافا وعكا اللتين يصفهما أبناؤها بأراضي الله الشهيّة.
كم أحلم بكتابٍ لكل مدينةٍ في فلسطين مثل هذا، كتب تنهض فلسطين من رمادها، تنهضها بالصور والقصص، تنتشل وجهها القديم من البئر الذي ألقي فيه، ليس هذا مستحيلا، هذا متاح وسهل، يحتاج فقط إلى روح من العزيمة، وجهد كثير، ويحتاج إلى فلسطين داخلنا.
لا أفوّت فرصةً لحضور محاضرات جوني منصور في رام الله عن تاريخ المكان الفلسطيني، المشطور بالصورة والحكاية.
من يستمع إلى جوني، وهو يحاضر عن حيفا التي خطفوها، وكسروا معالمها، لا يشعر بالخوف عليها، ثمّة كائن اسمه الأمل يجلس قربه وهو يتحدّث، ثمّة عزيمة على حماية روح المكان، ثمّة مظلوم مصمم على إزالة الظلم، ثمّة شعب حي يقدم نموذجا أعلى في البقاء والصمود، على الرغم من كل محاولات التهويد والطمس.
جوني منصور أحد مثقفي فلسطينيي الداخل لم يثبتوا فلسطينيتهم، فهذه الهوية لا تثبت بل تعاش، قرّروا أن يكونوا شعلاتٍ دائمة الاشتعال لإنارة الطريق وحفظ الصوت.
قرّر الحيفاويون أن «ساحة باريس» ليست سوى فكرة لا معنى لها في يومياتهم، وتغيير اسم شارع أو ساحة لا يغيّر ما في قلوب الناس، ما زالت الحناطير تسرح وتمرح في ذاكرة المكان، لا قدرةَ لأحدٍ على لجمها.
جوني منصور
جوني منصور (1960-) مؤرخ فلسطيني من فلسطيني 48، ولد في حيفا، يعمل محاضرا في قسم دراسات التاريخ في كلية الأكاديمية في بيت بيرل، خبير في الشرق الأوسط الحديث، وله اهتمام بتاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، والقضية الفلسطينية، ومدن فلسطينية وخصوصًا حيفا.