الخرطوم لا تستأهل حمم الحقد الإثني الطبقي المصبوب عليها بوحشية وشراسة شهورا . المدينة ذات القلب الرحب ظلت مفتوحة الأزرع والصدر منذ تكوينها للصاعدين من الشمال ، الهابطين من الصعيد ، النازلين من الجبال والزاحفين من الغابة والصحراء على حد سواء .لكنها وقت المحنة الفجائية لم تجد من يدافع عن ميادينها الخضراء،شبكة جسورها وأسواقها القديمة وأبراجها الحديثة .
*****
سحابة حزن داكنة مشرّبة بالتشاؤم ازاء مستقبل الوطن برمته. فالشعب يكابد الإنزلاق إلى هوة انقسام حاد بل تبعثر لم يتعرض له ربما منذ عهد الخليفة التعايشي.الدولة بكل أجهزتها وجيشها كأنما تمارس عملية انتحار لارجعة منها.جذر الأزمة لا يتجسد فقط في التنافر القبلي .إنها معضلة اجتماعية كثيفة التعقيد. لعل محورها غياب التربيةالوطنية .فالتنشئة غير المعافاة داخل البيت حيث يهمن الأب،استسلام الوالد لشيخ القبيلة، فخضوع الشيخ لزعيم الطائفة حيث سطوة الإمام تطال الحزب فالدولة. هكذا لمّا غابت مادة التربية الوطنية عن المنهج الدراسي ضاعت فرص الممارسة الديمقراطية عن الأجهزة السياسية الشعبية والرسمية.
*****
التنشئة الخاطئة ساهمت إلى حد بعيد في إهدار مبالغ طائلة على آلة الحرب لو كُرّست للتعليم لأصلحت حال أجيال المتورطين في مستنقع الدم. يندرج في هذا الهدر كلفة بناء حركات التمرد بما في ذلك ماكينة الجنجويد وما تحدثه من دمار في الخرطوم وتعطيل حركة الدولة. بل وتهديد وحدة الشعب والوطن. فبعد الجوع والفقر أمست البلاد يومئ اليها على خارطة العالم في عداد بؤر الانهيار السياسي. كل المحاولات الهادفة إلى إكساء غزو الجنجويد غلالة فكرية لن تحجب حقيقة أطماع رجل في الاحتفاظ بغنائمه من الثروة والسلطة. لايجدي تلك المحاولات انعاش روح القبلية والجهوية مثلما هي محاولات تصوير محمد حمدان دلقو بجون غرنغ الصحراء. فهذا رجل بلا رؤى أوغايات وطنية. فالزعيم الجنوبي الراحل ظل مؤمنا بمعاناة كل الوطن من التهميش مع فهم خاطئ للمواطنة ناجم عن فقر في التنشئة الوطنية. القيادة العسكرية العاجزة عن حماية ممتلكات الدولة و الشعب لا مهرب أمامها من المحاكمة بموجب تهم عدة أدناها الرسوب في التربية الوطنية ،الإستراتيجية والتكتيك العسكري.
*****
في (أوراق عبد الرحمن علي طه في التعليم والسياسة) نقرأ الجهود المبذولة في معهد بخت الرضا بغية (إعداد المواطن الصادق في وطنيته) عبر الجمعيات المدرسية حيث ممارسة الحكم الذاتي عبر نظام ديمقراطي والرحلات .ذلك منهج وضعه مكي عباس ومستر غريفث. جمال محمد احمد والهادي أبو بكر بين من تولى الإشراف على تطبيقه . بخت الرضا ابتكرت مشروع التربية على خشبة المسرح المدرسي . تلك خشبة برق عليها نجوم من طراز الفكي عبد الرحمن .تلك محاولات (أثارت اهتمام رجال التربية في إنجلترا) كما في مصر وفق شهادة معلم الأجيال.في مؤتمر بجامعة كولمبيا في العام١٩٤٩استعرض طه المسؤولية الملقاة على عاتق العملية التربوية من أجل تنشئة المواطن القادر على المشاركة في بناء التجربة الديمقراطية. التدريب الأخلاقي حاز على مساحة مقدرة في هذا السياق (من منطلق مساعدة التعليم الناس في التوصل إلى آراء بشأن المسائل الوطنية في المناهج.)ثمة شريحة من طلاب المرحلة المتوسطة تلقوا دروسا في التربية الوطنية. لكن هذا المنهج الموجز اختفى في ظروف وأسباب مبهمة
*****
هذه المحاولات الرائدة الواعية اصطدمت بالنظام المايوي اذ لم يتم فقط مصادرة فرص الممارسة الديمقراطية. بل غيّب وزير التربية مجالات الإبداع في بخت الرضا مؤثرا عملية النقل إذ استيراد موديل التجربة المصرية بدلا عن عن المراكمة على البناء السوداني .مشاركة المواطن في العمل العام اتخذ طابعا مغايرا تحت مظلة الحزب الواحد .تنشئة الجيل الجديد استبغ بالطابع العسكري إبان عهد مايو حتى عندما يتم الكلام عن التربية الوطنية داخل المدارس.مغامرة -جريمة-وزير التربية جرت تحت حمى الشغف بالأنموذج المصري دون الإسنعانة بمشورة رجال التربية السودانيين وبينهم فطاحلة.
*****
في عهد الإنقاذ تم تحطيم السلم التعليمي المصري المستنسخ في العهد المايوي و إخراج كل المناهج الدراسية بل العملية التربوية برمتها من فضاء الوطن وإدخالها في كستبانة الأيداوجيا الإسلامية.في سياق سياسة السوق الحر تعرضت العملية كذلك إلى الخصخصة مما أدى إلى إفساد جوهر التربية وتشويه مظهرها.كذلك ساهمت سياسة النظام في التخلص من الكفاءات الوطنية المتمرسة .كل تلك العناصر أنتجت أجيال مفرّغة من حس الانتماء الوطني مشبّعة بنهم اللهث وراء امتيازات السلطة وأنصبة الثروة.ثمة جيل يافع دفع فاتورة غسل الدماغ الأيدلوجي من روحه ودمه في محرقة أكذوبة الجهاد!
*****
ضحى ثورة ديسمبر البازخة بدأت عملية مراجعة العملية التربوية بغية اخراجها من جلبابها الأيدلوجي.المسؤولون المكلفون بالمهمة تبنوا فلسفة حداثية محورها إنقاذ زهنية الناشئة من الإغراق في الحشو والحفظ إلى رحاب قدح العقل والتفكير.هذا هو محور ارتكاز فلسفة بخت الرضا حينما استهلت مسار التغيير الاخلاقي باخراج المدرس من إطار الموسوعة الموثقة إلى زميل البحث وفق تعبير عبد الرحمن علي طه.يا ترى كم من الزمن والجهد الممكن أهدرنا لنعود إلى حيث كان الرواد؟!المجموعة المكلّفة بتغيير تخريب الإنقاذ العملية التربوية لم تستوعب الظرف الزماني كما ينبغي لإنجاز مهمتها فمنحت خصومها فرص الإنقضاض عليها بوسائل الإنفاذ ذاتها. كل حصيلة جهدها انحصر في درس في منهج الدين !الأمر بدا و كأننا استبدلنا دكتاتورية النظام بدكتاتورية الأفراد.رئيس الوزراء آثر كعادته الجنوح إلى السلامة فجمّد عملية التغيير بأسرها.ما علمنا في سياق (زوبعة الخلق ولوحة مايكل انجلو) جهد المكلفين بالإصلاح في شأن التربية الوطنية!
*****
من أجل إعادة بناء سودان جديد لابد من إعادة تنشئة الأجيال الفتية والقادمة على أسس وطنية ،اجتماعية وإنسانية قويمة راسخة. بما أن المدرسة تمثّل إحدى الأُطر الأساسية في بناء المواطن فلابد من وضع منهج للتربية الوطنية يضيء وعيه مع صعوده في السلم الدراسي بالتعايش السلمي ،الحرية والعدالة، احترام المجتمع والنظام العام. تلك هي أركان بناء نظام وطني ديمقراطي. ذلك منهج جعل إعلاء الشأن الوطني مكوناً تلقائيا في الشخصية السودانية فثقافة متوارثة بدلاً عن تمثل كسبًا ذاتيا في سياق التثقيف الفردي. الوضع الحالي ساهم في افراز قيادات حائرة اكثر مما هي فاعلة في محنتنا الراهنة. نعم لدينا مدارس جامعات لاحصر لها لكنها مؤسسات تعليم شكلانية تدور في فلك التعليم بجناحي التلقين والاستظهار غير مكترسة بشؤون الحياة والوطن. كلها تقمع التلميذ قبل تعليمه.
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العملیة التربویة التربیة الوطنیة
إقرأ أيضاً:
اليوم.. العرض المسرحي العملية 007 على مسرح قصر ثقافة بورسعيد
كتب- محمد شاكر:
يستضيف مسرح قصر ثقافة بورسعيد في التاسعة من مساء اليوم الخميس، العرض المسرحي "العملية 007"، وذلك ضمن عروض شرائح وقوميات الموسم المسرحي الذي تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، في إطار برامج وزارة الثقافة.
العرض لفرقة بورسعيد القومية المسرحية، تأليف محمد الصواف، وإخراج محمد حسن، ويقدم تحت إشراف الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف، نائب رئيس الهيئة، ويناقش قضايا اجتماعية وإنسانية من خلال حبكة درامية تدور داخل مستشفى للأمراض العقلية، حيث ينفذ مدير المستشفى خطة مشبوهة بالتعاون مع جهات خارجية تستهدف تدمير القدرات العقلية للمرضى، بينما تتصدى الطبيبة الشابة "هدى" لهذا المخطط، في محاولة لإنقاذ المرضى الذين يمثلون ضحايا لمظالم مجتمعية متنوعة.
ويتناول العرض قضايا الانتماء ومقاومة الفساد، ويؤكد أهمية التمسك بالقيم والمبادئ في مواجهة الضغوط والمؤامرات.
العرض إنتاج الإدارة العامة للمسرح برئاسة سمر الوزير، التابعة للإدارة المركزية للشئون الفنية برئاسة الفنان أحمد الشافعي، ويستمر حتى مساء الجمعة الموافق 23 مايو، بالتعاون مع إقليم القناة وسيناء الثقافي بإدارة د. شعيب خلف، وفرع ثقافة بورسعيد بإدارة وسام العزوني.
تصميم وتدريب الاستعراضات محمد عشري، الأشعار محمد عبد القادر ومحمد الصواف، وألحان رجب الشاذلي، توزيع موسيقي لمحمد يحيى.
الديكور عاطف زرمبة، الملابس لعلا عبد اللطيف، الإضاءة لمحمد المصري ومهيمن هشام، والتنفيذ الموسيقي لمعتز مصطفى. مخرج منفذ سارة فؤاد ومحمد عبد السلام، مساعدا إخراج أحمد عباس وسيد سليم.
اقرأ أيضا:
الرئاسة: الرئيس السيسي يتفقد "جواً" المشروع الجديد لمدينة مستقبل مصر
فرص عمل في الأردن.. الشروط ورابط التقديم
ننشر النص الكامل لتوزيع الدوائر الانتخابية في جميع محافظات الجمهورية
عودة البرودة وانخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تعلن حالة الطقس
أول تعليق لأمين عام "مستقبل وطن" على تعديلات قانونَي انتخابات البرلمان
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
العرض المسرحي العملية 007 مسرح قصر ثقافة بورسعيد عروض شرائح وقوميات الموسم المسرحيتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الخبر التالى: الصحفيين تعلن تأجيل تشكيل هيئة المكتب واللجان لـ 26 مايوإعلان
إعلان
اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك